صفية بنت عبدالمطلب.. حامية المستضعفين وأول من قتلت مشركاً دفاعاً عن حصن النساء
حقوقيات في زمن النبوة (11)
"ليس عاراً أن يدخل عدو إلى دارك رغم أنفك، العار أن يخرج سالماً أمام عينيك"، قيلت حديثاً وطبقتها قديماً امرأة كان يَحسب لها الرجال ألف حساب، صحابية باسلة تُعد أول امرأة قتلت مشركاً في الإسلام دفاعاً عن الصحابيات وأعراضهن، أنشأت وربَّت للمسلمين أوَّل فارس سلَّ سيفاً في سبيل الله.
إنها الصحابية الأشجع، عمة النبي -صلى الله عليه وسلم- صفية بنت عبدالمطلب، المقاتلة التي اعتز بها التاريخ الإسلامي لكونها فارسة أظهرت أبهي صور الكفاح في الدفاع عن العرض والنفس والدين والوطن والكرامة، لتعكس بفعلها مبادئ حقوقية وإنسانية جمة.
ما يدعو للانبهار بشخصية الصحابية صفية، اعتيادها رضوان الله عليها الخروج إلى ساحات القتال تسقي المجاهدين وتداويهم، تحمل السيف إذا تطلب منها الأمر ذلك، لقد أجرى اللهُ على يديها حفظ الفئة الأضعف في الحروب عادة وهي النساء، فحفظت على نساء المسلمين سلامتهن بشجاعة نادرة مكّنتها من شرف كونها أول امرأة قتلت مشركاً في الإسلام حينما أراد اختراق حصن النساء في غزوة الخندق، هذه بطولة مطلقة لامرأة في الستين من عمرها، كانت في أعلى درجات إيمانها، وأعلى درجات محبَّتها لدين الله ولرسوله، وأعلى درجات دفاعها حق من حقوق الإنسان، وهو "حق الحياة".
والقتل للدفاع عن النفس والغير خاصة في الحروب أمر مشروع حتى في مواثيق هذا العصر، وفي الشرع الإسلامي فمن رأى هجوماً على مسلم معصوم يريد قتله أو إذهاب بعض أعضائه، فإنه يجب عليه أن يدفع عنه.
ففي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه"، وعقَّب بعض العلماء مثل ابن تيمية بقوله" فإن كان عاجزاً عن الدفاع عنه أو هو مشغول بما هو أوجب منه، أو إن كان قادراً وقد تعين عليه، ولا يشغله عمّا هو أوجب منه وجب عليه"، أي أنه طالما لا يوجد سبب أكثر وجوباً وضرورة، كان الدفاع عن المسلم أمر واجب.
وقال الغزالي: من قدر على حفظ مال غيره من الضياع من غير أن يناله تعب في بدنه أو خسران في ماله أو نقصان في جاهه وجب عليه، وهو أقل درجات حقوق المسلم، وهو أولى بالإيجاب من رد السلام.
ملخص ما سبق أن دفاعها رضوان الله عليها أمر واجب، حتى وإن كان الإسلام لم يكلف المرأة بالجهاد، وبهذا تكون أدت واجباً ببسالة تحسد عليها معرضة نفسها للقتل.
وتتضح قيمة فعل عمة النبي رضي الله عنها من بيان أثره، فقد جرت العادة في الحروب على أن يقاتل الرجال، بينما تقوم النساء بالعناية بالجرحى وتحضير الطعام، لكن نتائج تلك الحروب كانت تنعكس مباشرةً على النساء، فالطرف المهزوم لم تكن هزيمته تقتصر على خسارة الحرب والأرض، بل كان يخسر عِرضه وشرفه من خلال سبي نسائه، وهي عادة قديمة درجت في الحروب منذ الأزل، وكانت المرأة السبيّة مستباحة في كل شيء، فهي الجارية والخادمة، فكيف كان حال المسلمات إذا ما دافعت عنهن الصحابية الباسلة صفية بنت عبدالمطلب.
ما قاومته عمة النبي جريمة من جرائم الحرب ضد النساء المستمرة حتى يومنا هذا، وبالرغم من تعدد الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تحرّم سبي النساء واغتصابهن في زمن الحروب، فإن الرادع غير موجود، فتكثر تلك الجرائم في الحروب الأهلية أو في البلاد التي يحكمها الطغاة المستبدون الذين يستخدمون أبشع الوسائل لإذلال معارضيهم، وخاصة في الثورات، فيستغلون ضعف النساء وعدم قدرتهن على المقاومة، ويمارسون جرائم الاغتصاب بحقهن دون رادع ديني أو أخلاقي، والأمثلة كثيرة في العصر الحديث على تلك الجرائم التي مورست بخاصة ضد المسلمين، في حرب استقلال البوسنة والهرسك، وكوسوفو ومؤخراً سوريا.
كذلك يُبين فعل صفية رضي الله عنها، فجاجة وضلال الجماعات الإرهابية مثل داعش وجرمها في حق النساء، فلو كان سبيهن واستغلالهن جائزاً لما دافعت عنهن امرأة من آل بيت محمد رسول الإسلام، ولو كان تشكيل كتيبة نسائية والدفع بها في الحرب مثل كتيبة "الخنساء" التي شكلتها داعش للقتل والنهب، أمراً وارداً لفعله النبي من باب أولى.
بسالتها هذه وتربيتها رضوان الله عليها لم تأتِ من فراغ، لقد عانت ما عاناه المسلمون السابقون من بأس قريش وطغيانها، فلما أذن الله لنبيه والمؤمنين معه بالهجرة إلى المدينة خلَّفت السيدة الهاشمية وراءها مكة بكل ما فيها من طيوب الذكريات، وضروب المفاخر والمآثر، ويممت وجهها شطر المدينة، مهاجرة بدينها إلى الله ورسوله.
حمايتها حصن النساء وقتلها مشركاً
هاجرت صفية رضوان الله عليها إلى المدينة، وكان لها دور بارز في تعليم النساء وحمايتهن، ومؤازرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأييده على القيام بالحق، حتى إنها كانت تجاهد بنفسها، وكانت ذات شجاعة وبطولة.
وأوردت كتب السيرة، أنها حين اشتدت الأزمة على المسلمين بالمدينة، وبلغوا مبلغاً لم يبلغوه في أي أزمة في يوم الأحزاب، فهي أعظم أزمة في التاريخ المدني، كما أن أعظم أزمة في التاريخ المكي هي قضية الهجرة، فأعظم أزمة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة هي قضية الأحزاب التي وصفها الله تعالى في كتابه بقوله: "إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً"
هذه الأزمة العظيمة انتهزتها صفية بنت عبدالمطلب لتبين نموذجاً صالحاً من النماذج النسوية التي ينبغي أن يقتدي بها النساء حين لا يقوم الرجال، أو حين ينشغل الرجال عن أداء الواجبات، أو حين لا تتأتى فرصة للرجال للقيام بما وجب عليهم، فإن النساء حينئذ سيقمن به على الوجه الصحيح كما فعلت صفية بنت عبدالمطلب، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الخندق، جعل النساء في حصن حسان وكان حصناً بالمدينة، فرأى اليهود ذلك، فأرادوا الاعتداء على النساء حين شُغل المسلمون بالمعركة، فجاء أحدهم يستطلع القصر، يريد أن يكتشف هل للقصر حامية تحميه من الرجال، أم ليس كذلك حتى يصولوا عليه ويأخذوا من فيه، فلما رأت صفية هذا الرجل، عرفت أنه ما جاء إلا لشرٍ فنزلت إليه بعمودٍ فضربته حتى قسمت رأسه، ثم أمرت حسان بن ثابت أن ينزل إليه حتى يسلبه ويأخذ سيفه وسلاحه فقال: هلا سلبتيه؟! فقالت: إنه قد استقبلني بعورته فعففت عنه.
فقامت بالحق، وأدت هذه المهمة الجهادية العظيمة، فلما رأى ذلك اليهود قالوا: قد علمنا أن محمداً لم يكن ليترك نساءه دون حامية، وظنوا أن صفية رجل وأنها من الرجال الذين يحمون النساء في ذلك الأطم، أي: الحصن.
وقد كان لهذا الفعل المجيد من عمة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم- أثر عميق في حفظ ذراري المسلمين ونسائهم، ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الحصون في منعة من الجيش الإسلامي -مع أنها كانت خالية عنهم تماماً- فلم يجترئوا مرة ثانية للقيام بمثل هذا العمل، إلا أنهم أخذوا يمدون الغزاة الوثنيين بالمؤن كدليل عملي على انضمامهم إليهم ضد المسلمين، حتى أخذ المسلمون من مؤنهم عشرين جملاً.. وبذلك كانت أول امرأة مسلمة تقتل رجلا في سبيل الله.
المرأة الخاسر الأكبر في الحروب
ما دافعت عنه صفية بنت عبدالمطلب منذ ما يزيد على 1400 سنة، وبالرغم من تعدد الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تحرّم سبي النساء واغتصابهن في زمن الحروب، فإن الرادع غير موجود، فتكثر تلك الجرائم في الحروب الأهلية أو في البلاد التي يحكمها الطغاة المستبدون الذين يستخدمون أبشع الوسائل لإذلال معارضيهم، وخاصةً في الثورات.
ووفقاً لتقرير معهد أبحاث الجرائم ضد الإنسانية والقانون الدولي- وكالة رويترز، لقد استغلوا ضعف النساء وعدم قدرتهن على المقاومة، ليمارسوا جرائم الاغتصاب بحقهنّ دون رادع ديني أو أخلاقي، والأمثلة كثيرة في العصر الحديث على تلك الجرائم التي مورست بخاصة ضد المسلمين.
ففي حرب استقلال البوسنة والهرسك، كان الصرب يدخلون القرية أو البلدة المسلمة فيقتلون جميع الرجال والأطفال، ثم يسوقون النساء المسلمات إلى معسكرات جماعية ليتم توزيعهنّ على الجنود لاغتصابهنّ، وتشير بعض الإحصاءات "الغربية" إلى أن عدد النساء المسلمات اللاتي اغتُصبن قد بلغ أكثر من 30 ألف امرأة، وكانت بعض عمليات الاغتصاب تمارس بحق طفلات قاصرات صغيرات، وبالنتيجة لم يعاقَب المجرمون، وماتت الجريمة بانتهاء الحرب وكأن شيئاً لم يكن.
وفي سوريا، قدمت المرأة السورية أعظم التضحيات، إذ قدّمت أولادها وزوجها وإخوتها شهداء فداءً للحرية والكرامة، وتعرضت للاعتقال والتعذيب والاغتصاب من قبل الطغاة والمجرمين، في سابقة تاريخية لا مثيل لها، وربما لسان حال الأم يقول: يموت الرجال فيستشهدون ويرحلون إلى الجنة، ولكنهم يتركون الحسرة عند الأم والزوجة والأخت.
حماية المستضعفين
بالعود إلى صفية بنت عبدالمطلب، فقد شجعت رضي الله عنها وأرضاها المسلمات على نصرة الدين وقامت بكثير من التضحية في سبيل ذلك، سواء كان هذا في العصر المكي وعصر الاستضعاف أو المدني، حيث كانت صفية وأخواتها بنات عبدالمطلب اللاتي لهن مكانة اجتماعية كبيرة بمكة، يدافعن عن المستضعفين، ويقدمن النفقات إلى المأسورين من المسلمين.
فروى الواقدي في المغازي، أن أبا جهل نقدهن بذلك وقال: ما زلتم يا بني هاشم يتنبأ رجالكم حتى تنبأ نساؤكم؟ وذلك حين رأت عاتكة بنت عبدالمطلب رؤياها في قصة معركة بدر، رأت أن شهاباً نزل على جبل أبي قبيس فتفرق فلم يبقَ بيت من بيوت مكة إلا دخلته جمرة منه، فأول ذلك بمعركة للإسلام على قريش ينهزم فيها المشركون، وينصر فيها الدين، فكانت معركة بدر.
تربيتها فارس الإسلام وحواري محمد
مات عن صفية رضي الله عنها وأرضاها زوجها وترك لها الزبير طفلاً صغيراً ولم يترك لها أي مال، فكان أخوها أبو طالب ينفق عليها وعلى ولدها، وكانت تشتد مع ولدها في تربيته، وتضربه رغم خلقه، لتعلمه الشجاعة والحنكة والحكمة، ولهذا نقدها أعمامه وزعموا أنها تبغضه، فقالت فيهم: من خالني أبغضه فقد كذب وإنما أضربه لكي يلب ويهزم الجيش.
ولذلك فإنها قد أتاها رجال في الجاهلية يسألون عن الزبير حين أسلم يريدون الإيقاع به، فجاءها رجل من قريش، فقال: أحق أن الزبير قد صبأ؟ فقالت: كلا والله! ولكنه أسلم وصدق، فقال: سترين ما أصنع به، فقالت: هو في المكان الفلاني فاذهب إليه، فذهب إلى الزبير فوجده منشغلاً بأمر فهجم عليه، فأخذه الزبير وأسره وكتفه بسية قوسه، وجاء يحمله على عاتقه فوضعه بين يدي صفية، فوقفت عليه وضربته بعصا وقالت: كيف وجدته؟ أعسلاً وتمراً؟ أم أسداً هزبرا؟
ربّته رضي الله عنها تربية حازمة، كي يكون مقاتلا شجاعا، يستطيع أن يدافع عن قومه، عوضا عن أبيه الذي قتل في حرب الفجار قبل الإسلام.
وأسلم الزبير عندما بلغ ست عشرة سنة وصار من أوائل من دخلوا في الإسلام، وتعرَّض للابتلاء في أول إسلامه، حيث تعرَّض لتعذيبٍ شديدٍ في سبيل دينه، وكان الذي تولى تعذيبه عمه، كان يلفه في حصير، ويدخن عليه بالنار كي تزهق أنفاسه، ويناديه وهو تحت وطأة العذاب: أكفر بربِّ محمد أدرأ عنك العذاب، فيجيبُه الزبير في تحدٍ رهيب: والله لا أعود لكفر أبدا.
وموقف الزبير في غزوة الأحزاب يصور لنا شخصيته ونشأته على الجرأة والنصرة.
روى ابن هشام في السيرة، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يوم الخندق: “من يأتينا بخبر بني قريظة؟” فقال الزبير: أنا، فذهب على فرس، فجاء بخبرهم.
ثم قال الثانية، فقال الزبير: أنا، فذهب، ثم الثالثة، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلم: “لكُلِّ نبيٍّ حواريّ، وحواريَّ الزبير”.. ومعنى قوله صلَّى الله عليه وسلم: “وحواريّ الزبير”: أي خاصتي من أصحابي، وناصري، ومنه الحواريون أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام، أي خلصاؤه وأنصاره، فالحواري: هو الناصر المخلص، فالحديث اشتمل على هذه المنقبة العظيمة التي تميز بها الزبير رضي الله عنه، ولذلك سمع عبدالله بن عمر رضي الله عنه رجلاً يقول: أنا ابن الحواريّ فقال: إن كنت من ولد الزبير وإلا فلا.
وفاتها
توفيت رضي الله عنها في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة عشرين هجرية، ولها من العمر ثلاث وسبعون سنة، ودفنت في البقيع.