المدنيون في مرمى النيران.. تقرير حقوقي يكشف حجم الانتهاكات الروسية في سوريا
المدنيون في مرمى النيران.. تقرير حقوقي يكشف حجم الانتهاكات الروسية في سوريا
تُشكل الذكرى العاشرة للتدخل العسكري الروسي في سوريا محطة لإعادة فحص السجل التوثيقي للانتهاكات الواسعة والمنهجية التي ارتكبت منذ 30 سبتمبر 2015 وحتى سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، وقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان نمطاً واضحاً من الانتهاكات التي غيرت مسار الصراع جذرياً وانحازت بالكامل إلى النظام السوري ضد مطالب الانتفاضة الشعبية بالحرية والعدالة والانتقال السياسي.
وتظهر الوثائق الموثقة، وفق ما ذكرته الشبكة الحقوقية السورية على موقعها الإلكتروني، أن القوات الروسية نفذت عمليات استهداف متعمدة للمدنيين تتجاوز الأعمال القتالية المشروعة، فقد أظهرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان وفاة 6993 مدنياً نتيجة العمليات العسكرية، بينهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال، ما يعكس استهداف مناطق مأهولة بشكل متعمد ويثير إشكالات جوهرية حول الالتزام بمبادئ التمييز والتناسب في القانون الدولي الإنساني.
وشهدت السنة الأولى من التدخل كثافة عالية في العمليات، إذ قتل 3564 مدنياً، بينهم 1029 طفلاً و404 نساء، بما يعكس سياسة متعمدة لتعظيم الأثر على المدنيين لتحقيق أهداف استراتيجية، وتجاوزت الانتهاكات القتل المباشر لتشمل استهداف البنية التحتية المدنية، حيث تم توثيق 1262 هجوماً على مرافق مدنية حيوية، منها 224 مدرسة و217 منشأة طبية و61 سوقاً، ما يشير إلى استراتيجية منهجية لتقويض الحياة المدنية.
وأبرزت التقارير أن إدلب كانت الأكثر تضرراً، تليها حلب ثم حماة، كما قتل 70 من العاملين في الرعاية الصحية و24 من العاملين في الإعلام، ما يعكس استهدافاً ممنهجاً للشهود وتعطيل الخدمات الأساسية للسكان، وسُجلت 363 مجزرة، بينها 172 مجزرة في السنة الأولى، تمثل ذروة في الأعمال الوحشية وتشير إلى اعتماد الهجمات غير المتناسبة أو العشوائية، واستخدام الذخائر العنقودية وغيرها من الأسلحة المحظورة دولياً زاد من جسامة الانتهاكات واستفزاز المعايير الدولية الراسخة.
الإطار القانوني للمساءلة
تشكل الانتهاكات الروسية خروقات جسيمة للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ويرقى الكثير منها إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وبموجب القانون الدولي، تمتد المسؤولية إلى القادة العسكريين والسياسيين الذين خططوا أو أمروا أو أشرفوا على تلك العمليات، وفق مبدأ مسؤولية القيادة.
يشمل الإطار القانوني للعدالة مبدأ مزدوجاً: المسؤولية الجنائية الفردية ومسؤولية الدولة عن الأفعال غير المشروعة دولياً، ويبرز الدور الروسي المزدوج كطرف عسكري مباشر وداعم سياسي، لا سيما عبر استخدام حق النقض في مجلس الأمن 18 مرة لحماية نظام الأسد من المساءلة الدولية، ويشكل تعطيل آليات العدالة عبر هذه الوسائل انتهاكاً إضافياً لواجب ضمان المساءلة عن الخروقات الجسيمة.
