«تضامن شعبي ودعوات للتبرع بالدم».. لبنان ينتفض لمداواة جراح «انفجارات البيجر»
«تضامن شعبي ودعوات للتبرع بالدم».. لبنان ينتفض لمداواة جراح «انفجارات البيجر»
لبنان- بلال نور الدين
كانت الساعة تشير إلى الثالثة والنصف من عصر الثلاثاء، عندما سرت حالة من الهلع في مناطق نفوذ حزب الله اللبناني، حيث تفاجأ المواطنون بأصوات انفجارات لم تُفسر في البداية، واعتقد البعض أنها مجرد حادث سير قوي.
وما هي إلا دقائق قليلة حتى تبين للجميع أن تلك الأصوات كانت ناجمة عن انفجارات لأجهزة "البيجر" اللاسلكية التي يستخدمها عناصر "حزب الله" للتواصل السري فيما بينهم، ما أدى إلى حالة من الذعر والتساؤلات حول قدرات الحزب في مواجهة إسرائيل في المستقبل، وأعادت فتح ملف التوتر المتصاعد بين الطرفين.
لحظات الرعب
في دقائق معدودة تحول الهدوء الذي كان يكتنف الشوارع إلى صيحات وصراخ وحالة من الهرج ما بين باحثين عن سيارات إسعاف، وآخرين يحملون مصابا ويهرولون بسيارة خاصة ناحية المستشفيات، وآخرين يبحثون عن متبرعين بالدم، لإنقاذ حياة المصابين.
ومن بين كثير من الشهود على تلك التفجيرات، كانت إحدى الحالات التي روت تفاصيل الحادثة هي قريبة لأحد المصابين في الانفجار، حيث سردت في حديث خاص مع "جسور بوست" كيف تحولت لحظة وداع بين الأب وأطفاله إلى كارثة دموية.
الرجل، وهو عنصر في "حزب الله"، كان يهم بمغادرة منزله عندما انفجر الجهاز المثبت على خصره، في مشهد كان صعب التصديق على المتواجدين.
في غضون ثوانٍ، تحولت الابتسامات إلى صرخات، وسقط الرجل غارقاً في دمائه أمام أسرته، تاركاً خلفه مشهداً مرعباً وذكريات مؤلمة لن تُنسى.
استجابة سريعة ومناشدات للتبرع بالدم
بينما كانت الأجهزة الأمنية والسياسية تعكف على التحقيق في الحادثة، كانت المستشفيات اللبنانية تستقبل موجات من الجرحى.
ووفقاً للمتحدث الإعلامي باسم جمعية النجدة الشعبية اللبنانية، كمال منصور، فقد وصلت عشرات الإصابات إلى مستشفيات الجنوب، خاصة مستشفى النجدة الشعبية في النبطية.
في الوقت نفسه، أطلق الدفاع المدني اللبناني حملة طوارئ لمساعدة المصابين على الوصول إلى المستشفيات بسرعة، بينما بادرت الجمعية إلى مناشدة اللبنانيين للتبرع بالدم من جميع الفئات، نظراً للحاجة الماسة له في تلك اللحظات الحرجة.
ومن داخل غرف الطوارئ، وصف الأطباء حالة الاستنفار الكبيرة التي عاشوها، فقد تم استقبال مئات الجرحى في وقت قياسي، وتنوعت الإصابات بين حروق وجروح ناتجة عن شظايا الأجهزة المتفجرة، مع تركز الإصابات على اليدين والوجه. واستدعت بعض الحالات عمليات جراحية فورية، خاصة تلك المتعلقة بالعيون.
مساعدات دولية عاجلة
في ضوء الكارثة، بادرت عدة دول إلى تقديم الدعم الفوري للبنان، حيث أصدر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني توجيهات عاجلة لإرسال فرق طبية وفرق طوارئ للمساعدة في معالجة الجرحى.
كما أعلنت مصر وإيران وسوريا عن استعدادها الكامل لتقديم كافة أشكال الدعم للشعب اللبناني، سواء من خلال توفير الطواقم الطبية أو الأدوية والمعدات.
جريمة ضد الإنسانية
حقوقياً، وصف المحامي والناشط اللبناني محمد صلبوح هذه العملية بأنها "جريمة ضد الإنسانية"، معتبرا أن إسرائيل هي من تقف وراءها، على الرغم من عدم إعلانها عن ذلك.
واعتبر صلبوح، في تصريحات خاصة لـ"جسور بوست"، أن عدم تبني إسرائيل للعملية بشكل رسمي يزيد من مسؤوليتها، خاصة أن العملية لم تستهدف المقاتلين فحسب، بل عرضت حياة المدنيين للخطر، مشيراً إلى أن "البيجر" قد يكون بحوزة عناصر مدنية أيضاً.
وطالب صلبوح السلطات اللبنانية بالتحرك لملاحقة إسرائيل أمام المحافل الدولية، بما في ذلك محكمة العدل الدولية.
تعقيدات الاختراق
بحسب ما أوضحه رئيس مركز تقنيات المعلوماتية المتطورة، ربيع بعلبكي، فإن جهاز "البيجر" الذي استُهدف هو جهاز قديم نسبياً، يعتمد على أمواج راديوية ويستقبل رسائل نصية دون الاعتماد على تقنيات حديثة مثل الواي فاي.
هذه البساطة التكنولوجية، بحسب ما قاله بعلبكي، في تصريحات خاصة لـ"جسور بوست"، قد تكون جزءاً من ضعف الأمان فيه، ما جعله عرضة للاختراق.
وأشار بعلبكي إلى أن هناك 3 سيناريوهات محتملة لكيفية تفخيخ تلك الأجهزة، أولها أن الاستخبارات الإسرائيلية تمكنت من تعقب عملية شراء هذه الأجهزة، وثانيها أن البطاريات المستخدمة في الأجهزة قد تم تفخيخها، والثالث أن الأجهزة قد تم استبدالها أو التلاعب بها أثناء نقلها.
ويرجح بعلبكي أن ما حدث كان عملية مدروسة بعناية، حيث تم تفعيل الأجهزة في لحظة محددة، لضمان وقوع أكبر عدد من الضحايا.
ويضيف الخبير التكنولوجي، أن البرمجة المسبقة لتلك الأجهزة لتنفجر في وقت محدد أو عن طريق موجات خاصة أرسلت من طائرات مختصة أو أقمار صناعية، قد تكون سبباً في تلك الانفجارات المدمرة.
إسرائيل والتخطيط للخرق
وفي هذا الإطار، كشف العميد المتقاعد ناجي ملاعب عن فرضيات تشير إلى تواطؤ بين إسرائيل والشركة المصنعة لأجهزة "البيجر" التي يقع مقرها في المجر.
ولفت ملاعب في تصريحات خاصة لـ"جسور بوست"، إلى أن الحزب، بسبب اختراق إسرائيل لأجهزة الهواتف الذكية التي كان يستخدمها عناصره، لجأ إلى أجهزة أقل عرضة للاختراق، معتقداً أن تلك الأجهزة ستوفر حماية أكبر، لكن إسرائيل، كما يبدو، كانت تتابع عن كثب تحركات "حزب الله" في هذا المجال، وربما استغلت نفوذها في المجر لضمان تفخيخ تلك الأجهزة أثناء تصنيعها أو توريدها.
البُعد العسكري والإعلامي
من الناحية العسكرية، يرى الخبراء أن هذه العملية قد تحمل تداعيات معنوية هائلة على "حزب الله"، فالاتصالات هي عصب العمليات العسكرية، وخرق جهاز الاتصالات المركزي للحزب يعقد متابعة العمليات ويؤخر أي هجوم مستقبلي ضد إسرائيل.
ولكن في الوقت ذاته، يرى ملاعب أن هذا الخرق لن يؤثر بشكل مباشر على القدرات العسكرية للحزب، خاصة أن الحزب يمتلك أكثر من 100 ألف مقاتل، ولم يعتمد على كافة عناصره حتى الآن.
انعكاسات العملية على لبنان
بينما يستعد "حزب الله" لتحقيق داخلي شامل لمعرفة كيفية اختراق منظومته، يستمر السؤال الأكبر حول مدى استعداد الحزب لأي مواجهة مستقبلية مع إسرائيل، في ظل قدرة إسرائيل على تنفيذ عمليات دقيقة دون إطلاق رصاصة واحدة.
ومع ذلك، يظل الحزب قوة فاعلة، وستكون استجابته لهذه العملية محط أنظار العالم بأسره.
بالنسبة للشعب اللبناني، تظل المأساة إنسانية بالدرجة الأولى، مع تركيز الجهود على إنقاذ الجرحى وتأمين الرعاية الصحية لهم في ظل تحديات النظام الصحي المثقل بالفعل.