"حقوقيات في زمن النبوة".. سلسلة تعيد قراءة تاريخ الصحابيات في إطار حقوقي

"حقوقيات في زمن النبوة".. سلسلة تعيد قراءة تاريخ الصحابيات في إطار حقوقي

في تنبيه بليغ لخليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن سيأتي بعده من المؤرخين وكُتَّاب السير، قال: "لا يَعرِف الإسلام من لم يَعرف الجاهلية"، كذلك لا يُعْرف الإسلام من حاضرنا المختلط -أحيانًا- بفهم ملبوس وفقه مؤدلج ومذاهب خالطها الهوى وعقائد مرجعيتها المنتديات و"السوشيال ميديا" وكُتيبات الأرصفة.

وإذا اشترط ابن الخطاب إدراك ما كان عليه العرب في الجاهلية لمعرفة الإسلام معرفة حقة، فكذلك لا يمكننا الانسلاخ عن سير الرعيل الأول من الصحابيات وإعادة قراءة ما قمن به من مواقف ريادة في ضوء حداثي حقوقي سبق ما يسمى حاليًا بـ"مواثيق الأمم المتحدة"، واعتبارها معيارًا تقاس به إنسانية الأمم، في حين سبقها الإسلام بقرون مؤسِسًا لمكانة للمرأة قوامها "الحرية والمساواة والقيادة" في كل مجالات الحياة.

فأحداث السيرة النبوية والأدوار المجيدة لسيدات عصر النبوة رضوان الله عليهن لنصرة التوحيد والدفاع عن النبوة والرسالة، تحمل محطات ومواقف لم تستوفِ حقها من الفهم واستلهام الدروس الحية، خاصة والعالم الإسلامي في احتياج مُلح لمعرفتها، يستلزمه عصر التكنولوجيا والعولمة والمعارك الفكرية بين المذاهب والتيارات الكثيرة والمتشعبة. 

حتمًا لم يكن التحول من الجاهلية إلى الإسلام حدثًا عاديًا، كانتساب المرء إلى حزب أو طائفة، بل كان ولادة ثانية ونشأة جديدة هزت حينها أعماق شبه الجزيرة العربية ورسخت لعالم إسلامي يأخذ طابع العالمية كونه آخر الرسالات قوامه" لا إكراه في الدين" و"لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى".

ومنذ أن بزغ فجر الإسلام ليحرر الإنسان من العبودية لغير الله، عرفت مسيرته نساء عظيمات خلدهن التاريخ بما قدمن من تضحيات، وما سجلن من مواقف مشرفة كان لها أثرها في انتشار رسالة الحق في ربوع العالم.

هذه الشخصيات النسائية تحتاج إلى قراءة متجددة، وإضاءة كاشفة تبدد غبش التقييم المتسرع، والتي قد يكون سببها الغفلة عن تداعيات النقلة الهائلة التي أحدثتها الرسالة المحمدية على مستوى الفرد والجماعة، أو ربما انسياقًا مع النهج المعتمد في كتابة السيرة النبوية منذ أمد طويل، فاستبعدت سهوًا وقائع وتفاصيل مفعمة بالدروس والعبر.

وتقوم سلسلة مقالات "حقوقيات في زمن النبوة" في ضوء السنة الصحيحة بهذه المهمة -بقدر الاستطاعة- فتعيد قراءة سير نخبة مختارة من النساء الخالدات اللاتي يعتز بهن الإسلام، لتقديم رؤية -نظنها صحيحة- عن ريادة المرأة في الإسلام ومساواتها بالرجل وكفاءتها على خوض كل المعارك الفكرية والعلمية والحربية وغيرها، وتقديم نماذج هن قدوة للمرأة المسلمة المعاصرة، خاصة في هذا الزمن الذي يموج بتحديات ومشكلات تحاول صرف المرأة عن القيام بدورها الذي رسمه لها دينها الحنيف، أو من يحاول إظهار المرأة المسلمة بصورة تُخدم فكره ومصالحه وهواه.

