"المحتوى الفلسطيني".. كلمة السر لأكبر حملة استهداف ضد حرية التعبير على منصات التواصل
أحدثها حساب الإعلامي المصري الساخر باسم يوسف
باختفاء غامض لحساب المصري الساخر باسم يوسف من منصة "إكس"، نكأت منصات التواصل الاجتماعي جراح التضييق على المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية والممتد على مدى أكثر من 10 أشهر.
ومنذ الأسبوع الثاني من حرب غزة، أطلق اليوتيوبر العربي الشهير أبو فلة، والذي يتجاوز حسابه 41 مليون متابع، صرخة استغاثة تساءل فيها قائلا: "ماذا يحدث في فلسطين.. هذا عنواني يا يوتيوب.. لماذا حذفت المقطع.. أين حرية الرأي؟".
وبحسب تقديرات لتحليل المحتوى على منصات التواصل الاجتماعي، تعاني النصوص والصور والمقاطع المصورة الداعمة للقضية الفلسطينية من التضييق والحذف، بينما تفاقم الأمر عقب اندلاع الحرب على غزة في 7 أكتوبر الماضي.
ومع شراسة وتيرة المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، تعرض رواد منصات التواصل الداعمين للقضية الفلسطينية لتقييد وتعطيل حساباتهم لفترة زمنية أو حذفها نهائيا أحيانا، إضافة إلى عدم وصول المحتوى إلى المتابعين، ما دفع البعض إلى التحايل على هذه القيود بكتابة حروف متباعدة أو وضع إشارات بين الكلمات.
ووفق الخبراء، فرضت منصات التواصل الاجتماعي قيودا مشددة لاستهداف حرية التعبير، لا سيما الآراء المتعاطفة والمتضامنة مع الفلسطينيين، وسط تبريرات أبدتها تلك المنصات أغلبها متعلق بالاحتياط من خطابات العنف والكراهية والحض على ارتكاب جرائم وغيرها.
تقييد وحظر
وفي 14 أكتوبر 2013، قامت منصة "فيسبوك" بحذف صفحة شبكة "القدس الإخبارية"، وهي أكبر صفحة إخبارية فلسطينية وتضم 10 ملايين متابع، باللغتين العربية والإنجليزية، وقالت الشبكة في بيان لها آنذاك إن "حذف صفحات شبكة قدس هو انحياز تام من قبل شركة ميتا لطلبات الحكومة الإسرائيلية، وكتم لحرية الرأي والتعبير، واستهداف للحق الفلسطيني في نقل أخباره وتغطيته للأحداث للعالم".
وفي 28 أكتوبر 2023، حجبت شركة ميتا حساب باسم "عين على فلسطين" الذي يتابعه أكثر من 6 ملايين، على منصة إنستغرام، وأرجعت الشبكة في بيان آنذاك أسباب ذلك إلى "وجود كثير من التبليغات ضدها، بينما قالت الشركة إن "تلك الخطوة حدثت لأسباب أمنية في إطار مواجهة محاولة اختراق".
وفي 15 مارس 2024، علقت شركة ميتا صفحة المصور الفلسطيني معتز عزايزة بفيسبوك، التي تضم أكثر من 18 مليون متابع، مع تحول صوره لأيقونة لنشر جرائم إسرائيل ضد غزة، وأوضحت الشركة عبر إشعار أن الحظر سيكون مؤقتًا مع إمكانية الحظر بشكل دائم.
وفي 19 أغسطس 2024، اختفى حساب الإعلامي المصري الأمريكي الساخر باسم يوسف، بمنصة "إكس"، إذ يعد أبرز منتقدي الرواية الإسرائيلية بمنصات التواصل ووسائل إعلام أمريكية، منذ بدء حرب غزة، وقال يوسف تعليقا على ذلك إنه "لن يعود إلى منصة إكس، قبل أن تتراجع حدة التهديدات التي طالت أحباءه"، دون أن يكشف تفاصيلها.
انتهاكات تكنولوجية
وبحسب بيانات المرصد الفلسطيني لانتهاكات الحقوق الرقمية الفلسطينية (غير حكومي) ارتكبت منصات التواصل 4 آلاف و747 انتهاكا في الفترة بين 7 أكتوبر 2023 و16 يناير 2024، منها 1924 إزالة وتقييدا لـ2811 محتوى اعتبرته ضارا، و12 انتهاكا يعكس تمييزا بين المنصات الرقمية.
ووفق تقرير مركز صدى سوشال الفلسطيني المعني بالحقوق الرقمية، بعنوان "أكتوبر 2023: الفضاء الرقمي.. تلفيق وتحريض لإبادة الفلسطينيين"، هناك أكثر من 11 ألف انتهاك رقمي للمحتوى الفلسطيني على منصات التواصل الاجتماعي منذ بدء العدوان على قطاع غزة وحتى 1 نوفمبر 2023.
