رقية بنت محمد.. أول لاجئة في الإسلام هاجرت مرتين طلباً للأمن والأمان
حقوقيات في زمن النبوة (10)
حينما يضيق الخناق ويُمارس الاضطهاد، ويكثر الأذى وتُهدر الحقوق،لا يبقى إلا موقفان، إما المواجهة والثورة الصدامية الحتمية، وإما الهجرة والنزوح بعيدا عن الأذى وهضم الحقوق.
كان الخيار الثاني ما استقر عليه النبي وابنته رقية ونفر من الصحابة، فهاجرت قرة عين النبي هجرتها الأولى إلى الحبشة، وسط ما يقارب العشرة من المسلمين، على رأسهم -حسب القائمة في كتب السيرة- عثمان بن عفان، وعثمان بن مظعون، ثم هجرتها الثانية إلى المدينة المنورة، لتكون بذلك أول لاجئة في الإسلام فرارًا من أذى قريش، وسفيرة تنشر وتمكن للدين الجديد وتنقل قضيته من حيز المحلية إلى آخر أوسع ذو طابع دولي.
لكن لماذا رقية وهي شابة وأنثى يصعب سفرها بما يوفره ذاك الزمان من وسائل نقل خطرة، ومخاطر قطاع الطرق؟
اختيار النبي وابنته رقية للهجرة، فما كان ليجبرها على شيء لا تريده، كان خيارًا اضطراريًا له دلالات وأبعاد روحية دينية دعوية، وفي الوقت نفسه تتضمن القائمة أطرا اقتصادية واستثمارية ستكون ذات اليد الطولى والحضور الفعال في نصرة الدعوة ودعمها ماديا ومعنويا، وهذا غير خفي عن واقع عثمان بن عفان ومعه رقية، وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهم جميعًا، وهم الذين اشتهرا بوفرة المال وحسن استثماره وإنفاقه في سبيل الله تعالى.
في هجرتها الأولى إلى الحبشة، لم يكن ليختارها النبي دون سائر الصحابة رجالًا ونساء إلا لما اتصفت به من صفات السفراء من حكمة ودبلوماسية وجودة حديث وفهمًا ووعيًا بطبيعة ما ستتحدث عنه وهو الدعوة، حيث ستشكل تلك الهجرة تحولا مفصليا في التاريخ الإسلامي، باعتبارها بوابة الدخول إلى مرحلة نشر الدعوة وقوة الإسلام، وهنا تكمن أهمية هذا اللجوء وخطورة من يمثلونه، ولذا وجب أن يكون الاختيار حكيمًا.
كذلك فإن هجرة رقية تتضمن عنصرًا آخر أهم مما سبق، ألا وهو جانب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضورهم الفعلي باعتبارهم أول المهاجرين والنموذج التطبيقي لعدالة الدعوة، وما يحمله ذلك من دلالة وتأكيد على أن الدعوة وتحمل تبعاتها وآلامها ليس رهنا بالعبيد والمستضعفين من المسلمين، وإنما أول من سيناله البلاء هم المقربون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة فلذة كبده وقرة عينه "رقية بنت خديجة"، تلك المرأة التي نصرته وآمنت به وموّلت الدعوة وساندتها، فما كان ليجازف بها هباء.
كانت قريش قد بالغت في أذاها للنبي وأهل بيته، وهذه وحدها تكفي لتكون سببًا لطلب اللجوء، يقول ابن هشام في السيرة: "فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: ”لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام".
وبالنظر إلى لجوء رقية إلى الحبشة أو هجرتها إلى المدينة، فإن ذلك يخرج من كونه لجوءا عاديًا أو حركة اجتماعية ومطلبا ماديا واقتصاديًا، وإنما هما لجوء وهجرة دينية عقدية معقدة وشديدة الأثر سواء على نفسية المهاجِر "رقية" أو المهاجَر إليه "الحبشة والمدينة"، أو المهاجر به أو منه.
ويظهر دور رقية القوي الذي ستبنى عليه إمبراطورية الإسلام فيما هو آت، بما مثلته هجرتها الأولى إلى الحبشة من ضربة قاصمة لكفار قريش والمتربصين بدعوة النبي الجديد، كما ستكون محركا ومؤججا لغيرة القومية العربية لدى أهل مكة جمعاء بعدما واجهوا أبرهة الحبشي بالأمس، وكانت معه قصة الفيل وطير أبابيل وهزيمة علموا من أحداثها أن البلد الحرام، حرام قتاله، يُمنع عليهم وعلى غيرهم وأنهم بالظلم لن يدخلوه، فانتهوا وتحولوا إلى أصدقاء بعدما كانوا أعداء.
خطورة وأهمية دور رقية يكمن في ما رآه كفار قريش، من أن زمام الأمور قد انفلتت من أيديهم وأن القضية أخذت طابع العالمية، أو بعبارة حديثة قد دوِّلت ولم تعد مجرد صراع محلي وتفاعل داخلي، ولذا لجؤوا إلى استعمال أسلوب الحصار أو العقوبات الاقتصادية والاجتماعية لإضعاف القدرة الشرائية للمسلمين ومن والاهم، واستعمال التجويع كسلاح قاسٍ لدى الجبناء حينما يعجزون عن مواجهة الأقوياء بمبادئهم وعقيدتهم وتضامنهم، فكان حصار بني هاشم في شعب أبي طالب لمدة ثلاثة سنوات ابتداء من السنة السادسة من النبوة، للضغط على رسول الله في الإسلام محمد بن عبدالله ولثنيه عن الدعوة للإسلام فتعاهدو على ألا يتعاملوا معهم بأي شكل من المعاملات كالبيع والشراء والزواج، وقد علقوا صحيفة بهذا المضمون في الكعبة.
كل ذلك كان مناورات سياسية بين فريقين، أحدهما النبي ومن آمن معه لا فرق بين رجل وامرأة، الجميع يشارك حربًا وسياسة على حسب الدور المؤهل له، ولقد كان دور رقية ذا طابع سياسي اقتصادي لم تنله امرأة في عصرنا الحالي سوى في أواخر عشرينيات القرن الماضي.
إلى الحبشة حيث اللجوء الأول
وفقًا لكتب السيرة والتاريخ، بعد مرور ما يُقارب الخمس سنوات من الدعوة السرّية، وبَذل قريش ما بوسعها، من أجل إيقاف هذه الدعوة، والوقوف في طريقها، ومع ثبات رسول الله وأصحابه، بدأت قريش تنهال على المسلمين بكل ما تملكه، بهدف تعذيبهم، وما كان منهم إلا أن صبروا على هذا العذاب، إلا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان مُحاطًا بحماية من قومه، وعمه أبي طالب، فلم يصل إليه ما وصل أصحابَه من العذاب، ولم يكن يملك حمايتهم مما هم فيه.
ثم بتفكير من رسول الله، وتأييد من الوحي، جاء الإذن بالهجرة من مكة لتكون فترة يستريح بها الصحابة مما هم فيه، ويكملوا مسيرتهم في نشر الإسلام، قال تعالى: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)، فاقترح رسول الله أرض الحبشة، لما فيها من عَدلِ حاكمها، وصِدقه إلى أن يجعل الله لهم فرجاً ومخرجاً، فخرجت مجموعة من الصحابة إلى الحبشة، وكانت هذه الهجرة أول هجرة في الإسلام، والحبشة اسم نُسِب إلى الأرض، بسبب الناس الذين كانوا يعيشون في تلك المنطقة، وهم الأحباش، وهي الآن تمثل دولة إثيوبيا.
وبلغ عدد المهاجرين عشرة رجال وأربع نسوة، وكان منهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقيّة بنت رسول الله عليه السلام، وأبو سلمة وزوجه أم سلمة، وعبدالرحمن بن عوف، وعثمان بن مظعون -رضي الله عنهم- وغيرهم.
وقد خرجوا خفية حتى وصلوا إلى البحر، فركبوا السفينة باتجاه الحبشة، وعندما علمت قريش بخبرهم تبعتهم، لكنهم كانوا قد ساروا برعاية الله، ووصلوا الحبشة وأقاموا فيها آمنين بقية رجب وشعبان ورمضان، ثم وصلتهم أخبار أنّ أهل مكة قد أعلنوا إسلامهم، فطفقوا عائدين، وعند مشارف مكة تبين لهم أن الأمر ليس كذلك، وأن أذى المشركين يزداد على الدعوة ومن آمن بها، فاختار بعضهم الدخول إلى مكة تسلّلاً، ودخل بعضهم بجوار أحد، واختار بقيّتهم العودة إلى الحبشة.
