أزمة إنسانية تتفاقم.. كيف حولت الشراكات الأمنية موريتانيا إلى حائط صد على حساب حقوق المهاجرين؟

أزمة إنسانية تتفاقم.. كيف حولت الشراكات الأمنية موريتانيا إلى حائط صد على حساب حقوق المهاجرين؟
الهجرة غير الشرعية

تتّسم ملفات الهجرة العابرة لشمال وغرب إفريقيا في الأعوام الأخيرة بخلل مزدوج يتمثل في ارتفاع أعداد المغادرين وسط مسارات بحرية وصحراوية محفوفة بالمخاطر، مع تصاعد سياسات ضبط حدودية مدعومة خارجيًا تتجاوز أحيانًا ضوابط حقوق الإنسان. 

وتُعد موريتانيا، بحكم موقعها الجغرافي على الساحل الأطلسي وامتداد حدودها مع مالي والسنغال والصحراء الغربية المحتلة، نقطة عبور رئيسية للمهاجرين من غرب ووسط إفريقيا نحو أوروبا عبر ما يُعرف بـ"الطريق الأطلسي" المؤدي إلى جزر الكناري الإسبانية، هذا الطريق الذي برز بقوة منذ منتصف العقد الأول من الألفية، مع تشديد الرقابة على البحر المتوسط، فانتقل آلاف المهاجرين إلى المحيط الأطلسي رغم خطورته وارتفاع معدلات الغرق فيه.

منذ عام 2006، بدأت دول الاتحاد الأوروبي، خصوصاً إسبانيا، إبرام اتفاقيات ثنائية مع موريتانيا لتعزيز مراقبة الحدود مقابل دعم مالي وتقني، وشملت نشر قوات أمنية وتجهيز مراكز احتجاز للمهاجرين، وقد رافقت هذه الترتيبات انتقادات حقوقية متكررة اعتبرت أن الاتحاد الأوروبي "يصدّر" أزمته الداخلية المتعلقة بالهجرة إلى دول الجوار الإفريقي دون ضمانات كافية لحماية الحقوق الأساسية للمهاجرين.

وفق بيانات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، تستضيف موريتانيا اليوم أكثر من 176 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجل، معظمهم من مالي، إضافة إلى عشرات آلاف المهاجرين غير النظاميين العابرين نحو الشمال، في المقابل، توثق منظمات محلية ودولية منذ سنوات تعرض المهاجرين للاعتقال التعسفي والطرد الجماعي والاحتجاز في ظروف غير إنسانية.

على الصعيد القانوني، ترتبط موريتانيا بعدة التزامات دولية، أبرزها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم، إضافة إلى اتفاقية جنيف الخاصة باللاجئين لعام 1951 وبروتوكولها لعام 1967، غير أن تقارير حقوقية متواترة تؤكد أن تطبيق هذه الالتزامات ما يزال محدوداً في ظل غلبة البعد الأمني على مقاربة ملف الهجرة.

وقد وثق تقرير موسع لمنظمة هيومن رايتس ووتش نشر اليوم الأربعاء "انتهاكات ضبط الهجرة" في موريتانيا بين 2020 وبدايات 2025، بما في ذلك التعذيب والاغتصاب والاعتقال التعسفي والطرد الجماعي وعمليات الإبعاد إلى مناطق نائية، ويضع جزءًا من المسؤولية على السياسات والشراكات الأوروبية التي دعمت تعزيز قدرات ضبط الحدود في البلاد.

التقرير الذي أصدرته هيومن رايتس ووتش استند إلى مئات المقابلات وزيارات ميدانية وتوثيق صور وفيديوهات، ورصد حالات اعتقال وتعذيب وطرد متكرر لمهاجرين وطالبي لجوء من دول إفريقية مجاورة، كما سجّلت الجهات الإحصائية الإقليمية ارتفاعًا كبيرًا في رحلات القوارب نحو جزر الكناري، إذ بلغ عدد الوافدين قيماً قياسية في 2024، وهو ما دفع بضغط أوروبي وإسباني لتوسيع تعاونهم مع نواكشوط لوقف "الطريق الأطلسي". 

عوامل محلية وإقليمية ودولية مترابطة

كشفت المنظمة أن هناك عوامل محلية وإقليمية ودولية مترابطة من خلال سياسات ضبط الهجرة المحلية التي اتخذت طابعاً أمنياً مكثفاً، مع استخدام واسع للشرطة والدرك والبحرية في عمليات ملاحقة وطرد المهاجرين دون إجراءات قانونية كافية، بجانب التمويل والشراكات الأوروبية -وأبرزها اتفاقية شراكة هجرة قيمتها مئات الملايين- والتي عزّزت قدرات ضبط الحدود ونشرت دعمًا لوجستياً وتقنياً، لكن دون ضمانات رصد كافية لحماية حقوق الأفراد، إضافة إلى الضغوط الداخلية التي تتقاطع مع ديناميات الهجرة نفسها ومنها النزاعات والفقر وانهيار فرص العمل في بلدان المنشأ، الأمر الذي يدفع بموجات هجرة جديدة نحو طرق خطرة.

ممارسات موثقة وتأثيرها المباشر في المهاجرين واللاجئين

هيومن رايتس ووتش وثّقت نماذج متعددة من الانتهاكات  التي وقعت في موريتانيا منها الاعتداء بالعصي وعقوبة الجلد، وفرض قيود مؤلمة لوقت طويل، واحتجاز قاصرين مع بالغين، ونقص الطعام والماء، وطرد جماعي إلى مناطق صحراوية معرضة للخطر، وإعادة قوارب إلى البحر أو اعتراضها مع غياب عمليات بحث وإنقاذ فعالة، لافتة أن الضحايا كانوا رجالاً ونساءً وأطفالاً وملتمسي لجوء حائزين وضعاً قانونياً، في حين أعادت السلطات في مناسبات أعدادًا كبيرة من الأشخاص عبر عمليات سريعة غالباً دون إتاحة طرق للطعن القانوني، وأكدت المنظمة أن هذه الممارسات لا تكتفي بتهديد حياة الأفراد فحسب، بل تقوّض ثقة المجتمعات المحلية وتفاقم أزمات إنسانية في مناطق حدودية هشّة. 

ردود الفعل الدولية والمحلية ومواقف الفاعلين

ردّت هيومن رايتس ووتش بدعوة صارمة للحكومة الموريتانية لوقف الانتهاكات وإجراء تحقيقات مستقلة، وشدّدت على أن الإجراءات الأخيرة التي أعلنتها الحكومة لا تكفي دون مساءلة ومراقبة فعالة، ومن جهتها، دافعت نواكشوط عن سياساتها ورفضت مزاعم الانتهاكات، مشيرة إلى اعتماد آليات تشغيل موحدة وحظر للترحيل الجماعي في 2025.

كما أن الاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية اعتبرا شراكتهما مع موريتانيا "مكرسة لاحترام الحقوق" وأشارتا إلى دعم مشروعات تهدف إلى الحماية والاندماج، لكن نقدًا واسعًا اتهم بروكسل وبلدان أوروبية بأنها مولت أدوات ضبط أسهمت عملياً في سياسات طرد واحتجاز بلا ضمانات كافية. 

الإطار القانوني الدولي

القانون الدولي، بما في ذلك الاتفاقية المتعلقة بوضع اللاجئين وبنود حقوق الإنسان والالتزامات العرفية، يفرض عدم إعادة الأفراد إلى بيئات قد يتعرضون فيها للاضطهاد أو الخطر الجسيم (مبدأ عدم الإعادة القسرية)، ويحظر عمليات الترحيل الجماعي والمعاملة القاسية أو الحاطة بالكرامة، كذلك تُحمّل الاتفاقيات الدولية الدول مسؤولية حماية طالبي اللجوء وإتاحة سبل الوصول إلى إجراءات اللجوء النزيهة، ويشير توثيق حالات الطرد الجماعي والاعتقالات التعسفية والاحتجاز اللاإنساني إلى انتهاكات لهذه الالتزامات، ويستدعي فتح تحقيقات فعّالة ومستقلة وتقديم مسؤولين للمساءلة. 

التداعيات الإقليمية والآفاق الإنسانية

تكثيف الممارسات القسرية في موريتانيا يحمل مخاطر إقليمية عدة منها تدهور العلاقات مع دول جوار تعرض مواطنيها للطرد، وزيادة أعداد المشردين واللاجئين داخل الصحراء وحدوث أزمات إنسانية، وتحويل مسار الهجرة إلى طرق أكثر خطورة تؤدي إلى مزيد من الوفيات في البحر والصحراء، كما يهدد هذا المنحى مشروع التعاون الإنساني أو المساعي لإيجاد حلول دائمة عبر فرص هجرة قانونية وبرامج اندماج. 

توصيات عملية قابلة للقياس

طالبت المنظمة الحقوقية بفتح تحقيق مستقل وشفاف في مزاعم الانتهاكات بعدد من الحوادث الموثقة، مع حماية للشهود وضمانات لحفظ الأدلة، وتعليق أي تعاون أمني ثنائي مع مؤسسات ضبط الحدود المشتبه بتورطها حتى تتوفر آليات رقابية فعّالة، وتفعيل قنوات إنقاذ وبحث بحرية وصحراوية مدعومة دوليًا مع آليات إشراف حقوقي، و تيسير مسارات هجرة قانونية وفرص عمل بديلة في بلدان المنشأ وفي موريتانيا نفسها، مع دعم برامج الحماية للاجئين وإجراءات تسجيل سليمة، بجانب توثيق ممنهج وحفظ رقمي للأدلة من منظمات المجتمع المدني لدعم المساءلة القانونية لاحقاً. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية