"البحر أمامكم".. اللاجئون السوريون في لبنان ضحايا لعبة الضغوط السياسية
غداة استئناف "العودة الطوعية إلى سوريا"
"لبنان لم يعد يحتمل هذا العبء".. لم تقتصر مفردات هذه العبارة على تصريحات أطلقتها القيادات اللبنانية، بل كانت أشبه بحالة غليان شعبي يطفو تارة ويغوص تارة أخرى تحت أقدام اللاجئين السوريين على مدى أكثر من 12 عاما.
والاثنين، دعا الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، سلطات لبنان إلى "فتح البحر" أمام اللاجئين السوريين، بهدف الضغط على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية للمساعدة على الإعادة الطوعية إلى بلادهم.
وقال نصر الله في خطاب متلفز: "لنكن أمام قرار وطني يقول فتحنا البحر، أيها النازحون السوريون، أيها الإخوة كل من يريد أن يغادر إلى أوروبا، إلى قبرص هذا البحر أمامكم. فاتخذوه سفناً واركبوه، ما في (لا يوجد) بأيدي لبنان شيء ثانٍ".
وأوضح: "لم نطرح يوماً أن نجبر النازحين السوريين على أن يركبوا السفن.. نقول أعطوهم هذا الهامش.. هم الآن ممنوعون ولذلك يذهبون عبر التهريب وفي قوارب مطاطية ويغرقون في البحر لأن الجيش اللبناني ينفذ قرارا سياسيا بمنع الهجرة".
وتأتي تصريحات الزعيم الشيعي اللبناني حسن نصر الله، غداة استئناف بلاده تسيير رحلات العودة الطوعية للنازحين السوريين من الأراضي اللبنانية إلى قراهم في سوريا، عقب توقف دام نحو 18 شهرا.
ومع اندلاع الصراع بسوريا في 2011، تحول لبنان إلى ملاذ آمن لملايين الفارين من أتون الحرب بحثا عن الأمن والاستقرار، لكن أعداد اللاجئين تزايدت بكثافة في هذا البلد الذي يواجه أزمة اقتصادية طاحنة منذ عام 2019.
ويقول لبنان إنه يستضيف نحو مليوني سوري، أقل من 800 ألف منهم مسجلون لدى الأمم المتحدة، وهو أعلى عدد من اللاجئين في العالم نسبة لعدد السكان الذي لا يتجاوز 6 ملايين نسمة.
ومنذ بداية النزوح تنظر السلطات اللبنانية إلى ملف اللاجئين السوريين بوصفه عبئاً لا تقوى على تحمله، لا سيما في ظل تأزم الأوضاع عقب انفجار مرفأ بيروت وحدوث انهيار اقتصادي مزمن.
نبرة عدائية
وخلال قرابة 10 سنوات، يتصاعد في لبنان نبرة العدائية وعدم القبول تجاه اللاجئين السوريين، وسط شبه إجماع من قوى سياسية رئيسية على ضرورة إيجاد "حل جذري" بإعادتهم إلى بلدهم.
تزامن ذلك مع إغلاق مئات المحال للاجئين السوريين في لبنان بدعوى مخالفتهم شروط الإقامة والعمل، وسط مخاوف دولية بشأن قدرة اللاجئين على الموافقة بحرية على العودة إلى بلادهم، لا سيما أن سوريا لا تزال غير آمنة.
وخلال الأشهر الماضية، شنت قوات الأمن اللبنانية أكثر من 70 مداهمة استهدفت اللاجئين السوريين في المخيمات والمناطق السكنية في جميع أنحاء البلاد في ربيع عام 2023، حيث اعتقلت ما لا يقل عن 1455 سوريّاً، بينهم 712 تم ترحيل، بحسب تقارير أممية.
وبدأ لبنان في تأمين عمليات العودة الطوعية للاجئين السوريين في عام 2017 رغم تحذيرات أممية ودولية آنذاك من خطورة الأوضاع في سوريا واحتمال تعرض العائدون إلى مضايقات أو انتهاكات.
ويناقش البرلمان اللبناني حزمة مساعدات أعلن عنها الاتحاد الأوروبي بقيمة مليار يورو مطلع الشهر الحالي، معولاً على "تعاون" السلطات لضبط الحدود ومكافحة عمليات تهريب اللاجئين، بعد ازدياد عدد القوارب المتجهة إلى أوروبا.
والأسبوع الماضي، أوضحت سفيرة الاتحاد الأوروبي ساندرا دو وال، أن الحزمة ستسمح "بمواصلة تمويل قطاعات رئيسية مثل الحماية الاجتماعية والصحة والمياه والتعليم"، مضيفةً أن ذلك "لا يشمل اللاجئين السوريين فحسب، بل أيضاً العديد من اللبنانيين الذين يستفيدون من برامج المساعدة الاجتماعية الممولة من الاتحاد الأوروبي".
وبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يحق للاجئين العودة إلى وطنهم في الوقت الذي يختارونه، إذا قرروا ذلك بناءً على الغاية، ويُعتبر قرار العودة فرديًّا يتخذه اللاجئون أنفسهم.
ولا تقوم المفوّضيّة حاليًا بتنظيم العودة إلى سوريا، ولكن يمكنها تقديم بعض الدعم للّاجئين الّذين اتّخذوا بأنفسهم قرار العودة إلى ديارهم الآن، كما تواصل أيضًا العمل مع السلطات اللبنانيّة والشّركاء لضمان الاستمرار في استضافة اللاجئين في لبنان الذين لم يتخذوا قرارًا بالعودة إلى سوريا حتّى يتمكنوا من العودة إلى ديارهم بأمان وكرامة.
جحيم العودة
وتحذر منظمات حقوقية ودولية من عمليات ترحيل "قسرية"، وتشدد على أن توقف المعارك في سوريا لا يعني أن ظروف عودة اللاجئين باتت آمنة في ظل بنى تحتية متداعية وظروف اقتصادية صعبة وملاحقات أمنية وعمليات توقيف تطال أحيانا عائدين إلى سوريا.
وفي فبراير الماضي، أفادت المفوضية الأممية السامية لحقوق الإنسان، بتعرض العديد من السوريين الذين فروا من الحرب لانتهاكات وتجاوزات جسيمة عند عودتهم إلى سوريا، سواء من قبل الحكومة أو سلطات الأمر الواقع أو الجماعات المسلحة الأخرى في جميع أنحاء البلاد.
وذكر التقرير الأممي أن أبرز تلك الانتهاكات هي الاحتجاز التعسفي، والتعذيب، وسوء المعاملة، والعنف الجنسي والمبني على النوع الاجتماعي، والإخفاء القسري، والاختطاف، كما تعرّض أشخاص لانتزاع أموالهم وممتلكاتهم، ومصادرة أملاكهم، وحرمانهم من بطاقات الهوية وغيرها من الوثائق.
وأوضح أن السكان السوريون يواجهون مثل هذه الانتهاكات والتجاوزات لحقوق الإنسان، غير أن العائدين معرضون لهذه المخاطر أكثر من غيرهم، لا سيما النساء منهم، في ظلّ تصاعد عمليات ترحيل السوريين من بلدان أخرى.
ونقل التقرير الأممي عن أحد العائدين قوله إن "قوات الأمن التابعة للسلطات المحلية اعتقلته بعنف بمجرد عودته إلى سوريا واقتادته إلى مكان مجهول، حيث ظل معصوب العينين لمدة يومين، كما تعرض للضرب المبرح مراراً وتكراراً".
ووصفت إحدى العائدات كيف احتجزتها قوات الأمن الحكومية مع ابنتيها مدة أسبوع، أثناء محاولتهن مغادرة سوريا للمرة الثانية، وقالت إن عائلتها اضطرت لدفع رشوة قدرها 300 دولار أميركي لتسريع إطلاق سراحهن.
وتواجه النساء العائدات قيوداً تمييزية تفرَض تحديداً على الحق في التنقل بحرية واستقلالية، كما يوثق التقرير حالات أجبرت فيها النساء على العودة إلى سوريا من قبل أفراد الأسرة الذكور بهدف تقييم ظروف العودة الآمنة والمستدامة لبقية أفراد الأسرة.
وجاء في التقرير أن المصاعب الاقتصادية، وسوء المعاملة، والخطاب العدائي، المتزايد ضد اللاجئين، والمداهمات والاعتقالات الجماعية في بعض البلدان المضيفة أجبرت الكثيرين على العودة إلى سوريا.
وحثت الأمم المتحدة آنذاك الحكومة السورية وجميع أطراف النزاع الأخرى على منح الهيئات الأممية والمنظمات الدولية وغير الحكومية إمكانية الدخول إلى البلاد من دون أي عوائق بهدف رصد أوضاع السوريين العائدين إلى ديارهم.
صرخات افتراضية
ودشن مغردون على منصة "X" هاشتاغ (وسما) باسم "لا للترحيل القسري للسوريين"، و"سوريا ليست آمنة"، فيما نشر آخرون صورا ومقاطع مصورة لإجبار عشرات الأسر السورية في تركيا ولبنان على صعود شاحنات لترحيلهم قسرا إلى سوريا رغما عنهم.
كما انتشرت مقاطع مصورة لمئات السوريين المكبلين بالأغلال الحديدية ومستلقين على الأرض أمام المعابر الحدودية استعدادا للدخول إلى سوريا، ما أثار تعاطفا دوليا لرفض تعرضهم للعنف وإجبارهم على العودة إلى بلادهم.
وسجل الناشط السوري عمر الشغري، مقطعا مصورا عبر منصة "X" يُطالب فيه بإيصال صوت السوريين في لبنان، قائلا: "تم حرق العديد من مخيمات اللاجئين. والقوات المسلحة والمدنيون يخطفون اللاجئين السوريين لتعذيبهم وإجبارهم على العودة، والسياسيون في لبنان يشجعون على العنف".
وأضاف الشغري: "يحاولون تجريد السوريون من إنسانيتهم. لبنان يتحول بسرعة إلى دولة معادية للاجئين، حيث يواجه السوريون خطرا شديدا الآن، ولا أحد يتحدث عنهم ولا أحد يحميهم، وهم لا يجرؤون على التحدث وأنهم مجبرون على التسجيل في القوائم من أجل العودة الطوعية إلى سوريا، حيث يتم تعذيبهم واعتقالهم وربما قتلهم".
بدوره، قال حساب باسم "أبو الخير محجوب" عبر منصة "X": "بعد تركيا تبدأ الآن العودة الطوعية للسوريين من لبنان إلى مقصلة (بشار) الأسد، ويبدو أن طواعية تعني أن تعتقله وتسجنه وتعذبه وتوقعه على أوراق إقرار بالإجبار ثم ترحله لمصيره المجهول".
ونشر الصحفي السوري مؤيد اسكيف، عبر حسابه على منصة "X" 3 مقاطع مصورة لأماكن تبدو أنها لمقار احتجاز، ودُون عليها عبارة "وضع مأساوي وغير إنساني داخل السجون اللبنانية، أنقذوا المعتقلين السوريين في لبنان".
على الجانب المقابل، انتشر مقطع مصور مدته 3 دقائق لرجل يبدو أنه في العقد الخامس من عمره ويتحدث باللهجة السورية، يفند الأسباب التي دفعت تركيا ولبنان إلى ترحيل السوريين وعودتهم إلى بلادهم، قائلا: "السوريون بدهم يصنعوا دولة داخل دولة ولذلك أصبحوا مرفوضين من جميع الدول العربية والأوروبية حتى السودان رفضت وجود السوريين".
بدورها، قالت لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا التابعة للأمم المتحدة، إن سوريا لا تزال غير آمنة لعودة اللاجئين إليها، وأكدت في تغريدة عبر حسابها في منصة "X"، أن المدنيين في سوريا لا يزالون يعانون من انعدام الأمن وغياب القانون.
وأعلنت وسائل إعلام لبنانية إن الأمن العام سير الدفعة الأولى بقافلة ضمت قرابة 320 مواطنا سوريا عبر معبر الزمراني الحدودي، والذي شهد أمس الثلاثاء احتراق سيارتين محملتين بالعائدين إلى سوريا دون وقوع خسائر بشرية.











