وسط أزمة هجرة لا تهدأ.. سفينة أطباء بلا حدود الجديدة تنقذ 68 مهاجراً في أولى مهامها
وسط أزمة هجرة لا تهدأ.. سفينة أطباء بلا حدود الجديدة تنقذ 68 مهاجراً في أولى مهامها
تشهد مياه البحر الأبيض المتوسط واحدة من أكثر المآسي الإنسانية استمراراً في التاريخ المعاصر، حيث تتحول كل رحلة هجرة إلى اختبار قاسٍ للحياة، وتمتزج فيها أحلام العابرين بالخوف والمخاطرة والانهيار النفسي، وفي هذا البحر المشبع بقصص الفقدان والجثث الطافية والصرخات المبتورة، ظهرت سفينة الإنقاذ الجديدة التابعة لمنظمة أطباء بلا حدود، المعروفة باسم أويفون، كنافذة أمل وسط هذا المشهد القاتم.
بعد أقل من ثلاثة أيام على وصولها منطقة البحث والإنقاذ، سجلت السفينة أول نجاحاتها بإنقاذ 68 مهاجراً في عمليتين منفصلتين، في حدث يؤكد الحاجة الماسة لوجود هذه الفرق الإنسانية التي تحاول مواجهة مأساة متفاقمة عاماً بعد عام، وفق "مهاجر نيوز".
مشهد أكثر قسوة
منذ اللحظة التي تلقّت فيها أويفون نداء الاستغاثة الأول، كانت صورة المشهد أكثر قسوة مما يمكن تصوره، قارب مطاطي هزيل يتأرجح على سطح البحر، وعلى متنه سبع نساء واثنا عشر طفلاً، تسعة منهم غير مصحوبين بأي قريب، كان الليل قد أسدل ستاره، والموج يتلاطم كأنه يبتلع محاولات النجاة واحدة تلو الأخرى، وعندما وصلت طواقم السفينة إلى المكان، وجدوا ركاب القارب في حالة صدمة كاملة، وجوه شاحبة، وأجساد مرهقة، وعيون لا تزال تبحث عن أي علامة تبشر بالنجاة.
أحد الناجين، وهو شاب في العشرينيات من عمره، أمسك بيد أحد أفراد الطاقم وقال بصوت مرتجف إنهم كانوا قد فقدوا كل أمل، وإنه لو تأخرت السفينة قليلاً لما بقي منهم أحد، كان هذا المشهد بداية سلسلة من الدقائق الحاسمة التي لم يكن فيها الوقت وحده هو العدو، بل أيضاً الخوف القادر على أن يشل قدرة الإنسان على النجاة.
التشبث بالحياة
ولم تمر سوى ثمانٍ وأربعين ساعة حتى تلقت أويفون نداء جديداً، هذه المرة كان القارب الذي يحمل المهاجرين قد أمضى ثلاثة أيام كاملة وسط البحر دون طعام أو ماء كافيين، وكان الركاب يعانون من جفاف وتعب شديدين، القارب المطاطي كان مكتظاً بشكل خطير، لدرجة أن خطوة واحدة خاطئة من أي راكب كانت قادرة على قلب القارب بمن فيه، ومع ذلك، كان هؤلاء المهاجرون متشبثين بالحياة بشكل لافت، أغلبهم من السودان، وقد حملوا معهم قصص حرب طاحنة لا تزال تبتلع المدن والقرى وتترك خلفها آلاف النازحين.
أحد الأطفال الذين تم انتشالهم كان قد فقد والديه خلال الحرب، ويبدو أن العائلة الوحيدة المتبقية له كانت تلك المجموعة من الغرباء الذين تجمعوا حوله في القارب محاولين تهدئته.
بعد تنفيذ العمليتين، كان لا بد من إيجاد ميناء لاستقبال الناجين، وكما في معظم عمليات الإنقاذ، كانت وجهة السفينة هي جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، هذه الجزيرة الصغيرة أصبحت خلال السنوات الماضية بوابة العبور الأولى لآلاف المهاجرين، شوارعها الضيقة، ومرافئها المزدحمة، ومراكز استقبالها الممتلئة، تحولت جميعها إلى مرآة تعكس حجم أزمة الهجرة التي تعيشها المنطقة، ومع ذلك، لا يزال استقبال الناجين خطوة ضرورية لمنحهم الرعاية الطبية والنفسية الأولية، وتوفير الحد الأدنى من الأمان بعد رحلة كانت أقرب إلى الموت منها إلى الحياة.
