الديمقراطية الغربية تحت معاول «السوشيال ميديا»

الديمقراطية الغربية تحت معاول «السوشيال ميديا»

في شهر سبتمبر 2020، صدر إعلان مفاجئ ومثير للجدل عن الكرملين؛ وفي هذا الإعلان عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على دول العالم كافة عقد «اتفاق دولي تلتزم فيه الحكومات سياسياً بعدم توجيه ضربات تستخدم تكنولوجيا المعلومات والتواصل ضد دول أخرى»، بشكل يؤثر في نتائج الانتخابات.

لقد لاقى هذا الإعلان اهتماماً لافتاً آنذاك؛ إذ صدر في وقت تزايد فيه القلق من احتمالات التدخل «سيبرانياً» لحرف اتجاهات الرأي العام الأميركي، عشية الانتخابات الرئاسية، التي تنافس فيها الرئيس الحالي جو بايدن مع دونالد ترمب، وفاز فيها الأول، بعد صدامات واعتراضات نادرة في تاريخ الديمقراطية الأميركية.

لقد أراد بوتين، عبر هذا الإعلان، أن يتم تبادل ضمانات بعدم التدخل في الانتخابات، من خلال اتفاق أممي ضد الاستخدام العدائي للتكنولوجيا، بوصفه إحدى أخطر آليات التضاغط الدولي الراهنة وأكثرها نفاذاً وتأثيراً.

وبموازاة ذلك الإعلان المثير للاهتمام، كانت منظمة «فريدوم هاوس»، المعنية بدراسات الحريات والديمقراطية، تصدر تقريراً بدورها، تحذر فيه من أن الاستمرار في سياسات التدخل في العمليات الانتخابية، عبر الشبكات الاجتماعية خصوصاً، «بات استراتيجية أساسية لأولئك الذين يسعون إلى تقويض الديمقراطية». وفي هذا التقرير بالذات رصدت المنظمة ما قالت إنه «تدخلات مشبوهة تعتمد آليات تضليل حدثت في 26 عملية انتخابية من بين 30 عملية تمت دراستها في مناطق العالم المختلفة». ويعني هذا التقرير ببساطة أن نحو 90 في المائة من الانتخابات التي تجري في بلدان العالم المختلفة أضحت عرضة للعمليات السيبرانية المُغرضة؛ بما يمثل إعلاناً واضحاً عن هشاشة الحالة الديمقراطية، وقابلية الانتخابات السياسية الكبيرة للتأثر بالتدخلات «المشبوهة» أو «غير المشبوهة» التي ترد عبر الفضاء السيبراني.

لا يحتاج الإقرار بتأثير وسائل «التواصل الاجتماعي» في العمليات السياسية والانتخابات تحديداً لكثير من الجهد؛ إذ تشير البحوث الموثوقة، والتحليلات الجادة لمجريات العمليات الانتخابية في دول العالم المختلفة، إلى أن أثر تلك الوسائل بات واضحاً بما يكفي في تحديد الاتجاهات والنتائج، وحاسماً أيضاً في بعض الأحيان.

سيأتي الرئيس ترمب، الذي فاز بالرئاسة في انتخابات 2016، ليؤكد لنا ذلك، عبر قوله: «لولا (تويتر) ما أصبحت رئيساً»، كما سيؤكد ماركوس شميت، مسؤول الاتصال في حزب «البديل من أجل ألمانيا»، أن «فيسبوك» كان رافعة رئيسة لدفع الحزب المُتهم بالتطرف إلى التمركز في الواقع السياسي في ألمانيا، ثم المنافسة على الصدارة.

لقد تلقت روسيا اتهامات عديدة بـ«التدخل السافر» في نتائج بعض الانتخابات والاستحقاقات السياسية الرئيسة في عدد من البلدان؛ ومن بين أهم تلك الاتهامات ما يتعلق بتدخلات أمكن رصد بعض أثرها في الانتخابات الرئاسية الأميركية في 2016، والانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، واستفتاء «بريكست» في المملكة المتحدة، وبعض الأحداث السياسية المهمة في بلدان أوروبية، وبخاصة تلك الأحداث التي تتصل بالمد اليميني الشعبوي.

لكن كل ما فعله بوتين، أو نُسب إليه فعله، في هذا الصدد، سيبدو خجولاً وضعيف التأثير، إذا ما تمت مقارنته بما يفعله الملياردير الأميركي إيلون ماسك اليوم في هذا الإطار.

فإيلون ماسك لم يكتفِ بشراء «تويتر»، وتحويله إلى «إكس»، فقط، لكنه أيضاً حول تلك المنصة المُهمة إلى آلية فعالة لنصرة دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بينما أدرك هذا الأخير نفسه ضرورة أن يطور منصته الخاصة «تروث سوشيال»، لكي يقبض على «عصمته الاتصالية»، ويمتلك صوتاً قادراً ونافذاً وفعالاً طوال الوقت.

لم يكتفِ ماسك بذلك، حتى بعدما حصد أرباح شراء «تويتر» («إكس» لاحقاً)، بأن بات أحد أركان إدارة ترمب، وأقرب المستشارين إليه، وأكثرهم نفوذاً، ولكنه راح يُفعّل خطته في أرجاء أوروبا أيضاً، فمدّ حبل تأثيره إلى ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، والحبل على الجرار. يتحول ماسك، بمنصته «السوشيالية» النافذة، وقدراته المالية والتكنولوجية الضخمة، وموقعه السياسي المؤثر، إلى فاعل سياسي عالمي، تتضاءل أمامه مقدرات بوتين، وتنزوي «ألاعيبه» وتدخلاته المفترضة.

واليوم، يثير ماسك ضجة وقلقاً في ألمانيا، بعدما تدخل بسفور لنصرة حزب «البديل»، ودعا إلى التصويت من أجله في الانتخابات التشريعية المنتظرة، باعتباره «الوحيد القادر على إنقاذ البلاد».

وبموازاة ذلك، يحافظ على علاقة وثيقة مع رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، وحزبها اليميني، عبر التدخل بدعم خطها المحافظ بـ«التغريدات» الحادة، بينما يعد مرشح اليمين الشعبوي البريطاني نايجل فاراج بتبرعات تصل إلى 100 مليون دولار أميركي، في حملته الانتخابية، قبل أن يعود ويسحب دعمه له.

إنه عصر جديد، تصبح «السوشيال ميديا» فيه لاعباً رئيساً في تحديد مسار الحملات الانتخابية ونتائجها؛ وهو أمر سيحدث عبر أوروبا وأميركا، بـ«تغريدات» وتمويلات، ستشكل ملامح السياسة الغربية، وتقودها إلى آفاق جديدة، قد تغيّر وجه الديمقراطية في معاقلها الأساسية.
 


نقلاً عن الشرق الأوسط



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية