في ظل اتهامات بالتعذيب والقتل.. ماذا يعني انسحاب روسيا من آلية منع التعذيب الأوروبية؟

في ظل اتهامات بالتعذيب والقتل.. ماذا يعني انسحاب روسيا من آلية منع التعذيب الأوروبية؟
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوقع القانون

وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قانوناً ينهي مشاركة روسيا في الاتفاقية الأوروبية لمنع التعذيب، في خطوة شكلت تتويجاً لمسار انفصال موسكو عن عدد من آليات المجلس الأوروبي منذ اندلاع الحرب على أوكرانيا، وأثار القرار الصادر يوم الاثنين تحذيرات واسعة من منظمات حقوقية وأممية، بالتزامن مع تقارير دولية رصدت أنماط تعذيب وإساءة معاملة واسعة ومميتة بحق محتجزين أوكرانيين ومدنيين في مرافق احتجاز داخل روسيا وفي الأراضي المحتلة. 

المبرر الرسمي لحكومة موسكو كما نقلته وسائل إعلام روسية وبيانات رسمية يتضمن اتهام مجلس أوروبا بـ"التمييز" ورفض تعيين ممثل روسي في هيئات الاتفاقية، واعتبار الآلية الخارجية مدخلاً لتدخل سياسي في شؤون السيادة الداخلية، ويأتي انسحاب موسكو بعد طردها من مجلس أوروبا في مارس 2022، لكن البقاء رسمياً طرفاً في اتفاقية منع التعذيب كان يُعتبر آخر قناة رقابية ميدانية مستقلة على ظروف الاحتجاز داخل البلاد، وبتوقيع القانون أنهى هذه القناة رسمياً، وفق "رويترز".

ما الذي وثقته البعثات الدولية؟

مهمة خبراء أُجريت بغرض فحص معاملة أسرى الحرب الأوكرانيين خلصت إلى وجود "انتهاكات واسعة ومنهجية" تتضمن تعرّض محتجزين للتعذيب والقتل، وتوثيق أكثر من 200 موقع احتجاز موزعة عبر أراضي روسيا والأراضي المحتلة، وأشار التقرير إلى 222 موقع احتجاز مُحدّد سبق التعرف إليها، بينها مواقع على الأراضي المحتلة ومواقع داخل 54 إقليماً روسيا، كما وجّه التقرير نداءات للتحقيق في ممارسات قد ترتقي إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ومنظمات أممية أعدت تقارير تعتمد مقابلات مع مئات من المحتجزين السابقين في روسيا، ووجدت مؤشرات مقلقة من التعذيب المتكرر ووسائل تعذيب خطيرة، ونسبت حالات وفاة إلى سوء المعاملة أو الإهمال الطبي داخل السجون، وأكد تقرير أممي حديث تسجيل عشرات حالات وفاة مرتبطة بالتعذيب أو بأسباب ناشئة عن ظروف الاعتقال، وأورد نماذج تتضمن صدمات كهربائية، واختناقات، وضربات مبرحة، واغتصاب قسري وتنكيلًا يهدف إلى الترويض أو الانتقام. 

قضية الصحفية الأوكرانية فيكتوريا روشينا صارت رمزاً لخطورة الادعاءات فجُثتها التي أعيدت إلى أوكرانيا ضمن دفعة كبيرة من الجثث أثارت صدمة بعد ثبوت آثار تعذيب وعدم وجود أعضاء داخلية، وهي نتائج وصفها خبراء الطب الشرعي بأنها دلائل على محاولة طمس أسباب الوفاة، واعتبرت التحقيقات الصحفية والمنظمات الحقوقية وفاة روشينا مؤشراً يعزز دعوات فتح تحقيقات دولية مستقلة في ملابسات احتجاز ووفاة معتقلين أوكرانيين، وفق صحيفة "الغارديان" البريطانية.