حق الضحايا في الجبر والتعويض
يشكل توفير تعويض عادل للضحايا المدنيين عن الخسائر البشرية والمادية والمعنوية مبدأ أساسياً في القانون الدولي، ويجب أن يتجاوز برنامج التعويض المدفوعات الفردية ليشمل إعادة بناء البنى التحتية الحيوية والخدمات الأساسية، بما في ذلك المدارس والمرافق الطبية والأسواق المتضررة، ويشمل الجبر أيضاً ضمان عدم تكرار الانتهاكات، من خلال تغييرات جوهرية في الإجراءات العسكرية والسياسات العملياتية لضمان حماية المدنيين مستقبلاً.
أي تعاون مستقبلي بين سوريا وروسيا يجب أن يكون مبنياً على العدالة الانتقالية واحترام حقوق الضحايا، ويشمل مساءلة كاملة عن الانتهاكات السابقة، ويجب أن تتضمن هذه العملية آليات لتقصي الحقائق وتوثيق الانتهاكات، وملاحقات جنائية للمسؤولين عن أفظع الجرائم، وبرامج جبر لمعالجة الأضرار الفردية والجماعية، وإصلاحات مؤسسية تحول دون تكرار الانتهاكات.
تمثل أعمال التوثيق التي قامت بها الشبكة السورية لحقوق الإنسان على مدى أربعة عشر عاماً، على الرغم من حملات التشهير والهجمات الإلكترونية الروسية، ركيزة أساسية لإثبات الانتهاكات، إذ يوفر الحفاظ على الأدلة وبناء قواعد بيانات شاملة أساساً لا يمكن تجاوزه في أي عملية سلام مشروعة، كما يشكل ضمان حماية المدنيين والبنية التحتية إحدى الركائز الأساسية لترتيب العلاقات المستقبلية، بما في ذلك وضع أطر تشريعية وإجرائية وطنية ودولية لمنع أي تدخل عسكري مستقبلي يهدد السكان المدنيين.
ردود الفعل الحقوقية
أثارت الانتهاكات المستمرة ردود فعل قوية من المنظمات الحقوقية الدولية، منها منظمة العفو الدولية و"هيومن رايتس ووتش"، اللتان دعتا إلى مساءلة المسؤولين العسكريين والسياسيين، كما طالب مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان والأمم المتحدة بفتح تحقيقات مستقلة لضمان المساءلة والعدالة للضحايا، مؤكدين ضرورة التمييز بين المدنيين والأهداف العسكرية، والامتناع عن أي هجمات غير متناسبة.
على الصعيد المحلي، دعت الشبكة السورية لحقوق الإنسان المجتمع الدولي إلى الضغط على الأطراف المعنية لتفعيل برامج جبر فعالة، وإعادة بناء البنية التحتية الحيوية، بما في ذلك المدارس والمستشفيات، وتعزيز حماية المدنيين ضمن الأطر القانونية الدولية.
تداعيات إنسانية
أسفرت الانتهاكات الروسية عن تهجير الملايين داخلياً وخارجياً، مع ارتفاع معدلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي والخدمات الأساسية في المناطق المتضررة، ويشير التقرير إلى أن أكثر من 13 مليون سوري بحاجة إلى المساعدات الإنسانية، بينهم نحو 6 ملايين نازح داخلياً، كما يعاني آلاف الأطفال من فقدان التعليم أو توقفه بسبب تدمير المدارس، ويواجه العاملون في القطاع الصحي صعوبات كبيرة في تقديم الخدمات بسبب استهداف المستشفيات ومقتل الطواقم الطبية.
وجاء التدخل العسكري الروسي في سوريا دعماً لنظام الأسد بعد سنوات من الانتفاضة الشعبية المطالبة بالحرية والعدالة منذ عام 2011، وقد أدى الدعم العسكري الروسي إلى تحولات كبيرة في موازين القوى على الأرض، ما سمح للنظام بالاستمرار رغم الخسائر البشرية والمادية الهائلة، كما أعاد تشكيل الجغرافيا السياسية السورية والمشهد الإنساني، مع بقاء مناطق واسعة تحت التهديد المستمر للأمن المدني.