رسالة إنسانية
تقول منظمة أطباء بلا حدود إن هذه العمليات تحمل معنى إضافياً لأنها تأتي بعد عام من توقف السفينة السابقة، جيو بارنتس، عن الخدمة تحت ضغط القيود التي فرضتها السلطات الإيطالية، حيث كان توقف تلك السفينة بمثابة خسارة كبيرة للجهود الإنسانية، خصوصاً في بحر يحتاج كل يد تمتد لإنقاذ الغرقى، لذلك، فإن إطلاق أويفون، التي تعني أمل الجزيرة باللغة النرويجية، يمثل رسالة واضحة مفادها أن المنظمة لن تتخلى عن دورها مهما تعقدت الظروف، وأن غياب سفينة لا يجب أن يعني غياب الأمل.
لكن الأمل في البحر الأبيض المتوسط ليس ثابتاً، إذ أن أعداد الضحايا تستمر في الارتفاع، والطرق لا تزال تعج بالمهاجرين الفارين من الظلم والاضطهاد والأزمات الاقتصادية والحروب والنزاعات المسلحة.
مقبرة المهاجرين
ووفقاً للمنظمة الدولية للهجرة، فقد أكثر من ألف شخص حياتهم هذا العام في وسط البحر المتوسط وحده، بينما تشير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن أكثر من 1700 شخص لقوا حتفهم أو اختفوا على طرق الهجرة البحرية منذ بداية العام، أما الأرقام التراكمية منذ عام 2014 فتظهر أن نحو ثلاثة وثلاثين ألف شخص ماتوا أو فُقدوا في هذه المياه التي باتت تعرف بأنها أكبر مقبرة مفتوحة في العالم.
هذا الواقع يثير تساؤلات عديدة حول الأسباب التي تدفع الناس إلى المجازفة بأرواحهم في قوارب متهالكة، وبين الأمواج التي لا ترحم.
وتوضح شهادات الناجين أن الأسباب متعددة ومتداخلة، تبدأ من الحروب الطويلة كما في السودان، ولا تنتهي عند الفقر وانتشار الجريمة المنظمة في دول الساحل وليبيا وشرق إفريقيا، ويمثل التغير المناخي سبباً جديداً يزداد تأثيره كل عام، إذ يدفع كثيرين إلى النزوح بسبب الجفاف وفقدان مصادر الرزق، وفي ظل غياب المسارات القانونية الآمنة للهجرة، تجد آلاف العائلات نفسها مضطرة للجوء إلى المهربين الذين يتاجرون بالأحلام وينتهكون أبسط حقوق الإنسان.
القيود الأوروبية
ولم تكن القيود الأوروبية بعيدة عن تعقيد هذا المشهد، فقد فرضت عدة دول، وفي مقدمتها إيطاليا، قوانين وإجراءات تجعل عمل السفن الإنسانية أكثر صعوبة. من بين هذه الإجراءات تحديد موانئ إنزال بعيدة جداً عن مناطق الإنقاذ، وإلزام السفن بالعودة إلى الميناء بعد كل عملية إنقاذ مما يحد من إمكانية تنفيذ عمليات متتالية في الوقت نفسه، وترى المنظمات الإنسانية أن هذه الإجراءات لا تقلل من أعداد المغادرين بل تزيد من أعداد الغرقى، وأنها تمثل سياسة ردع غير معلنة موجهة ضد المهاجرين أولاً، وضد سفن الإنقاذ ثانياً.
ومع كل هذه التحديات، تبدو أويفون مصرة على مواصلة عملها. فالسفينة الجديدة، الأصغر حجماً والأكثر مرونة من سابقتها، صممت لتتلاءم مع واقع البحر المتغير ومع الحاجات الإنسانية التي تتنامى كل يوم، ويؤكد العاملون على متنها أن بعض اللحظات التي يعيشونها تبقى محفورة في الذاكرة إلى الأبد. فالإنقاذ في البحر ليس مجرد عملية تقنية، بل اختبارا عميقا للقيم الإنسانية، ولقدرة البشر على تقديم يد العون حين يكون الموت على بعد لحظة واحدة.
في نهاية هذه المهام الأولى، تظهر أويفون كخيط رفيع يربط بين الحياة والموت في بحر لا يرحم، وبين موجة وأخرى، تبقى السفينة شاهداً على حكايات بشرية لم تجد طريقاً آخر سوى هذا البحر المفتوح، وفي حين تتواصل أزمات الهجرة وتتفاقم النزاعات، يبدو أن السفن الإنسانية ستظل آخر ما تبقى من مظاهر الرحمة في عالم تتراجع فيه القيم بسرعة، وفي هذا السياق، تبدو عمليات الإنقاذ التي نفذتها أويفون ليست مجرد حدث عابر، بل إعلاناً عن مرحلة جديدة من المثابرة، وعن رسالة تقول إن الإنسانية لا تزال قادرة على الوقوف في وجه المأساة، حتى ولو كانت وحيدة في عرض البحر.











