"فورين بوليسي": "اليسار الإسرائيلي" يتهم المدافعين عن حقوق الإنسان بالتخلي عنهم
يرى في العودة لـ"اتفاقيات إبراهيم" حلاً مستداماً للصراع
بعد شهر من هجوم حماس الذي أودى بحياة نحو 1400 إسرائيلي، لا يزال الإسرائيليون يعيشون في حالة من عدم الاتزان، حيث وجود أكثر من 200 ألف نازح، والخشية على مصير أكثر من 240 رهينة، فيما يجد اليسار الإسرائيلي نفسه عالقا بين صدمة عنف حماس، والحكومة العاجزة، وتجريد أولئك “الذين يدعون الدفاع عن حقوق الإنسان” من إنسانيتهم والتخلي عنهم، وفقا لمجلة "فورين بوليسي" الأمريكية.
ولا تزال البلاد عالقة بين الخطوط الأمامية في قطاع غزة، حيث يزيد عدد الشهداء الفلسطينيين على 11 ألف شخص، فضلا عن الصراع المستمر مع حزب الله اللبناني في الشمال، وتصاعد عنف المستوطنين في الضفة الغربية، حيث داهم مسلحون القرى، وأحرقوا الحقول، وأطلقوا النار على الفلسطينيين، ، ليرتفع عدد الشهداء في الضفة الغربية إلى 154 فلسطينيا استشهدوا بنيران إسرائيلية منذ 7 أكتوبر.
ولكن بعد شهر من الصراع، هل لا يزال من الممكن تخيل، ليس فقط وقف إطلاق النار، ولكن السلام؟ تكافح إحدى حركات السلام للتصالح مع وحشية 7 أكتوبر، لكن البعض يرى إمكانية الأمل بين الرماد.
عادة، خلال زمن الحرب، يتجمع المواطنون لدعم حكومتهم -ما يسمى بتأثير الالتفاف حول العلم- وتكون موجة من الوحدة الوطنية واضحة، ويساعد الإسرائيليون المزارعين في الجنوب في الحصاد، وتطوع أفراد من المجتمع الأرثوذكسي المتطرف للطهي والخدمة في جيش الدفاع الإسرائيلي، وتبرعت الأمهات بحليب الثدي للأطفال الأيتام.
وتشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 50% من الإسرائيليين قد تطوعوا منذ بدء الحرب، كل ذلك في الوقت الذي يشارك فيه الجمهور والجيش في تنشيط كبير لجنود الاحتياط.
لكن الشعور بالعزم الشعبي يقف في تناقض حاد مع التراجع العميق في الثقة تجاه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومته، حيث إن ثقة الجمهور في نتنياهو في أدنى مستوياتها التاريخية.
بدأ بيت شعر من حاييم نحمان بياليك، الذي يعتبر على نطاق واسع الشاعر الوطني لإسرائيل، في الانتشار على وسائل التواصل الاجتماعي والذي يشير إلى الغضب من الحكومة: "إنها الرياح غير المرئية التي تدفع السفينة إلى الأمام، وليس الأشرعة التي ترفرف بصخب فوق الصاري".
على الرغم من مرونة المجتمع المدني، من الصعب تخيل ما سيأتي بعد ذلك، لم يندمج الإحباط الشعبي في المظاهرات المنظمة التي شهدناها في الماضي، كما حدث في أعقاب مذابح صبرا وشاتيلا، عندما دعا مئات الآلاف من الإسرائيليين وزير الأمن آنذاك أرييل شارون إلى الاستقالة، أو بعد الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973، مع احتجاج أدى جزئيا إلى استقالة رئيسة الوزراء غولدا مائير، كما أنها لم تضاهِ حجم حركات الاحتجاج الأخيرة، مثل المظاهرات ضد محاولة الإصلاح القضائي.
قال المدير التنفيذي لـ"مولاد" -وهي مؤسسة فكرية ليبرالية- عيدو ديمبين، في مقابلة مع فورين بوليسي: "المجتمع الإسرائيلي في حالة صدمة.. ما زلنا نتعرف على الجثث، وما زلنا نحضر الجنازات.. يشعر الناس أن هذا ليس الوقت المناسب لاستئناف الاحتجاجات"، وأضاف: "علاوة على ذلك، هناك انفصال عميق بين رغبة الجمهور في رحيل نتنياهو والقيادة السياسية، التي لم تعترف بعد بهذا المطلب الملح".
وكان بعض الكيبوتسات الأكثر تضررا من هجوم حماس، مثل بئيري ونحال عوز وهوليت، هي معاقل للأيديولوجية اليسارية، وكان من بين القتلى حاييم كاتسمان، وهو ناشط سلام، وكان من بين المختطفين فيفيان سيلفر، وهي مدافعة مخلصة عن السلام.
قتل المئات، بمن فيهم العديد ممن كرسوا حياتهم من أجل السلام والتضامن العربي اليهودي والسعي لإنهاء الاحتلال، وكان معوز ينون -الذي قتل والداه- صريحا بشأن دعمه للسلام.
الغضب الشعبي من الحكومة اليمينية، مع أفراد مثل وزير التراث عميحاي إلياهو، الذي اقترح بشكل مثير للجدل إسقاط قنبلة ذرية على غزة، واضح، حيث تم طرد الوزراء من المستشفيات من قبل أقارب المصابين.
قال عضو الكنيست عن حزب العمل، نعمة لازيمي، في مقابلة مع فورين بوليسي: "نحن نشهد تفكك العقيدة اليمينية القائلة إن إدارة الصراع بلا نهاية مع إضعاف أصوات الاعتدال أمر مستدام"، وأضاف "لقد مكن نتنياهو وزملاؤه حماس منذ فترة طويلة، لأنها خدمت مصلحتهم من خلال وقف التقدم نحو الحوار السياسي.. وقد قوض هذا النهج السلطة الفلسطينية بشكل كبير وأدى إلى واحدة من أخطر الأزمات منذ تأسيس إسرائيل"، ومع ذلك، هناك القليل من الرغبة العامة لوقف إطلاق النار.
وفقا لاستطلاع للرأي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، على الرغم من أن الإسرائيليين يفتقرون إلى الوضوح بشأن أهداف العملية في غزة فيما يتعلق بأهداف الحكومة، فإنهم يدعمون الجيش ومهمته.
وأصدر رئيس ائتلاف الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة اليساري، أيمن عودة، الذي أصدر مع 35 منظمة حقوقية يهودية وعربية إسرائيلية رسالة مفتوحة، لم يدع أي زعيم إسرائيلي آخر إلى وقف إطلاق النار.
ينظر العديد من الإسرائيليين إلى الحرب على أنها إجراء ضروري للقضاء على تهديد حماس، ولا يضعون الكثير من الأهمية على حياة الفلسطينيين.
وأظهر الاستطلاع نفسه الذي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية أن ما يقرب من 48% من الإسرائيليين اليهود الذين شملهم الاستطلاع يعتقدون أن معاناة المدنيين الفلسطينيين يجب ألا تؤثر على استراتيجيات الصراع في غزة، ويقول 36% إنه ينبغي إعطاؤها الاعتبار "ليس كثيرا"، وفي الوقت نفسه، يشعر 83% من العرب الإسرائيليين بالموافقة على أنه ينبغي أخذ ذلك بعين الاعتبار.
هناك عدة أسباب لذلك، بخلاف الشعور بالغضب من الهجمات، أولا، أدى الافتقار إلى القيادة إلى قيام الإسرائيليين بوضع ثقة مبالغ فيها في "جيش الدفاع الإسرائيلي"، إنهم يثقون به لأنه مع استدعاء 300 ألف من جنود الاحتياط، يعرف معظم الإسرائيليين شخصا يخدم.
ثانيا، الإسرائيليون ليسوا على دراية بحجم الدمار في غزة، قال "ديمبين": "الإسرائيليون هم من بين الأقل وعيا بما يحدث في غزة".
قامت وسائل الإعلام الإسرائيلية، التي تأثرت بنتنياهو على مر السنين، بتطبيع الخطاب اليميني المتطرف، ويشمل ذلك أشخاصا مثل الباحث إلياهو يوسيان، الذي اقترح أن يتبنى الجيش الإسرائيلي أنماط السلوك الوحشي لمقاتلي حماس: "صفر أخلاق"، كما أعلن في برنامج تلفزيوني في وقت الذروة "لقد أصبحت الليبرالية عبادة الشيطان".
ارتفعت التصنيفات للقناة 14، وهي قناة تلفزيونية موالية لنتنياهو اتخذت خطا قوميا، وحتى القناة 12، القناة الأكثر شعبية، لا تقدم سوى القليل من التغطية للقصف المستمر في غزة، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن الصحفيين إما بحاجة إلى الحصول على إذن من السلطات الإسرائيلية لدخول القطاع أو الدخول بطريقة أخرى.
وكتبت شيمريت مائير، التي كانت مستشارة لرئيس الوزراء اليميني السابق نفتالي بينيت، "قرر شخص ما منذ حوالي 20 عاما أن تغطية الجانب الآخر يسارية، ومنذ ذلك الحين، كانت تغطية المنظور المعارض ضئيلة.. وهذا له آثار استراتيجية، على سبيل المثال، الثمن الباهظ الذي دفعته غزة بالفعل بالقصف.. الشعور السائد في إسرائيل هو أنه حتى ندخل برا، لم يحدث شيء".
وكما قوبلت الاحتجاجات ضد الوضع، أو حتى التعبير عن التضامن مع الرهائن، بالرقابة أو القمع أو حتى العنف، حيث ألقي القبض على 4 مشرعين عرب إسرائيليين سابقين بسبب خطط لاحتجاجات مناهضة للحرب، وتم إيقاف أوري هوريش، الأستاذ في كلية أحفا، عن وظيفته بسبب عمله ضد الحرب، بالإضافة إلى ذلك، حظرت الشرطة الاحتجاجات المناهضة للحرب في مدينتي أم الفحم وسخنين.
اندلع العنف خلال احتجاج في تل أبيب عندما اتهم أحد المارة والد أحد الأطفال المختطفين بأنه "خائن" وقال له إنه يتمنى "أن تموت ابنته".
وكتبت الناشطة اليسارية يونا روزمان: "على عكس الإفلات من العقاب الذي منحته الشرطة للغوغاء اليمينيين المتطرفين، يواجه النشطاء اليساريون الاعتقال لأقل من ذلك بكثير".
وكان وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير استفزازيا بشكل خاص، حيث حاول، وهو ينتمي إلى حزب كاهاني سابق -وهو حزب محظور يدافع عن دولة ثيوقراطية يهودية ويدعم ضم الأراضي المحتلة- الذي أدين بالتعبير عن تعاطفه مع الإرهاب، التحريض على العداء ضد السكان العرب في إسرائيل في بداية الحرب من خلال الادعاء بوجود مؤشرات على أعمال شغب مخطط لها.
وعندما لم يتحقق ذلك، دعا بن غفير إلى تبسيط عملية حصول المواطنين على الأسلحة النارية، وفي الأسبوع الماضي فقط، شوهد مغني راب إسرائيلي يدعى "الظل"، المعروف بآرائه اليمينية المتطرفة ونشاطه على الإنترنت، على ممر تل أبيب وهو يحمل بندقية.
قال مدير منظمة "أومديم بياتشا" ألون لي غرين: "لسوء الحظ، هناك أولئك الذين اتخذوا هذه المأساة فرصة للانتقام والعنف"، وأضاف في الوقت الحالي، نحن نركز على التضامن اليهودي العربي.. نحن قادرون على أن نظهر للناس أن المجتمع العربي يشعر بالفزع بنفس القدر من قتل الإسرائيليين، وأننا في هذا معا".
يشعر اليسار -المهمش بالفعل محليا- بمزيد من الخيانة والغربة من قبل اليسار العالمي الذي غالبا ما انخرط في الاعتذار عن المذبحة، ووضعها في إطار آخر بين الفلسطينيين المضطهدين ومضطهديهم الإسرائيليين، يجد اليسار الإسرائيلي نفسه عالقا بين صدمة عنف حماس، والحكومة العاجزة، وتجريد أولئك الذين يدعون الدفاع عن حقوق الإنسان من إنسانيتهم والتخلي عنهم.
ولكن على الرغم من غياب القيادة، وقمع الآراء المناهضة للحرب، والشعور العميق بالاغتراب عن المجتمع الدولي، هناك علامات على اعتراف متزايد بعواقب الصراع وإمكانية قيام المجتمع المدني والجهات الفاعلة الدولية بتمهيد طريق جديد نحو الحل.
وهناك وعي متزايد بين الإسرائيليين والمجتمع الدولي بأن حماس متميزة عن الشعب الفلسطيني وتطلعاته إلى تقرير المصير، لقد عززت تصرفات وتعليقات قادة حماس مكانة الحركة كمنبوذة، بغض النظر عما إذا كانت إسرائيل قادرة على "محوها".
ومما يدل على هذا المنظور اقتراح رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي، بأن السلطة الفلسطينية يجب أن تتولى الحكم في غزة إذا هزمت حماس، في حين أنه اقتراح مثير للجدل، إلا أنه يؤكد اعتراف بعض الإسرائيليين بالسلطة الفلسطينية كهيئة حكم شرعية للفلسطينيين.
وبتشجيع من المكاسب الانتخابية الأخيرة -التي شهدت صعود بن غفير إلى منصب وزير الأمن الداخلي وتولي بتسلئيل سموتريتش منصب وزير المالية (وكلاهما خضع للتحقيق من قبل الشاباك في الماضي)- تجاوزت الحركة الاستيطانية حدودها، وقللت من شأن تصميم التيار الليبرالي السائد في إسرائيل.
وبدأ الجمهور الليبرالي يربط النقاط بين الهجوم على المحكمة العليا من قبل الحكومة وهجمات المستوطنين في القرى الفلسطينية مثل حوارة، "أين كنت في حوارة؟" أصبح هتافا في الاحتجاجات المناهضة لإصلاح القضاء.
كما أصبح الجمهور يدرك أنه في 7 أكتوبر، تم نشر كتيبتين فقط للحفاظ على الأمن على حدود غزة، في حين تم تخصيص 32 وحدة لحماية المستوطنات.
وقد سلط هذا التجاوز من قبل قيادة المستوطنين الضوء عن غير قصد على التهديدات المباشرة للديمقراطية التي ينظر إليها العديد من الإسرائيليين الآن بوضوح متزايد.
لا يستفيد المستوطنون وحلفاؤهم من الاحتلال فحسب، بل يؤيدون أيضا أجندة تؤدي إلى تآكل القيم الديمقراطية، إنهم يروجون لنموذج للحكم الإسرائيلي يتناقض بشكل حاد مع القيم التعددية والديمقراطية التي تعتز بها شريحة كبيرة من السكان.
وقد يدفع هذا العداء الإسرائيليين إلى الاعتراف بأن كبح جماح المبادرة الاستيطانية، وتفكيك البؤر الاستيطانية غير القانونية، ومنح السلطة الفلسطينية المزيد من الحكم الذاتي ليست مجرد قضية حزبية، بل إنها مسألة ذات أهمية وجودية.
وثمة عامل قوي آخر يتمثل في النشاط المتجدد للبيت الأبيض في السعي إلى حل الصراع من خلال حل مستدام طويل الأجل، مع انخفاض معدلات تأييد الرئيس جو بايدن محليا، في إسرائيل، حظي دعمه المطلق للشعب الإسرائيلي، وانتقاداته للقيادة، باحترام حتى من أولئك الذين كانوا متشككين في السابق.
وأظهر استطلاع للرأي أجرته صحيفة معاريف أنه إذا أجريت الانتخابات اليوم فإن ائتلافا وسطيا سيحصل على 78 مقعدا، وهذا من شأنه أن يمنحها تفويضا للحكم بفعالية في اليوم التالي.
النموذج القديم لليمين/ اليسار قد مات في الوقت الحالي، وهذا يمكن أن يعطي البيت الأبيض وسيلة لإنشاء حزمة يمكن أن تناسب مجموعة واسعة من السكان الإسرائيليين.
صرح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بأن غزة "يجب عدم إعادة احتلالها" وناقش سيطرة السلطة الفلسطينية على غزة عندما تنتهي الحرب، مع مؤشرات بموافقة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وبحسب المجلة هناك بعض الاحتمال لنجاح هذا الاقتراح
وهكذا، في خضم هذه الأزمة، فتحت نافذة لإيجاد حل مستدام للصراع، إن أعضاء "اتفاقيات إبراهيم"، إلى جانب الدول التي تفكر في تطبيع العلاقات مع إسرائيل -مثل المملكة العربية السعودية- لديهم تأثير محتمل في عقد مؤتمر دولي لذلك.
عندما يتعلق الأمر باستعداد الجمهور الإسرائيلي لدعم عملية تؤدي إلى السيادة الفلسطينية، فإن ديمبين متفائل بحذر.
وأوضح: "أعتقد نعم، قد ينضمون إلى الفريق، لكن يجب أن يكون نهجا تدريجيا محسوبا يطمئن الإسرائيليين بأن سلامتهم في المقدمة والوسط، وليس مجرد دفعة أمريكية من أجل السلام الإقليمي.. يبدو أن الإسرائيليين يستعدون لفكرة السلام والتعايش عندما يكون هناك اقتراح قوي قيد التشغيل ويميلون إلى رفضه عندما لا يكون هناك شيء ملموس في الأفق".