هجرة رقية إلى المدينة ووفاتها
هاجرت رقية مع زوجها عثمان الهجرة الثانية من مكة إلى المدينة، وهنا لقبت بصاحبة الهجرتين، ففي السنة العاشرة للبعثة عاد عثمان مع بعض المهاجرين من الحبشة فبقيا في مكة فترة قصيرة، توفيت فيها أم المؤمنين خديجة بنت خويلد فحزنت رقية حزنًا شديدًا إلى أن أمر الرسول بالهجرة إلى المدينة.
مرضت رقية مرض الموت، فاستأذن زوجها من الرسول وكان يجهز لبدر، فأذن له بالبقاء معها ليمرضها، وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إنما تغيب عثمان عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله وكانت مريضة فقال له النبي: «إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه»، واشتد المرض على رقية وتوفيت في رمضان بعد 17 شهراً من الهجرة، والمسلمون يومها ببدر.
ولما توفيت رقية عن عمر 22 عاماً ودفنت بالبقيع، لم يشهد النبي دفنها، وبكت النساء عليها فجاء عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يعنفهن، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده وقال: «دعهن يا عمر يبكين، ثم قال: ابكين وإياكن ونعيق الشيطان، فإنه مهما يكن من القلب والعين فمن الله والرحمة، ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان».
العالم يغمض عينيه
تعكس قصة رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم، ما يجده النازحون واللاجئون في عصرنا الحالي، فوفقاً لتقارير أممية، فقد نزح نحو 53.2 مليون شخص داخلياً مع نهاية عام 2020 بسبب الصراع المسلح أو انتشار العنف أو انتهاكات حقوق الإنسان.
وكشف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: "في رقم قياسي، أُجبر نحو 100 مليون شخص على النزوح من بلادهم بسبب العنف والصراع وانتهاكات حقوق الإنسان عام 2022، الفقر المدقع والجوع شهدا زيادةً في العالم للمرة الأولى منذ عقود، وبدلاً من استمرار التقدّم، حدث عكس ذلك".
يُذكر أنّ إحصائيات الأمم المتحدة تُشير إلى أنّ 339 مليون شخص في العالم بحاجة إلى دعم إنساني خلال عام 2023، بزيادةٍ قدرها 25% على العام السابق.
وتشعر وكالات الإغاثة الدولية، والمحلية على حد سواء، بحالة من الإحباط مما ترى أنه حالة من غض الطرف من قبل المجتمع الدولي عن مأساة اللاجئين والنازحين في منطقة الشرق الأوسط، في وقت انشغلت فيه معظم دول العالم بهمومها الاقتصادية الداخلية، في ظل التداعيات السلبية لفيروس كورونا وما أحدثته.
ويقول نائب منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية للأزمة السورية مارك كاتس، إن مناشدة الأمم المتحدة تقديم 4 مليارات دولار، للمساعدات الإنسانية لسوريا في عام 2021 تم تمويله بنسبة 45 بالمئة فقط مقارنة بـ58 بالمئة في عام 2020، ومن أصل 84 مليون دولار مطلوبة لاحتياجات فصل الشتاء في الشمال الغربي، تم تلقي 45 مليون دولار فقط حتى الآن، ما يترك فجوة قدرها 39 مليون دولار.
ويؤكد كاتس أن المطلوب حاليا وبشدة هو المزيد من الأموال، و"إرادة سياسية"، لإنهاء الصراع المستمر منذ 11 عاما، ويضيف "إننا نناشد المجتمع الدولي فعلاً أن يبذل المزيد من الجهد للتعرف على حجم الأزمة ومساعدتنا على إخراج هؤلاء الأشخاص من الخيام إلى مأوى مؤقت أكثر أمانا وكرامة، إنه موقف مأساوي حقا نتعامل معه في الوقت الحالي".