وليس بسر أن الإسلام نظَّم علاقة المرأة بالرجل وجعلها شقيقة له ومساوية حتى في التكاليف الدينية والثواب والعقاب، ولعل كثيرا ممن ينكر أن تكون للمرأة قيادة يستند إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها قيادة، ولكن هل فعل ذلك النبي حقًا؟

ما سُيقدم في الأيام التالية من سير الصحابيات، محاولات للإطلالة على قيادة المرأة "الدينية والعلمية والطبية والحربية والاجتماعية" وغيرها، وهي محاولات تعتمد على صحيح السنة ومبتعدة عمّا يثير الجدل، وما يلي نبذة من تلك القيادة:

قيادة المرأة الدينية

ومن أمثلة القيادة الدينية في عصر النبوة ما ورد في السنة والسير من أن السيدة خديجة، وهي أول امرأة تقابلنا في السنة النبوية بوصفها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، كانت تقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعضده في حياته، وكانت تبادر بمحاولات قيادية بما في ذلك مصلحة النبي والأمة، فلما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاف النبي منه، لأنه لم يكن له سابق عهده به، وعاد طالبا من خديجة أن تغطيه، هدأت من روعه، وطمأنته أن الله لن يخزيه أبدا، لما يتصف به من صفات النبلاء، من صلة الرحم، وإقراء الضيف، ومعاونة المحتاج، والوقوف مع الضعيف، وغير ذلك من الصفات المحمودة. 

ولم تكتفِ السيدة خديجة بذلك، بل بادرت بأخذه صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان رجلا عنده علم التوراة والإنجيل، وقالت له: يا ابن عم، انظر محمدا وما يشتكي. 

فها هي خديجة تأخذ بيد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ورقة، وتدير دفة اللقاء، بما في ذلك من علامات القيادة والريادة. 

ويتحدث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ورقة، فيستبشر ورقة أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- هو نبي هذه الأمة، فتسارع السيدة خديجة بالإيمان به، لتكون أول من آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم على الإطلاق من الرجال والنساء، فلم يؤمن قبلها أحد، ولم تستأذن خديجة عمها أو أحدا من أقاربها، فتؤمن به بمجرد أن عرفت أنه نبي هذه الأمة، بل تقوم معه بدور قيادي في حمايته وجعل مالها تحت أمره، كما لم تنسَ المواساة النفسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 

كذلك حين حاصر المشركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين وآل طالب وغيرهم من أقارب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في شعب أبي طالب، بعد أن تحالفوا فيما بينهم ألا يبيعوا للمسلمين وأقارب الرسول شيئا، ولا يشتروا منهم شيئا، ولا يزوجوهم ولا يتزوجوا منهم، وأن تقطع كل العلاقات بينهم وبينهم.

تنجح خديجة في قطع الحصار، وترسل بجمال محملة طعاما وشرابا للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، وواضح من خلال السياق أن خديجة كان لها من الحماية ما لم يكن لغيرها من الرجال والنساء. 

وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- دائما يستشيرها في ما يخصه من أمور، حتى كلل الله تعالى جهادها وقيادتها بما أعد لها في الجنة من المنزلة العظيمة، بل ينزل جبريل عليه السلام يبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقرئ خديجة السلام، ويبشرها ببيت في الجنة، وكفى بذلك تقديرا لعملها وجهادها. 

القيادة العلمية

من مواطن الريادة التي قادت فيها المرأة وتميزت، القيادة العلمية، حيث كان للمرأة في العصر النبوي الشريف نصيب كبير في حفظ ورواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

مما يذكر للمرأة في هذا الميدان ما حكاه الإمام الذهبي، وهو من كبار المحدثين بقوله: "لم يؤثر عن امرأة أنها كذبت في حديث"، بل المحفوظ أن بعض الرجال هم الذين كذبوا على الرسول في رواية الحديث.

وقد اشتُهر من النساء عدد بالعلم النافع، فقد كانت السيدة عائشة علما في الفقه والحديث والتفسير والأدب والشعر والطب وغير ذلك من العلوم التي روتها للصحابة والتابعين. 

كما اشتهرت أم المؤمنين أم سلمة برواية الحديث والتفسير، وكان يرجع إليها في هذا، وغير أمهات المؤمنين عدد من النساء عرف عنهن روايتهن للحديث وعلوم الشريعة. 

القيادة السياسية

لما قامت الفتنة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن سفيان -رضي الله عن الجميع- خرجت عائشة رضي الله عنها بقصد الإصلاح السياسي بين الفريقين، ومع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أمر نساءه ألا يخرجن من البيت، وهو أمر خاص بأمهات المؤمنين أزواج النبي، فإن عائشة اجتهدت وخرجت من بيتها للإصلاح بين أكبر حزبين من المسلمين، ولما روجعت في هذا ردت فعلها إلى المصلحة العامة التي تقدم على أمر البقاء في البيت، بل قادت السيدة عائشة مواقف قيادية في هذه الأحداث، وكان الرجال خلفها، مع أنها زوج الرسول المأمورة بالبقاء في بيتها. 

وفي عصر الراشدين لم تكن المرأة بعيدة عن الحياة العامة، بل كان لها دور، وحرص على أن يوضع الأمر في نصابه بحقه، فلما طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخلت حفصة ابنته على أخيها ابن عمر، وقالت له: أعرفت أن أباك لن يستخلف أحدا بعده؟ فقال ابن عمر: إنه لن يفعل، ولكن حفصة ألحت في الطلب على أخيها عبدالله بن عمر أن يدخل عليه، وأن يطلب منه أن يستخلف أحدا بعده، من باب حرصها على حالة الدولة الإسلامية، وأن تبقى مستقرة دون زعزعة أو زوبعة. 

القيادة الطبية

ومن خلال ما أوردته كتب السيرة والتاريخ، يلاحظ أن المرأة كانت في العصر النبوي منوطا بها القيام بأعمال التداوي والكشف الطبي، بل اشتُهر منهن عدد بهذا، فكانت النساء يقمن في الغزوات مع الرجال بأعمال الإسعافات الأولية والتمريض، فتحكي أم عطية الأنصارية ذلك بقولها: "غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى" رواه مسلم.

وكانت السيدة رفيدة الأسلمية رضي الله عنها وأرضاها أول جرَّاحة في الإسلام.

قبل أكثر من 1400 عام من الآن تعلمت كيمياء العقاقير والجراحة، فكانت تداوي جرحى المعارك، وتنقل معها خيمتها بكل متطلباتها وأدواتها واحتياجاتها فوق ظهور الجِمَال، حتى تُقيمها بالقرب من معسكر المسلمين، وتعد خيمتها المتنقلة أول مستشفى ميداني في الإسلام، ولما مرض سيدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه، حوَّلوه إلى خيمة السيدة رفيدة. 

وتُورد بعض المصادر أن خيمة رفيدة تُعد أول مستشفى حربي مُتنقل في التاريخ، توصف رفيدة أيضًا بأنها صاحبة الخيمة الطبية الأولى في التاريخ.

الريادة الحربية

وتُعد أم عمارة -رضي الله عنها وأرضاها- أول من فتحت باب الجهاد النسائي، لتخط بدمها صفحة مشرقة تؤكد الولادة الثانية، وتتيح للمرأة سبل المشاركة في الحياة العامة، فكانت بداية النموذج الإسلامي لتحرير المرأة عملية على أرض المعارك، لا مجرد بيانات وخطب يكذبها واقع الحال. 

كانت رضوان الله عليها تقوم خلال الحروب الإسلامية بالدور الذي تقوم به منظمات الصليب الأحمر في العهد الحديث، فكانت تحمل الماء وأدوات الإسعاف للمقاتلين، كما اشتركت في الدفاع عن الرسول، ويمكن القول إن "أم عمارة" هي أول محاربة من النساء في الإسلام، وقد قال عنها النبي: "ما التفت يمينًا أو شمالًا إلا وأنا أراها تقاتل دوني، ومن يطيق ما تطيقينه يا نسيبة". 

نهر الإبهار ما زال يفيض، القصة تبدأ من حضورها رضوان الله عليها بيعة العقبة الكبرى التي اشترط فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحميه قومها مما يحمون منه أبناءهم ونساءهم، وكيف أن قومها أبدوا استعدادهم للتصدي لجبهة الشرك، وبذل الدماء والأموال في سبيل ما يؤمنون به.   

حضرت أم عمارة هذا اللقاء التاريخي ووافقت على شروطه وهي امرأة حديثة عهد بالإسلام، ولا تزال الأدوار الاجتماعية التي حددها المجتمع الجاهلي للمرأة ثابتة وراسخة، فالرجل هو القيّم الطبيعي على البيت، والمرأة تابع له وعليها إطاعة أوامره.. لذا فإن الغاية من خروجها يوم أحد كانت منسجمة مع صورة المرأة في المجتمع آنذاك، فهي خرجت لتنظر ما يصنع الناس، ومعها سِقاء فيه الماء، أي أن مشاركتها لن تتعدى سقاية المقاتلين وتتبع أطوار النزال، فما الذي جرى؟   

تقول أم عمارة: "لما انهزم المسلمون اِنحزْتُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعلت أباشر القتال، وأذبُّ عن رسول الله بالسيف، وأرمي بالقوس، حتى خلُصت إليّ الجراح".   

لا شك أن اندفاعتها بالغة الحماس، كانت استشعارا للمسؤولية أمام الشروط التي تضمنتها بيعة العقبة الثانية، وكذلك شروط النصرة وافتداء النبي -صلى الله عليه وسلم- وحمايته. 

موقف قوي دال على أن من حق المرأة أن تفجر عطاءها، وتُبرز تضحيتها دون اعتداد بالأدوار المحددة سلفا، فخط العقيدة لا يحتمل التمييز بين الجنسين.

كذلك ما قامت به الصحابية الأشجع، عمة النبي -صلى الله عليه وسلم- صفية بنت عبدالمطلب، المقاتلة التي اعتز بها التاريخ الإسلامي لكونها فارسة أظهرت أبهي صور الكفاح في الدفاع عن العرض والنفس والدين والوطن والكرامة، لتعكس بفعلها مبادئ حقوقية وإنسانية جمة. 

ما يدعو للانبهار بشخصية الصحابية صفية ويبرز دور المرأة الحربي في الإسلام، اعتيادها رضوان الله عليها الخروج إلى ساحات القتال تسقي المجاهدين وتداويهم، تحمل السيف إذا تطلب منها الأمر ذلك، لقد أجرى اللهُ على يديها حفظ الفئة الأضعف في الحروب عادة، وهي النساء، فحفظت على نساء المسلمين سلامتهن بشجاعة نادرة مكّنتها من شرف كونها أول امرأة قتلت مشركًا في الإسلام حينما أراد اختراق حصن النساء في غزوة الخندق، هذه بطولة مطلقة لامرأة في الستين من عمرها، كانت في أعلى درجات إيمانها، وأعلى درجات محبَّتها لدين الله ولرسوله، وأعلى درجات دفاعها حق من حقوق الإنسان، وهو "حق الحياة". 

والقتل للدفاع عن النفس والغير خاصة في الحروب أمر مشروع حتى في مواثيق هذا العصر، وفي الشرع الإسلامي فمن رأى هجومًا على مسلم معصوم يريد قتله أو إذهاب بعض أعضائه، فإنه يجب عليه أن يدفع عنه. 

ففي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه"، وعقَّب بعض العلماء مثل ابن تيمية بقوله: "فإن كان عاجزًا عن الدفاع عنه أو هو مشغول بما هو أوجب منه، أو إن كان قادرًا وقد تعين عليه، ولا يشغله عمّا هو أوجب منه وجب عليه"، أي أنه طالما لا يوجد سبب أكثر وجوبًا وضرورة، كان الدفاع عن المسلم أمر واجب. 

وقال الغزالي: من قدر على حفظ مال غيره من الضياع من غير أن يناله تعب في بدنه أو خسران في ماله أو نقصان في جاهه وجب عليه، وهو أقل درجات حقوق المسلم، وهو أولى بالإيجاب من رد السلام.   

ملخص ما سبق أن دفاعها رضوان الله عليها أمر واجب، حتى وإن كان الإسلام لم يكلف المرأة بالجهاد، وبهذا تكون أدت واجبًا ببسالة تحسد عليها معرضة نفسها للقتل.

عن سلسلة "حقوقيات في زمن النبوة"

تظل الرؤية التحليلية للسلسلة حيز الاجتهاد في قراءة مواقف أوردتها كتب السيرة، فما أصبنا فيه أُثبنا عليه، وما كان غير ذلك فيقع تحت قاعدة "المجتهد المخطئ"، وهي قاعدة أرساها النبي الكريم في قوله: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"، بحسب ما ورد في الصحيحين.

ستنشر السلسلة في 20 حلقة طوال شهر رمضان 2023، على أن تُستكمل على مدار العام بمعدل حلقة أسبوعيًا.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية