أطفال وُلدوا بلا وطن.. لاجئو مالي في موريتانيا بين معاناة الحياة والعودة التي لا تأتي
أطفال وُلدوا بلا وطن.. لاجئو مالي في موريتانيا بين معاناة الحياة والعودة التي لا تأتي
في كل صباح، يخرج محمد أغ مالحة، المعروف في مخيم اللاجئين باسم "مومو"، ليقطع أكثر من أحد عشر كيلومترا تحت شمس الجنوب الموريتاني القاسية، متفقدًا أزقة مخيم مبيرا ومنازل الطين والخيام البيضاء التي تمتد على أطراف الصحراء، الرجل الثمانيني الذي تجاوز الرابعة والثمانين لا يرى في هذا السير الطويل مجرد تمرين يومي، بل طريقة للبقاء حيًّا بالجسد والروح، وللاطمئنان على سكان المخيم الذين أصبحوا عائلته الممتدة منذ أكثر من عقد.
لاجئ منذ ثلاثة عقود
يعيش مومو في موريتانيا منذ عام 2012، وفق صحيفة "الغارديان" البريطانية، لكن قصته مع اللجوء أقدم بكثير، فقد اضطر إلى الفرار أول مرة عام 1991 من مدينة تمبكتو في شمال مالي، حين اندلعت المواجهات بين الانفصاليين الطوارق والجيش المالي، عاش أربع سنوات في المنفى قبل أن يعود ليعمل أخصائيًا اجتماعيًا ثم معلمًا للرياضيات والفيزياء، غير أن النزاع المسلح الذي تجدد في 2012 أعاده مجددًا إلى الطريق نفسه نحو الحدود، حاملاً ما تبقى من ذكرياته وحلمه بأن يعود يوما إلى وطنه.
يقول مومو بصوت مبحوح: "بعض الأطفال الذين وُلدوا هنا لم يروا مالي قط، إنهم لا يعرفون وطنهم، وهذا مؤلم، لأن اللاجئ يعيش بقلبين؛ واحد هنا حيث يقيم، وآخر هناك حيث ترك كل شيء".
مخيم تحول إلى مدينة
أنشئ مخيم مبيرا عام 2012 في موريتانيا لاستقبال موجة اللجوء من شمال مالي، لكنه لم يعد مجرد مخيم عابر، اليوم يضم المكان أكثر من 120 ألف لاجئ، وفقًا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إلى جانب ما يزيد على 150 ألفًا يعيشون في القرى الموريتانية المجاورة، وتقول السلطات إن المنطقة أصبحت ثالث أكبر تجمع سكاني في البلاد بعد نواكشوط ونواذيبو.
وعلى الرغم من أنه بدأ كصفوف من الخيام المتناثرة، فإن مبيرا بات أشبه بمدينة مصغّرة، فيها سوق نابض بالحياة يضم أكثر من خمسمائة متجر، وثماني مدارس، وبنك محلي، وملعب لكرة القدم، وورش تدريب على الحرف والزراعة، غير أن هذه المظاهر تخفي واقعًا قاسيا من الفقر ونقص التمويل.
موارد تتناقص ومساعدات تتراجع
في الشهور الأخيرة، بدأ أثر خفض المساعدات يظهر جليًا في وجوه السكان، آلاف اللاجئين الجدد يعبرون الحدود كل شهر، هربًا من العنف المتصاعد في شمال مالي، بينما الموارد في تراجع حاد، ويقول عليو ديونغ، مدير برنامج الأغذية العالمي في المنطقة، إن المكتب اضطر إلى تقليص الدعم من تسعين ألف شخص إلى نحو ثلاثة وخمسين ألفا فقط كل شهر.
ويضيف أن تخفيضات التمويل، خاصة بعد توقف بعض المساهمات الدولية الكبرى، أجبرت البرنامج على إيقاف بعض أنشطة التغذية للأطفال والنساء الحوامل، ويؤكد أن الفرق الميدانية "تعمل بأقصى ما يمكن، لكن الاحتياجات تفوق بكثير الإمكانات المتاحة".
حياة في دائرة الانتظار
في المدارس، يتلقى الأطفال وجبة واحدة في اليوم، ويجلس ستة أو سبعة منهم حول صينية واحدة يتقاسمون طبقًا بسيطًا من الأرز والبقوليات، ويقول المعلمون إن هذه الوجبة، على بساطتها، تدفع الكثيرين للالتحاق بالفصول وتبقيهم في مقاعد الدراسة، وبعض الأطفال لا يعرفون طعامًا آخر طوال اليوم.
