استغلال العمال المهاجرين.. كيف تحوّلت الحقول إلى ساحة عبودية حديثة في البرتغال؟
استغلال العمال المهاجرين.. كيف تحوّلت الحقول إلى ساحة عبودية حديثة في البرتغال؟
تعيش البرتغال منذ أيام على وقع واحدة من أكبر قضايا العبودية الحديثة واستغلال العمال المهاجرين التي تشهدها البلاد منذ سنوات، بعد تفكيك شبكة إجرامية واسعة تشبه في أسلوبها تنظيمات المافيا، واستغلت مئات العمال غير المسجلين الذين جرى استقدامهم من دول عدة، خصوصا من جنوب آسيا.
أفادت "شبكة مهاجر نيوز" الاربعاء بأن القضية انفجرت مع حملة أمنية ضخمة، واعتقال سبعة عشر شخصا بينهم أحد عشر عنصرا من قوات الأمن، وهو ما أعاد إحياء النقاش حول أوضاع الهجرة، وواقع العمالة الأجنبية، ومدى تغلغل الفساد داخل المؤسسات المسؤولة عن حماية القانون.
اللائحة التي كشفتها الشرطة القضائية في البرتغال تعود لشهور طويلة من التحقيقات التي تتبعت نشاط الشبكة، والتي سارت في دوائر معقدة بين شركات وهمية، وإقامات سرية، وصفقات مشبوهة، وممارسات استغلالية فرضت على المهاجرين أن يعملوا بصمت خوفا من الترحيل أو الانتقام، لكن حجم الشبكة واتساع دائرة المتورطين فيها، ولا سيما من أفراد الأمن، جعل القضية تتصدر المشهد الأوروبي بوصفها جرس إنذار حقيقيا حول هشاشة العمالة المهاجرة في دول الاتحاد الأوروبي.
شبكة تستغل الخوف
بحسب ما أعلنت الشرطة، كانت الشبكة تعمل وفق نموذج متماسك يعتمد على استقطاب مهاجرين غير نظاميين وتوزيعهم على أعمال زراعية شاقة، مقابل أجور زهيدة تقل عن الحد الأدنى، مع فرض رسوم باهظة عليهم مقابل السكن والطعام، وبسبب افتقار هؤلاء العمال لأي حماية قانونية، كان قبولهم بالأمر الواقع الخيار الوحيد المتاح للبقاء.
النيابة العامة أكدت أن المتهمين استغلوا حالة الضعف التي يعيشها العمال غير النظاميين، وفرضوا عليهم شروط عمل مهينة، امتدت من ساعات طويلة تحت الشمس إلى تهديدات مستمرة بالعنف، بعض شهادات الضحايا تحدثت عن ضرب، وعن مراقبة دائمة، وعن منع العمال من التحرك خارج أماكن العمل والسكن دون إذن.
وتشير تقارير إعلامية في البرتغال إلى أن كثيرين من هؤلاء كانوا يعيشون في مبانٍ مهجورة أو مساكن مكتظة لا تستوفي الحد الأدنى من شروط الصحة والسلامة، ما جعل حياتهم اليومية أقرب إلى الاعتقال غير المعلن منه إلى حياة عمل طبيعية.
تورط أمنيين يثير صدمة
النقطة الأكثر إثارة في القضية كانت احتجاز أحد عشر من أفراد قوات الأمن، بينهم عشرة من الدرك وضابط شرطة، بتهمة تسهيل عمل الشبكة، هذا التطور أثار صدمة كبيرة لدى الرأي العام البرتغالي، إذ يعد خرقا مباشرا لثقة المواطنين في المؤسسات المكلفة بحماية القانون.
التحقيقات ترجح أن هؤلاء المتورطين سهلوا عملية تنقل العمال بين المناطق الزراعية، وتغاضوا عن تجاوزات خطيرة مقابل رشى مالية، وتأتي هذه الاتهامات في وقت تشهد فيه البرتغال نقاشات واسعة حول ضرورة إصلاح أجهزة الأمن وتعزيز الرقابة الداخلية عليها.
وتشير تقارير إعلامية إلى أن منطقة بيجا في جنوب البرتغال كانت مركز نشاط الشبكة، وهي منطقة تشتهر بزراعة التوت وغيره من المحاصيل التي تتطلب يدا عاملة كبيرة، وبحسب شهادة نشرتها شبكة سي إن إن البرتغالية، كان العمال يستيقظون مع شروق الشمس ويعملون حتى الغروب تحت حراسة دوريات للدرك، دون عقود أو ضمانات أو حقوق.
ويؤكد خبراء أن اعتماد القطاع الزراعي في البرتغال على اليد العاملة المهاجرة جعل من هذه المناطق أرضا خصبة لظهور مثل هذه الشبكات، خصوصا في ظل تفاوت كبير بين الحاجة إلى العمال وبين الإجراءات القانونية التي تعيق تسوية أوضاع الكثيرين منهم.
قصص بشرية خلف الأرقام
ورغم أن التقارير الرسمية تركز على الأرقام والاعتقالات، فإن خلف كل عامل قصة تستحق أن تُروى، كثيرون منهم تركوا أوطانهم بحثا عن فرصة عمل تحفظ لهم الحد الأدنى من الكرامة، لكنهم وجدوا أنفسهم ضحايا تجارة بشر حديثة تقايض الجهد بالأذى والخوف.
بعض هؤلاء دفعوا مبالغ مالية كبيرة للهجرة، واضطروا للاقتراض من أسرهم، قبل أن يصطدموا بواقع مرير جعلهم غير قادرين حتى على التواصل بحرية مع عائلاتهم، وتقول إحدى المنظمات الحقوقية إن عددا من العمال كانوا يعيشون في خوف دائم من التعرض للاعتقال أو الترحيل، وهو ما يجعلهم أكثر عرضة لقبول أي شروط عمل مهما كانت قاسية.
وتأتي هذه القضية في وقت تحاول فيه الحكومة البرتغالية تمرير نسخة جديدة من إصلاح قانون الهجرة، بهدف تنظيم أوضاع العمال الأجانب وتسهيل اندماجهم في سوق العمل، لكن الكشف عن شبكة بحجم هذه القضية أعاد طرح سؤال جوهري حول قدرة المؤسسات البرتغالية على حماية المهاجرين، ومنع استغلالهم، وضمان حقوقهم الأساسية.
ويحذّر مختصون من أن ترك هذه القضايا دون معالجة جذرية يمكن أن يجعل من البرتغال نقطة جذب للشبكات الإجرامية التي تستغل حاجة المهاجرين، وتنسج حولهم حلقات من السيطرة والخوف.
وفي الوقت ذاته، تخشى المنظمات الحقوقية من أن تستغل بعض الأصوات اليمينية القضية لتأجيج الخطاب المعادي للمهاجرين، رغم أن الضحايا أنفسهم هم المهاجرون وليسوا الجناة، لذلك تطالب هذه المنظمات بفصل النقاش القانوني عن الخطاب السياسي، وضمان حماية الذين يعيشون في أوضاع هشّة من الوقوع فريسة للعصابات.
ثغرات تشريعية وتحديات اجتماعية
تعاني البرتغال منذ سنوات من نقص في العمالة الزراعية، ما جعل المزارع تعتمد على عمالة مهاجرة بشكل كبير، لكن القوانين الحالية، وإن كانت توفر مسارات قانونية للعمل، فإن إجراءاتها البيروقراطية المعقدة تدفع الكثيرين إلى العمل خارج الإطار الرسمي، وهذا الفراغ القانوني كان المجال الذي اقتحمت منه الشبكة الإجرامية.
وفي ظل التضخم وصعوبة المعيشة، بات بعض المهاجرين مضطرين للقبول بأي عمل، ما يجعلهم عرضة للاستغلال، وهو ما دفع منظمات اجتماعية عدة للمطالبة بإصلاح شامل يضمن للعمال غير النظاميين طريقا واضحا وسريعا لتسوية أوضاعهم.
ومن المتوقع أن تستمر التحقيقات في القضية لأشهر، باعتبار أن الانتهاكات تمتد لسنوات وأن عدد الضحايا كبير، وتؤكد النيابة العامة أنها ستعمل على كشف جميع المتورطين، بمن فيهم الذين تلقوا رشى أو تستروا على الجرائم أو شاركوا في عمليات التهديد والعنف.
السلطات من جانبها تؤكد أن تفكيك الشبكة يمثل خطوة مهمة، لكنها تدرك أيضا أن المشكلة أعمق من مجرد اعتقالات، وأنها تحتاج إلى مقاربة شاملة تتضمن إصلاح القوانين، وتشديد الرقابة على الشركات الزراعية، ووضع برامج دعم وحماية للعمال المهاجرين.
تشهد البرتغال منذ أكثر من عقد نموا كبيرا في اعتمادها على العمال المهاجرين في القطاع الزراعي، وقد أدت هذه الحاجة المتزايدة إلى ظهور شبكات استغلالية في مناطق عدة، خصوصا في الجنوب حيث تنتشر الدفيئات الزراعية التي تتطلب عمالة كثيفة، وخلال السنوات الأخيرة فككت السلطات عددا من شبكات الاتجار بالبشر، لكن استمرار هذه الحالات يشير إلى خلل هيكلي في الرقابة والعمل القنصلي والهجرة.
كما أن ظروف العمال المهاجرين تبقى رهينة البيروقراطية وصعوبة تسوية الأوضاع القانونية، وهو ما يجعلهم أكثر عرضة للعنف والاستغلال، وتعد قضية بيجا الأخيرة واحدة من أكبر القضايا التي كشفت عمق الأزمة بين الحاجة الاقتصادية للعمالة وبين الواقع التنظيمي الهش الذي يحكم وجودهم في البلاد.