ورصد المركز خلال الفترة ذاتها، أكثر من 20 ألف محتوى تحريضي يشمل مصطلحات وعبارات تحريض على الفلسطينيين وصورًا ومقاطع فيديو، وأكثر من 270 رسالة تهديد إلى الفلسطينيين عبر تطبيقات المحادثة ورسائل SMS.
وأوضح المركز أنه تلقى شكاوى خطيرة تتمثل في انتهاك شركة ميتا لخصوصية المستخدمين عبر تطبيق المحادثات الخاصة (ماسنجر وواتساب) من خلال تفعيل نظام الخوارزميات على ماسنجر وحجب تمكين المستخدمين من إرسال رسائل معينة.
وقال إن "الانتهاكات الرقمية بحق المحتوى الفلسطيني تضاعفت بمقدار 14 ضعفًا خلال عام 2023، عن مجمل الانتهاكات الرقمية الموثقة عام 2022".
وأضاف: "بينما كان الفلسطيني يقتل في قطاع غزة والضفة الغربية، أنفذت منصات التواصل الاجتماعي رقابتها على المحتوى الذي ينقل الإبادة وحذفته وقللت وصوله، ومارست تحيزًا خوارزميًا مكثفًا تجاه المحتوى المؤيد لفلسطين، واستحدثت إبادة جديدة في المنصات الصوتية والمحادثات الخاصة".
محرقة رقمية
وأشارت منظمة صدى سوشال (غير حكومية) إلى أن "المعطيات الرقمية تؤشر بشكل واضح على تصاعد الانتهاكات الرقمية على منصات التواصل الاجتماعي من جهة، وإمعانًا في استخدام إسرائيل للساحة الرقمية كإحدى أذرع حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وانتهاكات وتعديات على خصوصية المستخدمين الفلسطينيين وبياناتهم من جهة أخرى".
ورصدت المنظمة محاولة الحجب الرقمي لجرائم الإبادة الجماعية في قطاع غزة، من خلال حذف منصات شركة ميتا لصور ومشاهد وثقت محرقة الخيام التي نفذتها القوات الإسرائيلية في 26 مايو الماضي ضد المدنيين النازحين في مدينة رفح.
وأوضحت أن الأمر تكرر مع ارتكاب مجزرة مخيم النصيرات في 8 يونيو الماضي، حيث تم حذف المحتوى التوثيقي للجريمة، مع رصد 86 شكوى لحذف مقاطع فيديو وصور توثّق الجزرة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية ضد المدنيين وسط قطاع غزة.
ومن جانبها، قالت لجنة دعم الصحفيين (غير حكومية، مقرها نيويورك) إن "عمليات تقييد المحتوى الفلسطيني على منصات التواصل اتخذت أشكالاً متنوعة من الحجب والتشويش، وتخفيض عدد مشاهدات الحسابات الفلسطينية بشكل مصطنع، وحجب خاصية التعليق على المنشورات الفلسطينية، واعتبار رموز العلم الفلسطيني رموزًا سلبية وحذف المنشورات التي تحتويها، والسماح ببقاء هاشتاجات ودعوات تحريضية باللغة العبرية وغيرها".
وكشفت منظمة العفو الدولية (غير حكومية، مقرها لندن) عن تلقي تقارير مثيرة للقلق تشير إلى وجود إفراط في السياسات الإشرافية على محتوى الحسابات الفلسطينية والمدافعين عن حقوق فلسطين على العديد من منصات وسائل التواصل الاجتماعي.
وقالت المنظمة في بيان آنذاك إن "الفلسطينيين في قطاع غزة المحتل تحت الحصار وسط انقطاع متزايد في الاتصالات، ما يحدّ من قدرتهم على البحث عن المعلومات وتلقيها وتداولها، ويهدد الإشراف غير المتكافئ على المحتوى من خلال منصات وسائل التواصل الاجتماعي بتقويض قدرة الفلسطينيين داخل غزة وخارجها على ممارسة حقوقهم في حرية التعبير، وتكوين الجمعيات أو الانضمام إليها والتجمع السلمي".
وأعربت عن "الشعور بقلق بالغ إزاء التقارير التي تفيد بالحجب الجزئي للمحتوى أو إزالته، أو ما يُعرف بـ"الحظر الخفي" للمدافعين عن الحقوق الفلسطينية"، داعية شركات وسائل التواصل إلى استثمار الموارد في الرقابة البشرية على أنظمة إدارة المحتوى المعتمِدة على الذكاء الاصطناعي لضمان قدرة جميع المستخدمين، بمَن فيهم الفلسطينيون، على ممارسة حقوقهم بالتساوي عبر الإنترنت.
سوابق تاريخية
وطالما تعرض المحتوى الفلسطيني لرقابة مشددة قبل اندلاع الحرب على غزة، حيث فرضت منصات التواصل قيودا لحجب المحتوى الذي يستعرض الانتهاكات الإسرائيلية، بهدف طمس السردية الفلسطينية، وقمع حرية التعبير عن الرأي، وتجريم لغة الفلسطينيين ونشاطهم في الفضاء الافتراضي، بحسب دراسة بحثية نشرتها مؤخرا مجلة الدراسات الفلسطينية.
وذكرت الدراسة أنه في ذروة التفاعل مع التهجير القسري لسكان حي الشيخ جراح بالضفة العربية عام 2021 وإطلاق هاشتاغ (وسم) بعنوان "أنقذوا حي الشيخ جراح"، فإن منصة إنستغرام تعمدت تقييد حساب بعض النشطاء والصحفيين الفلسطينيين المؤثرين، ووضعت قيودا على منشوراتهم ومنعتهم من البثّ المباشر.
وأكدت الدراسة أن الانتهاكات الرقمية في حقّ المحتوى الفلسطيني بدأت تتصاعد مع موجة عمليات الطعن الفردية في الضفة الغربية والقدس المحتلة في عام 2016، إذ استُهدف نحو 200 صفحة وحساب فلسطيني، وارتفعت نسبة الانتهاكات في عام 2017 في منصتي يوتيوب وفيسبوك بصورة خاصة لتشمل حظر النشر، وإغلاق الحسابات، وحذف الصفحات.
وفي عام 2018، بلغت الانتهاكات الرقمية نحو 500 انتهاك توزعت بين حظر حسابات، وحذف محتوى وإغلاق صفحات، وكان للصحفيين النصيب الأكبر من هذه الانتهاكات التي تركزت في موقع فيسبوك أكثر من سائر المواقع والمنصات الأخرى.
وشهد عام 2019 ارتفاعاً واضحاً في استهداف المحتوى الفلسطيني، إذ تم رصد أكثر من 1000 انتهاك لحقوق الفلسطينيين الرقمية، واحتل فيسبوك المرتبة الأولى بين مواقع التواصل، مع 950 انتهاكاً شملت إزالة صفحات وحسابات شخصية أو تجميدها أو حظرها.
وخلال عام 2021، تم رصد وقوع 1200 انتهاك في العديد من منصات التواصل الاجتماعي، تضمنت إغلاق وحذف حسابات وصفحات، وحظر النشر والبث المباشر وإزالة محتوى، وتضييق الوصول والمتابعة وقيود نشر، وحظر أرقام عبر مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي.
ازدواجية بغيضة
وفي هذا السياق، قالت المنسقة الإعلامية في منظمة "صدى سوشال الفلسطينية"، نداء بسومي، إن ما يحدث منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة يعد أكبر استهداف للمحتوى الفلسطيني بمنصات التواصل الاجتماعي منذ عام 2015.
وأوضحت بسومي في تصريح لـ"جسور بوست"، أن الفرق في الانتهاكات الرقمية بين عامي 2015 و2023 هو الاتساع الكبير ليشمل لغات بخلاف اللغة العربية في جميع أنحاء العالم، ورصد حدوث ذلك في اللغات الماليزية والإندونيسية والإنجليزية والإسبانية والتركية على سبيل المثال، وذلك في انتهاك واضح ومتعمد لحرية التعبير.
وأضافت: "الشركات الخاصة بإدارة منصات التواصل الاجتماعي تدعي زورا وبهتانا أن استهداف المحتوى الفلسطيني يكون بسبب احتوائه على خطاب عنف أو كراهية أو ما شابه، لكن ذلك عارٍ تماما من الصحة"، مشددة على أن تلك المنصات تتحدث بشكل فضفاض ولا تحدد معايير محددة للحظر أو الحذف، ولديها ازدواجية كبيرة في السياسات.
وأوضحت أن تلك المنصات تستهدف الخطاب الفلسطيني الصادر من مؤسسات إعلامية فلسطينية وعربية فحسب، بينما تترك المنظمات الصهيونية ومؤسسات الإعلام العبري دون رقابة أو حساب، رغم أنها تبعث برسائل تدعو صراحة على العنف والقتل والتحريض، لكن السيف يكون مسلطا فقط على حق الفلسطينيين في التعبير ويطال المحتوى الفلسطيني وحده في ازدواجية بغيضة.