ورغم أن الدعم الكوري الجنوبي المتمثل في آلاف الأطنان من الأرز أنعش المستودعات مؤخرًا، فإن الوضع يظل هشًا، فكثير من الأسر تعتمد على توزيع الأغذية أو المساعدات النقدية التي أصبحت غير منتظمة، ويحاول اللاجئون تعويض النقص بجهودهم الذاتية عبر مشاريع صغيرة لتربية الماشية أو الزراعة في أطراف الصحراء القاحلة.
نساء يصنعن الأمل
في أحد أركان المخيم، تعمل نساء شبكة موارد المرأة في خيمة بسيطة تحولت إلى مركز حياة، يعالجن الجرحى، ويرافقن النساء الحوامل، ويقدمن الدعم النفسي للأطفال الذين فقدوا ذويهم، كما ينظمن حلقات توعية حول تعليم الفتيات والزواج المبكر.
تقول إحدى الناشطات: "لدينا الإرادة ولدينا الأيدي، لكننا نفتقر إلى الموارد، نعيد استخدام ما لدينا مرات عدة، لأننا لا نملك خيارًا آخر".
ورغم الظروف الصعبة، تتوسع هذه المبادرات بفضل التضامن الداخلي، فالمتطوعون في منظمة "صحراء بلا حدود" يزرعون المحاصيل ويكوّنون فرقة إطفاء لإخماد حرائق الغابات الموسمية، في حين تسعى جمعيات الشباب إلى إقامة دورات رياضية وثقافية لإبقاء الروح الجماعية حيّة في مواجهة العزلة واليأس.
يعيش اللاجئون في مبيرا على مقربة من مناطق لا تزال تشهد مواجهات بين الجماعات المسلحة في مالي، تقوم قوات الدرك الموريتانية بدوريات مستمرة حول المخيم لتأمينه، لكن الخوف لا يغادر نفوس الناس، فكثير من العائلات وصلت بعد أن فقدت أفرادًا في الهجمات، والبعض لا يزال يتلقى أخبارا متقطعة من أقاربهم العالقين خلف الحدود.
اللاجئون بين الشكر والحنين
يقول محمد أغ مالحة، وهو يتفقد خيم الأسر الجديدة: "نحن ممتنون للسلطات الموريتانية والمنظمات الإنسانية على ما قدموه لنا، لكن هذا لا يعوّض أن تكون في بلدك، تعمل بيديك وتعيش بكرامة"، ثم يضيف بعد صمت طويل: "عندما تغادر وطنك، تفقد كل شيء، هنا، نعتمد على المساعدات، أحيانًا تكفينا وأحيانًا لا، لكن ما لا نفقده أبدًا هو الأمل".
أكثر من نصف سكان مبيرا من الأطفال دون الثامنة عشرة، جيل كامل وُلد في المنفى ولا يعرف معنى الوطن إلا من روايات الآباء، يدرسون عن مالي في الكتب أو يسمعون عنها في الأغاني القديمة، لكنهم لم يروا رمالها أو أنهارها قط، بالنسبة إليهم، الحدود مجرد فكرة بعيدة، والعودة حلم لم يكتمل بعد.
بين الصحراء والذاكرة
عند الغروب، تتبدل ملامح المخيم؛ يتصاعد الغبار مع نسيم الصحراء، ويجلس الشيوخ أمام الخيام يتبادلون القصص عن الوطن المفقود، هناك، في ذلك السكون الثقيل، تتقاطع الحكايات بين الماضي والمستقبل، بين انتظار السلام وحنين لا يهدأ.
يقول مومو، وهو يتهيأ لجولته الأخيرة قبل حلول الليل: "لقد عشت عمري كله لاجئًا، لكنني ما زلت أؤمن أن العودة ممكنة، ربما لا أراها بنفسي، لكن يكفيني أن يرى أحفادي مالي بأعينهم".
وهكذا، تظل مبيرا أكثر من مجرد مخيم، إنها حكاية بشرٍ يعيشون على هامش وطنين، بين الخسارة والرجاء، يصنعون من الانتظار حياة، ومن الصحراء معنى جديدًا للثبات والكرامة.











