مهاجرون عالقون بين الصحراء والبحر.. كيف تحوّلت موريتانيا إلى جدار صد أمام أحلام الأفارقة؟
مهاجرون عالقون بين الصحراء والبحر.. كيف تحوّلت موريتانيا إلى جدار صد أمام أحلام الأفارقة؟
في عام 2015 غادر موكتار ديالو بلده مالي وهو يحمل حلما بسيطا ومؤلما في آن واحد: الوصول إلى أوروبا عبر المحيط الأطلسي انطلاقا من موريتانيا نحو جزر الكناري الإسبانية، كان يتخيل أن الرحلة مهما كانت محفوفة بالمخاطر قد تفتح له بابا لحياة أكثر أمانا وكرامة، بعد مرور 10 سنوات لم يصل ديالو إلى البحر ولم يغادر القارة الإفريقية بل وجد نفسه عالقا في نواكشوط يعمل لساعات طويلة في صناعة الطوب ويعيش في خوف دائم من حملات الشرطة التي غيرت مسار حياته ومسارات آلاف المهاجرين مثله.
واقع جديد للمهاجرين في موريتانيا
اليوم يعمل ديالو البالغ من العمر 42 عاما ليلا لمدة 15 يوما متواصلة في مواقع بناء على أطراف العاصمة الموريتانية، ينام نهارا في كوخ خشبي ذي سقف من الحديد المموج مع ثلاثة عمال آخرين على أسرّة مصنوعة من الطوب الذي يصنعونه بأيديهم، ويتجنب الخروج كثيرا ولا يزور زوجته وأطفاله الثلاثة في وسط نواكشوط إلا نادرا وعندما يكون برفقة رب عمله الموريتاني خوفا من التوقيف أو الترحيل وفق ما أوردته وكالة رويترز الخميس.
يقول ديالو إن كل شيء تغير بعد شهر رمضان في أواخر مارس من العام الحالي حين بدأت حملة أمنية واسعة ضد المهاجرين غير النظاميين، لم تعد هناك قوارب تغادر السواحل الموريتانية باتجاه جزر الكناري والشرطة ألقت القبض على كثيرين من معارفه وتم ترحيلهم إلى مالي، بالنسبة له العودة ليست خيارا في ظل الحروب وانعدام فرص العمل في بلده.
اتفاق أوروبي يغير المعادلة
يرى مهاجرون ومنظمات حقوقية أن تصاعد نشاط الشرطة في موريتانيا مرتبط مباشرة باتفاق أبرمته نواكشوط مع الاتحاد الأوروبي مطلع العام الماضي للحد من الهجرة غير النظامية، هذا الاتفاق جعل موريتانيا في صدارة دول العبور التي تعتمد عليها أوروبا لإغلاق طرق الهجرة قبل وصولها إلى سواحلها.
وزارة الداخلية الإسبانية أعلنت أن قوات الأمن الموريتانية اعترضت نحو 13500 زورق في الطريق إلى جزر الكناري منذ بداية عام 2024، كما أكدت أن عدد الوافدين إلى الأرخبيل انخفض بنسبة 59 بالمئة في عام 2025 حتى شهر أكتوبر مقارنة بالعام السابق، وهذه الأرقام تعكس نجاحا أمنيا من وجهة نظر مدريد وبروكسل لكنها تخفي خلفها قصصا إنسانية قاسية.
ترحيل واسع ومخاوف حقوقية
كشفت معلومات قدمتها الحكومة الموريتانية إلى منظمة هيومن رايتس ووتش أن عدد المهاجرين المرحلين من البلاد تضاعف ليصل إلى نحو 28125 شخصا خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2025 مقارنة بإجمالي عدد المرحلين في عام 2024، وتقول جماعات حقوق الإنسان إن كثيرا من هؤلاء المهاجرين يتم ترحيلهم دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة ويُتركون على الحدود مع مالي أو السنغال ومعهم القليل من المال وفي مناطق نائية تندر فيها وسائل النقل والخدمات الأساسية.
جاءت الحملة الأمنية المكثفة ضد المهاجرين بعد ثلاث زيارات قام بها رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانتشيث إلى نواكشوط خلال العامين الماضيين، وتزامنت هذه الزيارات مع تسجيل عدد قياسي من الوافدين إلى جزر الكناري من غرب إفريقيا بلغ 46843 شخصا في عام 2024 لتصبح موريتانيا نقطة الانطلاق الرئيسية.
ووفقا للجنة الدولية للصليب الأحمر انخفض عدد القوارب القادمة من موريتانيا خلال العام حتى 16 ديسمبر بنسبة 61 بالمئة ليصل إلى 133 قاربا فقط مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، وفي المقابل بدأت مسارات أخرى أكثر خطورة بالظهور.
المال مقابل ضبط الحدود
الاتفاق مع موريتانيا يندرج ضمن استراتيجية أوسع للاتحاد الأوروبي تقوم على إبرام شراكات مع دول العبور في شمال إفريقيا لاحتواء المهاجرين قبل وصولهم إلى أوروبا، وكشفت المفوضية الأوروبية كشفت أن موريتانيا حصلت على 210 ملايين يورو لدعم إدارة الهجرة وتقديم مساعدات إنسانية للاجئين وتعزيز فرص العمل وريادة الأعمال، وتعد هذه أكبر مساهمة مالية منذ بدء التعاون بين الطرفين قبل نحو 20 عاما.
لكن منظمات حقوقية ترى أن جزءا كبيرا من هذا التمويل استخدم لتعزيز الحملات الأمنية ضد المهاجرين وترحيلهم بدلا من تحسين أوضاعهم أو توفير بدائل حقيقية لهم.
حياة معلقة وأحلام مؤجلة
لا يزال ديالو يحلم بالوصول إلى أوروبا لكن الواقع المالي يجعل هذا الحلم بعيد المنال، حيث تصل تكلفة حجز مكان على قارب صغير إلى جزر الكناري إلى نحو 2700 دولار بينما لا يتجاوز دخله اليومي بين 5 و7 دولارات، ويقول إن البقاء في موريتانيا رغم القسوة أفضل من العودة إلى مالي حيث الحرب وانعدام الأمان.
تشهد مالي صراعا مسلحا تقوده جماعة نصرة الإسلام والمسلمين المرتبطة بتنظيم القاعدة ضد الحكومة التي يقودها الجيش. مراقبون يحذرون من احتمال توسع نفوذ الجماعات المسلحة وفرض سيطرتها على مناطق واسعة من البلاد.
ضغط سكاني متزايد
يقول محمد لمين خطاري مدير مرصد أطلس الساحل للهجرة إن موريتانيا تستضيف نحو 500.000 مهاجر من مالي يشكلون الآن أكبر مجموعة من المهاجرين بسبب الصراع، وهذا التدفق الكبير يضع ضغوطا هائلة على بلد يعاني أصلا من تحديات اقتصادية واجتماعية.
من جهتها قالت لورين سايبرت الباحثة في منظمة هيومن رايتس ووتش إن تقريرا أعدته المنظمة في أغسطس وثق أكثر من 70 حالة انتهاك لحقوق الإنسان بحق المهاجرين شملت الضرب والتعذيب والاغتصاب على أيدي قوات موريتانية، وأضافت أن تجاهل هذه الانتهاكات مقابل التمويل يعني دفع الأموال لدول العبور للقيام بأعمال قذرة نيابة عن أوروبا.
ردود أوروبية رسمية
المفوضية الأوروبية أكدت ردا على هذه الاتهامات أن حماية حقوق الإنسان للمهاجرين واللاجئين وطالبي اللجوء تشكل محور جميع برامج الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالهجرة، وأوضحت أنها تراقب تنفيذ هذه البرامج من خلال تقارير الشركاء وبعثات التحقق الميداني.
وزارة الداخلية الإسبانية أعلنت أن مدريد نشرت 40 من قوات الشرطة والحرس المدني في موريتانيا مزودين بزوارق دورية وطائرة هليكوبتر ومركبات للطرق الوعرة وطائرة مراقبة وسفينة عابرة للمحيط، وأكدت أن هذه القوات تعمل مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان.
طرق أخطر تلوح في الأفق
مع تضييق الخناق على المسار الموريتاني بدأت طرق جديدة أكثر خطورة في الظهور، يقول حسن ولد المختار المحاضر في أنثروبولوجيا الهجرة بجامعة لندن إن الأمر مسألة وقت فقط قبل أن تتوسع هذه المسارات، وبالفعل تشير تقارير إلى قوارب تنطلق من جامبيا وغينيا وجنوب موريتانيا والسنغال.
بيانات الصليب الأحمر تظهر أن 7 قوارب فقط وصلت إلى جزر الكناري من موريتانيا خلال الأشهر الستة الماضية بينما وصلت 21 قاربا من جامبيا وغينيا وهو ما يعكس تحول الخطر لا اختفاءه.
تشكل الهجرة غير النظامية من غرب إفريقيا إلى أوروبا واحدة من أعقد القضايا الإنسانية والسياسية في العالم اليوم، وتمثل جزر الكناري بوابة قريبة جغرافيا لكنها شديدة الخطورة حيث يمتد الطريق البحري من السواحل الإفريقية لمسافة تقارب 970 كيلومترا وقد تستغرق الرحلة حتى 8 أيام في ظروف قاسية، وخلال السنوات الأخيرة لجأ الاتحاد الأوروبي إلى نقل إدارة هذه الأزمة إلى دول العبور عبر اتفاقات أمنية وتمويلية بهدف خفض أعداد الوافدين، غير أن هذه السياسة أثارت انتقادات واسعة بسبب ما تسببه من معاناة إنسانية وتغيير لمسارات الهجرة نحو طرق أطول وأكثر خطورة دون معالجة الجذور الحقيقية للهجرة المتمثلة في الفقر والصراعات وانعدام الفرص.











