خولة بنت ثعلبة.. أول محامية في الإسلام والمجادلة الأقوى لتحقيق العدالة

حقوقيات في زمن النبوة "17"

خولة بنت ثعلبة.. أول محامية في الإسلام والمجادلة الأقوى لتحقيق العدالة

ليس في التعاليم القرآنية ما يسوغ وضع المرأة الراهن في العالم الإسلامي، والجهل وحده من يفعل.. جهل المرأة حقوقها بصورة خاصة.. فالمرأة في نظر القرآن خُلقت من الجوهر الذي خلق منه الرجل، فلا امتياز له عليها، ولها استقلالية تامة عنه وهي ليست من ضلعه أو تابعا له، بل نصفه الشقيق كما يقول الحديث النبوي: “النساء شقائق الرجال”.

انطلاقًا من منطق التشريع الإسلامي السابق، كان للمرأة حق المشاركة في الحوار الذي تنتج عنه أحكام شرعية، بل حوار يستمر ويقوى ويمتد حتى “المجادلة”.. والمجادلة وفقًا لـ"لمعجم المعاني الجامع"، هي المناظرة لإلزام الخصم، وهي ما تقوم به مهنة المحاماة في عصرنا الحالي، وللقارئ أن يتخيل مناظرة أحد طرفيها امرأة، والطرف الآخر أقوى رجل في العالم الإسلامي، من بيده السلطة الدينية والدنيوية رسول الله وخاتم النبيين محمد بن عبدالله، تجادله امرأة وليس هذا فحسب، بل تستميت لعدوله عن قوله. 

وتلك المرأة، هي السيدة خولة بنت ثعلبة -رضي الله عنها وأرضاها- والقصة وثقها القرآن الكريم في سورة "المجادلة"، جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسرعة، وعلامات الخوف والارتباك تعلو وجهها، كيف لا، وأسرتها مهددة بالانهيار والتفكك، وبيتها مهدد بالضياع والتشرد، كل ذلك جراء كلمة غضب قالها لها زوجها "أنت عليَّ كظهر أمي"، كادت أن تقضي على أسرة بأكملها، وتُنهي حياة زوجين عاشا معًا زمنًا مديدًا، فجاءت إلى رسول -صلى الله عليه وسلم- علَّها تجد حلاً لمشكلتها، فوجدت بيته مفتوحًا، ليس بينه وبين الناس حجاب ولا بواب.   

وخولة امرأة صاحبة فضل ممتد على سائر المسلمين من الرجال والنساء، حيث أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون سببا في حكم شرعي مهم للغاية لكل النساء، كما هو مهم للرجال الذين يتسرعون وتصدر عنهم أقوال يحرمها الشرع لما تحمل من ظلم للمرأة.

ومحاورتها رضي الله عنها لنبي الأمة تكشف عن خصالها وكيف كانت، فالأمر يستلزم شجاعة ودرجة عالية من الوعي والثقافة، لأنها مجادِلة ومحاوِرة، ولمن؟ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن يقرأ أول السورة يتمنى أن يطلع على النص الكامل لحوار هذه المرأة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذه المرأة هي التي وضعت مشروع قانون الظهار في الإسلام، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول لها: طلقت، وهي تقول: ما طلقتُ، ولا طلقني! هي أول من فرّق بين الطلاق والظهار، بثقة وإصرار، حتى اشتكت إلى الله بعد أن اشتكت إلى الرسول، لقد أمضى الله لها مشروعها، ووافق عليه، أي نزل القرآن بتأييدها. 

ولخولة موقف آخر يستدعي التدبر، فهذا عمر أمير المؤمنين وخليفة رسول الله، يد الإسلام القوية المسلطة على أعتى الجبابرة، الهيبة التي يختبئ منها الشيطان ويخشاها الرجال، تستوقفه خولة في ساحة تسأله وتنتقده ويطأطئ هو رأسه، فسأله صاحب معه لمَ ذلك وأنت عمر، فيجيب عمر: لقد سمع الله قولها من فوق سبع سماوات فمن أنا لأعرض عنها. 

الحقيقة أن خولة رسخت حقوقًا عدة للمرأة المسلمة جمة، منها حق طلب العدالة والمجادلة فيها، والمشاركة في الحوار، وهذا يقول بقدرة المرأة العقلية على المشاركة في جلل الأمور وإن قولها مسموع، لا كما يشيع البعض بأنها ناقصة، هي كما الرجال، "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة" (البقرة: 228)، وليس الأمر كما يقول البعض: إن الإسلام قد ظلم المرأة، وحرمها الكثير من حقوقها، فها هي المرأة تتوجه بشكواها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قضية أسرية، ويسمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، ويُنـزِّل قرآنًا في أمرها، مبينًا المخرج من أزمتها، ما يؤكد منحها كامل الحق في طلب العدل في أمرها، وأمر أسرتها وأبنائها. 

كذلك في هذه القصة درس عملي لنساء الأمة الإسلامية ورجالها، يبين واجب المرأة في الدفاع عن مصالحها ومصالح أسرتها، وأن ذلك حق مشروع لها، لا ينبغي التفريط به بحال من الأحوال.

ما قامت به خولة رضي الله عنها منذ 1400 عام ويزيد، مارسته في العصر الحديث المصرية نعيمة الأيوبي، وهي أول محامية عربية، عرّفت النساء إلى مهن المحاماة عام 1933 على يد الأديب طه حسين، لتفتح باب المحاماة من بعدها للنساء بعدما كانت حكرًا على الرجال. 

كذلك كانت ماريلا ريكر "1840- 1920" ناشطة بمجال حقوق المرأة ومحامية ومفكرة حرة، كانت ريكر أول محامية في ولاية نيو هامبشاير، ومهدت بذلك الطريق أمام النساء للقبول في نقابة المحامين في نيو هامبشاير

خولة في القرآن

نالت خولة ما استحقته من مكانة إسلامية رفيعة، بأن كانت سببًا في نزول آيات قرآنية تتلى إلى ما شاء الله.

وقد بدأت هذه  الآيات في أول سورة "المجادلة" بصورة عجيبة من صور هذه الفترة في تاريخ البشرية، حيث فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة، فنشهد السماء تتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة مسلمة، لتقرِّر حكم الله في قضيتها، وقد سمع سبحانه وتعالى لهذه المرأة وهي تحاور رسول الله فيها، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها، وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته.

وتذكر كتب التفاسير بخصوص سبب نزول هذه الآيات، أن خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن الصامت رضي الله عنهما، كان بينها وبين زوجها ما يكون بين الرجل وزوجته من خلاف، وقد كان زوجها رجلاً سريع الغضب، فلما كان بينهما ما كان، حلف ألّا يقربها، وقال لها: أنت علي كأمي، وكانت هذه العادة من عادات الجاهلية التي حرمها الإسلام، لكن بقيت رواسبها عند البعض، ثم إن أوسًا بعد ما كان منه ما كان، أراد أن يقرب زوجته فامتنعت منه، ورفضت أن تستجيب له، حتى يأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويخبره بما كان، لكن أوسًا تحرج -منعه الحياء- أن يذكر لرسول الله ما جرى منه، فذهبت خولة بنفسها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبرته بالذي حدث، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أراك إلا قد حرمت عليه).

فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن زوجها لم يرد بقوله ذلك طلاقًا ولا فراقًا، فأجابها رسول الله ثانية: (ما أراك إلا قد حرمت عليه)، فلما سمعت جواب رسول الله التجأت إلى الله قائلة: اللهم إليك أشكو حالي وفقري. 

ثم أخذت تحاور رسول الله لتقنعه أنها تحب زوجها، ولا تريد فراقه، وأنه يبادلها نفس المشاعر، فما كان من رسول الله إلا أن أجابها ثالثة: (ما أراك إلا قد حرمت عليه)، ومع هذا، فإنها لم تيأس من رحمة الله، ومن ثم أخذت من جديد تحاور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن طريق التركيز على الجانب العاطفي والإنساني، لعلها تقنعه بإيجاد مخرج للمأزق الذي هي فيه، فتقول له: فإني وحيدة، ليس لي أهل سواه، إن لي صبية صغارًا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، فلا يجد لها رسول الله جوابًا إلا أن يقول لها: (لا أراك إلا قد حرمت).

فلما لم تجد لها جوابًا عند رسول الله، التجأت إلى الله قائلة: اللهم أنزل على لسان نبيك ما يقضي لي في أمري، فلم تكد تنتهي من دعائها، حتى أنزل الله على نبيه قوله سبحانه: "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير". 

ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أنزل الله عليه قرآنًا، بين فيه حكم هذه الواقعة، دعا زوجها أوسًا، وسأله أن يحرر عبدًا كفارة عن فعله، فأخبر أوس رسول -صلى الله عليه وسلم- أنه لا طاقة له بذلك، فسأله رسول الله إن كان يستطيع أن يصوم شهرين، فأجابه أنه لا يستطيع، لأنه رجل قد تقدم به العمر، والصيام يضعفه، حينئذ طلب منه رسول -صلى الله عليه وسلم- أن يتصدق على ستين مسكينًا، فأخبره أنه لا يملك من المال ما يتصدق به، فلما رأى عليه الصلاة والسلام من حاله ما رأى، تصدق عنه، وطلب منه أن يعود إلى زوجته.

وقصة المجادلة هذه مفصلة في المستدرك للحاكم "481/2"، وكذلك في مسند الإمام أحمد "46/1" والنسائي في النكاح باب الظهار "168/6" وعند الإمام البخاري في التوحيد باب قوله تعالى "وكان الله سميعاً بصيرًا"، وذكرت كذلك في طبقات ابن سعد "380/8".

خولة وأمير المؤمنين عمر

مما روي في شأن خولة رضي الله عنها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بها في زمن خلافته وهو أمير المؤمنين وكان راكباً على حمار، فاستوقفته خولة طويلاً ووعظته. 

وقالت له: "يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميرًا في سوق عكاظ ترعى الصبيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر ثم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف بالموت خشي الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب".

وعمر بن الخطاب رضي الله عنه واقف أمامها، يسمع كلامها في إمعان وقد أحنى رأسه مصغياً إليها... وقد كان برفقته أحد مرافقيه وهو جارود العبدي، فلم يستطع صبراً لمقال خولة لأمير المؤمنين، فقال لها في غضب: "قد أكثرت أيتها المرأة العجوز على أمير المؤمنين". 

وورد في مؤلف "نساء حول الرسول" لبسام محمد حمامي، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "دعها أما تعرفها؟ هذه خولة التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات وعمر أحق والله أن يسمع لها". 

وفي رواية أخرى: قيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الموقف، قال رضي الله عنه: "والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره ما زلت إلا للصلاة المكتوبة، إنها خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر".

الطلاق والظهار

الظهار عند الفقهاء ظاهر الأمر أن الظهار ليس طلاقًا كما كانوا يرونه في الجاهلية، وهو مختلف عن الطلاق، من حيث الصيغة، وقد ينتهي إلى الطلاق وقد لا ينتهي. 

وأوردت كتب الفقه أن الظهار قد يقع نتيجة غضب، أو يراد به الإضرار بالمرأة، بحيث تصبح لا هي متزوجة ولا هي مطلقة، وقد تفضل الطلاق لكي تتزوج من رجل آخر إذا كان وضعها يسمح لها بذلك، وإلا بقيتْ عند زوجها ولو لم يعاشرها، فإذا أراد الرجوع وجبتْ عليه الكفّارة "كفّارة يمين"، لكيلا يتسرع في مثل هذه التصرفات، وفي الطلاق قد يحتاج الرجل إلى عقد جديد ومهر جديد في بعض الحالات. 

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية