"فورين بوليسي": العصر النازي لا يزال يطارد مدينة "دريسدن" الألمانية
"فورين بوليسي": العصر النازي لا يزال يطارد مدينة "دريسدن" الألمانية
في صباح أحد أيام منتصف شهر يناير، استيقظ سكان مدينة دريسدن بألمانيا، ليجدوا أن لوحة من الحجر الرملي تخلد ذكرى ضحايا قصف المدينة في الحرب العالمية الثانية قد اختفت، ولعقود من الزمن، كان يقف في ساحة ألتماركت بالمدينة لإحياء ذكرى آلاف المدنيين الألمان الذين لقوا حتفهم في الهجوم، وجاء في النقش: "إن أهوال الحرب، التي انتقلت من ألمانيا إلى جميع أنحاء العالم، عادت أيضاً إلى مدينتنا".
ووفقا لمجلة "فورين بوليسي" تصدرت إزالة اللوحة عناوين الصحف في المدينة وخارجها، وكانت مجلة "كومباكت" الألمانية اليمينية المتطرفة غاضبة: فقد وصفت مقالات متعددة على الموقع الإلكتروني للمجلة عملية الإزالة بأنها إهانة للضحايا، وأشارت في البداية إلى أن الناشطين اليساريين كانوا وراءها لأنهم لم يحترمون الأرواح الألمانية التي فقدت.
وفي النهاية، اتضح أن المدينة نفسها قد أزالت اللوحة كجزء من خططها المستمرة لإصلاح العناصر التذكارية في الساحة، وقال عمدة دريسدن ديرك هيلبرت في بيان إن المدينة "تصرفت بشكل سيئ للغاية".
وقد أوضح الحادث، الذي جاء قبل أسابيع من الذكرى التاسعة والسبعين للتفجير، مدى احتدام المشاعر في هذا الوقت من العام في مدينة دريسدن، وفي مساء يوم 13 فبراير 1945، قصفت قوات الحلفاء المدينة، فحول مركزها التاريخي إلى أنقاض في ليلة نارية من الانفجارات، وتشير التقديرات الحديثة إلى أن إجمالي عدد القتلى يبلغ حوالي 25 ألف شخص، تم تدمير المدينة نفسها، وهي مركز ثقافي على طول نهر إلبه وقلب المملكة الساكسونية السابقة.
في شهر فبراير من كل عام، منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، نظمت جماعات النازيين الجدد "مسيرة حداد" على الضحايا، حيث شق مئات المشاركين طريقهم عبر المدينة، وهم يجادلون بأن القصف كان جريمة حرب وأوضح مثال على أن الألمان لم يكونوا الجناة فقط خلال الحرب.
ومن المقرر أن تتم هذه المسيرة هذا العام اليوم الأحد، رداً على ذلك، سيتجمع سكان دريسدن الذين يعارضون اليمين المتطرف في إحياء ذكرى مضادة في 13 فبراير، من خلال بناء "سلسلة بشرية" حول وسط المدينة كبيان ضد كراهية الأجانب.
يشهد كلا الحدثين عادةً رد فعل من المتظاهرين المناهضين، ومن المتوقع أن تكون المظاهرات مثيرة للجدل بشكل خاص هذا العام، حيث ارتفعت شعبية حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف في البلاد واكتسبت سلسلة من الاحتجاجات المناهضة لحزب البديل من أجل ألمانيا زخما في جميع أنحاء البلاد.
وفي العالم الناطق باللغة الإنجليزية، أصبح قصف مدينة دريسدن رمزاً للتناقض بشأن تصرفات قوات الحلفاء أثناء الحرب والخسائر في أرواح المدنيين، بما في ذلك انتصارهم، لكن الاحتجاجات تظهر أنه داخل ألمانيا، كان إرث دريسدن في قلب نقاش مختلف تمامًا، نقاش حول الكيفية التي ينبغي للبلاد أن تنظر بها إلى خسائرها ومعاناتها خلال الحرب.
وكما قالت عالمة الاجتماع المقيمة في دريسدن، كلوديا جيرزاك: "كانت دريسدن دائمًا المكان الرئيسي الذي نشأ فيه خطاب الضحية الألماني".
وجعل النهج الشامل الذي تبنته ألمانيا للاعتراف بذنبها في المحرقة، منها نموذجاً لثقافة الذاكرة في جميع أنحاء العالم، يعد الشعور بالذنب والمسؤولية من المبادئ الأساسية للهوية الحديثة للبلاد: يزور الطلاب معسكرات الاعتقال ويتلقون تعليمًا شاملاً حول العصر النازي، وتُذكِّر الآثار واللوحات التذكارية في جميع أنحاء البلاد المارة بالجرائم النازية، ويشارك السياسيون بانتظام في المناسبات التذكارية.
ومع ذلك، قالت "جيرزاك"، إن مدينة دريسدن، باعتبارها رمزًا معروفًا للدمار والموت في ألمانيا، تمكنت من "بناء هوية الضحية الخاصة بها"، وفي أعقاب تفجير عام 1945، زعمت الدعاية النازية أن ما يصل إلى 200 ألف شخص لقوا حتفهم، مصورة زوال المدينة كدليل على فساد الحلفاء، وأضافت إن دريسدن، في روايتهم، كانت "مدينة فنية وثقافية بريئة تم تدميرها بطريقة أو بأخرى على أي حال".
واستمرت رواية الضحية هذه، ولو لأسباب مختلفة، في ظل حكومة ألمانيا الشرقية الشيوعية، وقد صورت مدينة دريسدن -وهي مدينة في ألمانيا الشرقية- كضحية لدعاة الحرب من الحلفاء الذين أصبحوا الآن حلفاء ألمانيا الغربية، وتضمن إحياء ذكرى القصف عبارات مثل "أمس دريسدن، اليوم كوريا، وغدًا العالم كله".
في التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بينما كانت ألمانيا الشرقية السابقة تكافح مع صعود حركات النازيين الجدد بعد إعادة توحيد ألمانيا، أعاد النازيون الجدد إحياء روايات الرايخ الثالث عن الضحية الألمانية وبدؤوا في تنظيم مسيرات حداد بمناسبة ذكرى تفجيرات دريسدن.
وأصبحت المناقشات حول عدد الضحايا في الهجوم محتدمة للغاية لدرجة أن المدينة أنشأت لجنة تاريخية لدراسة هذه القضية، والتي وجدت في تقريرها لعام 2010 أن النازيين قد ضخموا عدد القتلى بنحو 8 مرات.
وقال عضو اللجنة التاريخية، لإذاعة MDR الألمانية، ماتياس نيوتزنر: "تظل مدينة دريسدن فريدة من نوعها من ناحية واحدة، وهي هذه الشحنة الرمزية الدعائية القوية".
وغالبا ما تكون الخطوط غير واضحة بين اليمين السياسي المتطرف (حزب البديل من أجل ألمانيا) وشبكة الجماعات اليمينية المتطرفة في ألمانيا، والتي يخضع العديد منها للمراقبة من قِبَل جهاز الاستخبارات المحلي بسبب أنشطة مناهضة للديمقراطية، لكن كلاهما يديم روايات مماثلة حول ثقافة الذاكرة الألمانية ويشيران إلى مدينة دريسدن للقول إن ألمانيا يجب أن تتوقف عن لوم نفسها بلا داع على ماضيها.
وقام السياسيون من حزب البديل من أجل ألمانيا بإضفاء طابع نسبي على تاريخ الحقبة النازية لسنوات.. ذات يوم، وصف ألكسندر جاولاند، الزعيم المشارك السابق لحزب البديل من أجل ألمانيا، العصر النازي بأنه "ذرة من فضلات الطيور" دامت 12 عاما في تاريخ ألمانيا اللامع، عندما ألقى سياسي حزب البديل من أجل ألمانيا، بيورن هوكي، خطابه سيئ السمعة في عام 2017 والذي دعا فيه إلى "تحول 180 درجة" في ثقافة الذاكرة الألمانية، فعل ذلك في دريسدن.
وقال هوكه، في إشارة إلى النصب التذكاري للمحرقة في برلين: "نحن الألمان، شعبنا، الشعب الوحيد في العالم الذي زرع نصبًا تذكاريًا للعار في قلب عاصمته.. وحتى يومنا هذا، لا نستطيع الحداد على ضحايانا".
في السنوات الأخيرة، كرر قادة حزب البديل من أجل ألمانيا تكرار نفس نقاط الحديث في العصر النازي حول عدد الضحايا في دريسدن مثل الشخصيات اليمينية المتطرفة، وقبل الذكرى الخامسة والسبعين للتفجيرات، في عام 2020، تناقض الزعيم المشارك لحزب البديل من أجل ألمانيا، تينو شروبالا، مع استنتاجات لجنة دريسدن التاريخية بشأن عدد القتلى، وقال لمجلة دير شبيغل: "أفترض أن هناك حوالي 100 ألف شخص"، مضيفاً أن "جدتي وأبي وغيرهم من الشهود المعاصرين أخبروني عن الشوارع الممتلئة قبل الهجوم وأكوام الجثث بعد ليلة القصف".
لفترة طويلة، كانت الذكرى الرسمية للمدينة في 13 فبراير عبارة عن إحياء ذكرى صامتة على أنقاض كنيسة السيدة العذراء، حيث كانت الحشود تتجمع بهدوء في الساحة التي أمامها، وكان الهدف هو تصوير الاحتفال على أنه دعوة للسلام، وهو إطار تعزز عندما ألقى المستشار الألماني هيلموت كول خطابا رئيسيا في الموقع في أواخر عام 1989، واصفا بقايا الكنيسة التي تعرضت للقصف كرمز لتصميم ألمانيا الموحدة على التعلم من تجربتها.
ولكن مع تزايد وجود النازيين الجدد في هذا التاريخ، مارست الأحزاب السياسية الرئيسية والمجتمع المدني ضغوطًا متزايدة على مسؤولي المدينة للقيام بدور أكثر نشاطًا في مكافحة إساءة استخدام الذكرى، وكانت هذه في نهاية المطاف هي الطريقة التي أتى بها الاحتفال الحالي، "سلسلة بشرية" تحيط بوسط المدينة، في عام 2010.
وتتلخص فكرة هذا التجمع، الذي بدأ كشكل شعبي من أشكال إحياء الذكرى واجتذب ما يقرب من 10 آلاف شخص في العام الماضي، في تطويق وحماية المدينة من سوء استخدام اليمين المتطرف في الذكرى السنوية الهامة.
وقد تكون احتفالات كلا الجانبين هذا العام أكبر من المعتاد، لأنها تأتي في وقت يشهد توترات سياسية متصاعدة.