التداعيات الإنسانية المباشرة

انسحاب موسكو من آلية التفتيش الأوروبية سيترك آلاف المحتجزين بلا رقابة مستقلة قادرة على زيارة السجون بلا إشعار، وهو ما يزيد خطر الاختفاء القسري، استمرار التعذيب، وغياب التوثيق الطبي والقانوني للأدلة، وتواجه أسر المعتقلين ضياع قنوات الاتصال والمعلومات حول أحبائها، وتصبح إمكانات إجراء تحقيقات شفافة ونزيهة ضعيفة ما لم تتدخل آليات أخرى، وعلى أرض الواقع، الأرقام الميدانية التي وردت في تقارير الأمم المتحدة والمنظمات تُشير إلى الآلاف من حالات الاحتجاز منذ 2014 والتي تضاعفت بعد 2022، ومئات الحالات التي تم توثيق بعضها كحالات تعذيب أو وفيات.

المجتمع الدولي من دول ومنظمات أدان الخطوة واعتبرها مسعى لإجهاض آليات الشفافية والمساءلة. منظمات مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش دعت إلى الحفاظ على إمكانيات التحقيق وتوسيع صلاحيات آليات أممية للتحقق، وطالبت بفتح تحقيقات مستقلة ومحاكمات للمتورطين، من جانب آخر، دعا خبراء أمميون إلى استغلال آليات الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر والآليات القضائية الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية لتجميع الأدلة وحماية الشهود وتقديم المشتبه فيهم إلى العدالة، كذلك دعت دول مشاركة في آليات دولية إلى توسيع التعاون مع منظمات المجتمع المدني لتوثيق الانتهاكات. 

انسحاب روسيا من المعاهدة الأوروبية لا يرفع عنها التزاماتها بموجب القانون الدولي العام، ولا يلغي التزاماتها بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب التي ما تزال روسيا طرفاً فيها، كما يظل القانون الدولي الإنساني سارياً في سياق النزاع المسلح، ويقع على الدول واجب التحقيق في ادعاءات الجرائم ومقاضاة مرتكبيها أو تسليمهم للجهات المختصة، ومع ذلك، عملياً، تؤدي عزلة آليات تفتيشية قابلة للدخول غير المعلن إلى تآكل فرص الوصول إلى الأدلة المادية والشهادات الموثوقة، ما يصعّب إجراءات المحاسبة والإنصاف.

خيارات متاحة للمجتمع الدولي

في غياب آلية المجلس الأوروبي، تبرز بدائل: تكثيف عمل بعثات التحقيق الأممية، وتفعيل آليات المراقبة التابعة للأمم المتحدة ولصندوقي التحقيق المعنيين بجرائم الحرب، وتوسيع تفويضات البعثات المتخصصة مثل آليات الـMoscow MechanismوODIHR، وتعزيز دور اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الوصول إلى المعتقلين، وعلى المستوى القضائي، يبقى توثيق الأدلة خطوة أساسية لتمكين ملاحقات لاحقة أمام محاكم وطنية أو دولية، وفي المشهد الإنساني، يجب تعزيز حماية أسر المعتقلين وضمان وصول المنظمات الإنسانية والطبية إلى المحتجزين. 

انسحاب روسيا من معاهدة منع التعذيب هو قرار له أكثر من بُعد رمزي؛ هو عملياً تقليص لآليات الحماية المباشرة للمحتجزين ورفع لطبقة من الشفافية، في زمن تُوثّق فيه تقارير دولية أنماط تعذيب وموت داخل مرافق الاحتجاز، يصبح السؤال واضحاً: من سيضمن غداً أن من يقبع خلف القضبان لا يواجه العنف بلا مرآة دولية تكشف الظلم؟ الرد العملي يتطلب حشد آليات بديلة للحماية والتحقيق، وضغطاً دبلوماسياً موصولاً، لكن الأهم إنسانياً هو التذكير بأن وراء كل رقم ملفاً إنسانياً وعائلة تنتظر الحقيقة والعدالة. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية