«في ظل الأزمات المالية».. فورين بوليسي: الشعبوية وتغير المناخ يهددان حقوق الفئات الضعيفة
«في ظل الأزمات المالية».. فورين بوليسي: الشعبوية وتغير المناخ يهددان حقوق الفئات الضعيفة
يردد الاقتصاد العالمي صدى أوائل ثمانينيات القرن العشرين، عندما احتلت التحديات المالية مركز الصدارة بعد فترة من التركيز على التضخم والسياسة النقدية، حيث ارتفعت الديون العامة والعجز إلى مستويات مثيرة للقلق، وأخذ النمو العالمي يتباطأ، ومسار أسعار الفائدة غير مؤكد إلى حد كبير.
ووفقا لتحليل أجرته مجلة "فورين بوليسي"، الوضع الآن مختلف في عدة نواحٍ؛ فالتحديات العالمية المتزايدة والأكبر مثل تغير المناخ، وشيخوخة السكان، ومكافحة الفقر والتفاوت تضيف المزيد من الضغوط على ميزانيات الحكومات، وفي الوقت نفسه، جنباً إلى جنب مع عودة الشعبوية، ضعف الطلب العام على ضبط النفس المالي بشكل كبير على مدى العقدين الماضيين.
ضغوط سياسية
أنتجت هذه المجموعة الفريدة من الظروف معضلة السياسة المالية، ففي حين تدير البلدان شؤونها المالية، تواجه ثلاثة ضغوط سياسية رئيسية: أولاً، تتعرض الحكومات لضغوط شديدة لزيادة الإنفاق على الدفاع، وتغير المناخ، وغير ذلك الكثير، ولكن في الوقت نفسه، تواجه هذه البلدان مقاومة شعبية قوية لزيادة الضرائب، وأخيرا، تهدد مستويات الدين العام الأعلى والعجز الأعلى بتعريض المالية العامة والاستقرار المالي في العديد من البلدان للخطر، وبالتالي، فهي تحت ضغط لخفض العجز والديون.
ويشكل هذا معضلة ثلاثية، لأنه من المستحيل تقريبا على صناع السياسات متابعة الخيارات الثلاثة في نفس الوقت، على سبيل المثال، قد تتمكن أي دولة من كبح جماح الديون مع الحفاظ على الحد الأقصى للضرائب، ولكن هذا من شأنه أن يترك للحكومة خيارا ضئيلا سوى خفض الإنفاق.
وقد تستسلم الدولة لضغوط الإنفاق دون زيادة الضرائب، ولكن هذا من شأنه أن يؤدي إلى المزيد من الارتفاع في الديون والعجز ويعرض الاستدامة المالية والاستقرار المالي للخطر، ويواجه صناع السياسات في مختلف أنحاء العالم، في الاقتصادات المتقدمة والنامية على حد سواء، هذه المعضلة الثلاثية.
أزمة ديون
في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، أصبحت الضغوط المماثلة على بلدان الأسواق الناشئة المعرضة للخطر أكثر مما يمكن تحمله، ما أدى إلى أزمة ديون منهجية، ولا يوجد أمام صناع السياسات على مستوى العالم خيار سوى مواجهة المعضلة الثلاثية الآن، ولكن كيف نتجنب نتيجة مماثلة؟
على مدى الثمانين عاماً منذ تأسيس صندوق النقد الدولي، والستين عاماً منذ إنشاء إدارة الشؤون المالية التابعة له، لم يبقَ الكثير ثابتاً في الاقتصاد الكلي، كانت أسس بنود اتفاقية صندوق النقد الدولي كينزية بشكل حاسم -نشأت عن نشر نظرية جون ماينارد كينز العامة في عام 1936- بمعنى أنها افترضت أن الأنظمة الاقتصادية الوطنية لا تحقق التوازن الذاتي، وكان يُعتقد أن الإدارة الاقتصادية الكلية النشطة ضرورية لتصحيح اختلالات التوازن الكلي.
ولكن التضخم الأعظم في سبعينيات القرن العشرين كسر تعويذة الاقتصاد الكلي الكينزي، حيث أصبحت الأسعار المرتفعة أكبر مشكلة اقتصادية كلية في نظر عامة الناس في الولايات المتحدة، وارتفع التضخم الاستهلاكي إلى 13.5% بحلول عام 1980.
ترويض التضخم
وكما هي الحال الآن، لعبت السياسة دوراً محورياً في السياسة الاقتصادية الكلية، ولقد أثار تصميم بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على ترويض التضخم من خلال سلسلة من رفع أسعار الفائدة انتقادات مفادها أن البنك المركزي يتجاهل تكاليف انكماش التضخم في هيئة تباطؤ النمو وارتفاع معدلات البطالة.
وبلغ التوتر ذروته في عام 1977، عندما عزز الكونجرس المساءلة السياسية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي من خلال قانون إصلاح بنك الاحتياطي الفيدرالي، وقد ألزم هذا القانون البنك المركزي بتقديم تقرير إلى الكونجرس "بشأن نطاقات المجاميع النقدية والائتمانية للأشهر الاثني عشر المقبلة".
كما تضمن قانون الإصلاح ما أصبح يعرف باسم التفويض المزدوج لبنك الاحتياطي الفيدرالي "بتعزيز أهداف التشغيل الأقصى، واستقرار الأسعار، واعتدال أسعار الفائدة في الأمد البعيد".
وعلاوة على ذلك، بعد عام واحد، صدر قانون همفري هوكينز للتشغيل الكامل والنمو المتوازن، مع تحديد هدف كمي لمعدل البطالة عند 4%، وكان هذا الهدف أحد العناصر الرمزية لنهج الاقتصاد الجديد الذي دعا إليه مجلس المستشارين الاقتصاديين في عام 1962.
وفي النهاية، فتح التضخم وعدم الاستقرار الاقتصادي الكلي الطريق أمام نموذج جديد، وأصبح التضخم مشكلة بارزة بالنسبة للعامة الأمريكيين، الأمر الذي فتح الطريق أمام جهود رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي بول فولكر للقضاء على التضخم، ولكن النموذج الجديد انتشر تدريجياً واكتسب قبولاً سياسياً في العديد من البلدان.
وجاءت الاستجابة المؤسسية الأكثر وضوحاً من نيوزيلندا في عام 1989، عندما التزم بنكها المركزي باستهداف التضخم، كما أثر هذا التحول على المفاوضات بشأن الاتحاد النقدي في أوروبا في نفس الوقت تقريباً.
استقلال البنوك المركزية
وباختصار، كرّس النموذج استقلال البنوك المركزية في إدارة السياسة النقدية لتحقيق استقرار الأسعار، وفي القيام بذلك، تهدف البنوك المركزية إلى تثبيت استقرار دورة الأعمال من خلال إبقاء الناتج قريباً من إمكاناته.
وفي هذا السياق، يقتصر دور السياسة المالية في تسهيل دورة الأعمال على المثبتات التلقائية (على سبيل المثال، من خلال زيادة تحويلات التأمين ضد البطالة أثناء فترات الركود)، ومع ذلك، تلعب السياسة المالية دوراً أكثر توسعاً، حيث تؤثر السياسات البنيوية المالية على النمو والقدرة التنافسية وتوزيع الدخل والثروة.
ولكن النموذج الجديد واجه مشاكل أثناء الأزمة المالية العالمية في عام 2008 وما تلاها، فقد شهدت العديد من الاقتصادات المتقدمة نموا مخيبا للآمال وتضخما مستمرا دون المستوى المستهدف، في حين كان من المعتقد أن بنوكها المركزية غير قادرة على خفض أسعار الفائدة الاسمية إلى ما دون الصِفر في مواجهة "الحد الأدنى الفعال".
أساليب غير تقليدية
وفي النهاية، عبرت بعض البنوك المركزية الخط إلى أسعار فائدة سلبية، فضلا عن ملاحقة أساليب غير تقليدية أخرى مثل التيسير الكمي، وفي ظل هذه الظروف، تصبح الحاجة إلى تفسير التفاعلات النقدية والمالية بشكل أكثر صراحة أمرا محوريا لإدارة السياسات الاقتصادية الكلية، وهذا يعني الاعتراف بأن السياسة المالية لها دور مهم تلعبه في تحقيق الأهداف الاقتصادية.
وكانت قوة السياسة النقدية والمالية في العمل معا معروضة بالكامل في وقت جائحة كوفيد-19، فقد أنقذت الإجراءات السياسية السريعة والحاسمة الأرواح وسبل العيش حرفيا، ولم تكن التوقعات والمتطلبات المفروضة على صناع السياسات أعلى من ذلك قط.
وفي أعقاب الجائحة، ارتفعت الديون والعجز العام، وارتفعت معدلات التضخم، وتزايدت المطالب السياسية بالتدخل العام، وعاد التحفيز الكينزي إلى الموضة مرة أخرى.
مع إحياء الاقتصاد الكينزي، توسعت فروع أخرى من الاقتصاد العام: الاقتصاد السياسي والمالية العامة السلوكية والتجريبية، ومن وجهة نظر صندوق النقد الدولي، الذي كُلِّف عند تأسيسه بالإشراف على نظام نقدي دولي جديد لتثبيت استقرار الاقتصاد العالمي، فإن المجال الجديد الأكثر أهمية هو الاقتصاد العام الدولي والعالمي.
العمل الجماعي
شهد العالم ظواهر تتطلب العمل الجماعي، مثل الأوبئة والاحتباس الحراري العالمي، ولكن هناك العديد من المجالات المهمة الأخرى التي تتطلب العمل الجماعي العالمي.
وفي السنوات الأخيرة، كثف صندوق النقد الدولي جهوده في مجالات مثل الضرائب الدولية، والمناخ، وتمويل التنمية.
عندما يتعلق الأمر بتغير المناخ، يحتاج العالم إلى بذل المزيد من الجهود للحد من الاحتباس الحراري العالمي إلى سقوف درجات الحرارة التي حددتها اتفاقية باريس، وقد دعا صندوق النقد الدولي إلى استكمال اتفاقية باريس بأرضية سعرية للكربون منسقة دولياً، وبالاقتران مع أدوات السياسة الأخرى، يمكن أن يوفر هذا مساراً فعالاً وكفؤاً وعادلاً ومرناً نحو أهداف المناخ العالمية.
فجوات التمويل
وفي الوقت نفسه، فإن فجوات التمويل كبيرة ومتنامية، وخاصة بالنسبة للبلدان النامية ذات الدخل المنخفض، والإدارة الاقتصادية الكلية السليمة هي المفتاح، ولكن بالنسبة للبلدان ذات الدخل المنخفض، فإن العامل الحاسم هو قدرتها على تعبئة مواردها المحلية لتمويل التنمية.
وهذا يتطلب القدرة الضريبية كركيزة قوية تدعم المالية العامة القوية والتنمية المالية المحلية، وهو ما يدعمه صندوق النقد الدولي.
إن التحدي الذي نواجهه في هذه اللحظة التاريخية الفريدة هو ارتفاع مستويات الدين والعجز والتضخم المستمر، وهو ما يذكرنا في بعض النواحي بعواقب التضخم الكبير في سبعينيات القرن العشرين، ولكن الآن يقترن بضغوط مالية جديدة ناجمة عن قضايا بنيوية عالمية من تغير المناخ إلى الشيخوخة السكانية، وبينما تتصارع البلدان مع معضلة السياسة المالية في هذا السياق، فمن الأفضل لها أن تضع في اعتبارها أربعة مبادئ مهمة.
أولاً، من المهم أن تحدد أولويات الإنفاق وتحسن جودة الإنفاق العام، ثانياً، يجب دعم أي مظروف إنفاق يتم اختياره بتمويل عام سليم، وثالثاً، من المهم أن نأخذ في الاعتبار البعد السياسي للسياسات المالية، رابعاً، غالباً ما ترتبط فترات خفض الديون بتخفيضات عميقة وتضحيات مؤلمة، ولكن كما سيظهر تقريرنا القادم عن السياسات المالية في مختلف أنحاء العالم، فإن التعديل المالي التدريجي المستدام يمكن أن يوازن بين الحاجة إلى وضع الدين على مسار أكثر استدامة دون تقويض النمو أو التسبب في زيادة التفاوت
إن حل معضلة السياسة المالية لا بد أن يكون سياسياً وعملياً، وسوف يكون لزاماً على البلدان أن تجد طريقها إلى الأمام بنفسها، ولكن إذا اتبعت البلدان المبادئ المالية السليمة وظلت على المسار الصحيح، فإن التحديات المالية الكبرى في عصرنا لن تكون مستعصية على الحل.