أفكار مختلفة.. الإيكونوميست: الحروب الاقتصادية تكشف قدرة الدول على إيجاد البدائل

أفكار مختلفة.. الإيكونوميست: الحروب الاقتصادية تكشف قدرة الدول على إيجاد البدائل

في الفترة ما بين أغسطس وأكتوبر 1943 قصفت الطائرات الحربية الأمريكية مدينة شفاينفورت في جنوب ألمانيا مرارا، رغم أن المدينة لم يكن بها مقرات عسكرية، ولكنها كانت تنتج نصف الإمدادات التي تستخدم للحفاظ على دوران المحاور في كل شيء من محركات الطائرات والدبابات إلى البنادق الآلية.

وفقا لمجلة "الإيكونوميست"، بالنسبة لمخططي الحلفاء، الذين قضوا شهورا في دراسة جداول المدخلات والمخرجات في الصناعة الألمانية، كان الجزء التصنيعي الضئيل يتمتع بخصائص سلعة استراتيجية، وكان التفكير السائد هو أن تدمير قدرة ألمانيا على تصنيع هذه المحامل يعني انهيار مجمعها الصناعي العسكري.

كانت العملية مكلفة بالنسبة للأمريكيين، حيث تكبدوا خسائر فادحة في الطائرات والطاقم، ولكنها كانت فعّالة: ففي غضون بضعة أشهر فقط تحولت براعة بافاريا في تصنيع المحامل الكروية إلى أنقاض، ولكن سرعان ما اتضح أنه على الرغم من تدمير شفاينفورت، استمرت المصانع الألمانية في إنتاج مدافع ميسرشميت والرشاشات بنفس الوتيرة، ولم يجد المسح الاستراتيجي للقصف الذي أجرته أمريكا في أعقاب الحرب "أي دليل على أن الهجمات، كان لها أي تأثير ملموس على الإنتاج الحربي الأساسي".

وخلال العقود التي تلت ذلك، تكررت نسخ من هذه القصة مرات عديدة، وأحدثها العقوبات الأمريكية ضد روسيا والتدابير التي اتخذتها ضد الصين، فقد حاول الخصوم في الحروب الباردة والساخنة حرمان بعضهم البعض من سلعة استراتيجية، ولكنهم نجحوا في أحد المعاني (حيث تقلصت القدرة على الوصول إلى هذه السلعة) وفشلوا في معنى آخر (لم تؤد الأزمة إلى انهيار اقتصادي أو استسلام عسكري).

وفي كتاب من المقرر نشره العام المقبل، يستخدم مارك هاريسون وستيفن برودبيري، وهما عالمان بريطانيان، نظرية طرحها لأول مرة في ستينيات القرن العشرين مانكور أولسون، وهو خبير اقتصادي، لتفسير هذه المفارقة، هما يزعمان أن مفهوم السلعة الاستراتيجية "وهم".

أهمية السلع الاستراتيجية

يعتقد الكثيرون أن السلع التي توصف عادة بأنها "استراتيجية" أو "حيوية" أو “حاسمة”، بدائلها قليلة، لذا تحتفظ أمريكا والصين باحتياطيات استراتيجية من النفط، لأن قادتهما يعتقدون أن النفط لا يمكن استبداله بسهولة، على الأقل في الأمد القريب. 

وتُعَد بعض المعادن بالغة الأهمية لأنك لا تستطيع بناء سيارة كهربائية قابلة للاستمرار بدونها، ولكن أولسون يرى أن عدداً قليلاً للغاية من السلع، إن وجدت، هي سلع استراتيجية حقاً، بل إن هناك احتياجات استراتيجية فقط: إطعام السكان، ونقل الإمدادات، وإنتاج الأسلحة، ولا يبدو أن أي قدر من الضرب، حرفياً أو مجازياً، قادر على تغيير قدرة البلدان المستهدفة على تلبية هذه الاحتياجات، بطريقة أو بأخرى.

وبحسب "الإيكونوميست"، فمن أجل نفهم السبب وراء ذلك، فلنعد إلى التعريف الكلاسيكي لما يُفترض أنه يشكل سلعة استراتيجية، والفرضية المبدئية هي أن هناك فئة من السلع لا توجد لها بدائل، ولكن البدائل موجودة دائماً تقريباً، وإذا لم يكن من الممكن حقاً استبدال سلعة ما في الأمد القريب، فإنها في الأمد البعيد يمكن استبدالها دائماً تقريباً. إن جعل سلعة ما نادرة أو غالية الثمن إلى حد ما، قد يستنتج أحد خبراء الاقتصاد الجزئي، فإن مزيج المدخلات اللازمة لإنتاج الناتج يبدأ في التحول بشكل طبيعي.

وبحسب المجلة البريطانية، فإن الطريقة التي استجابت بها ألمانيا لأزمة المحامل الكروية في زمن الحرب توضح هذه الآليات، فقد اكتُشِف بسرعة أنه في العديد من الحالات التي اعتاد فيها المصنعون على استخدام المحامل الكروية، كانت المحامل البسيطة كافية، وبالنسبة للاستخدامات المتبقية، كان من الممكن الاستعانة بمخزونات ضخمة، وهو ما كسب الوقت لبناء مصانع بديلة.

والدرس الذي استخلصه أولسون من كل هذا هو أن التكلفة المفروضة على أولئك الذين يفقدون القدرة على الوصول إلى مورد، مهما كان أساسياً، ليست الانهيار المفاجئ لكل صناعة تعتمد عليه، بل التكلفة الأكثر معقولية لإيجاد حلول بديلة.

واقع الاقتصادات الحديثة

وبمرور الوقت تتراكم مثل هذه التكاليف عادة، مما يؤدي إلى إبطاء النمو، ولكنها نادراً ما تكون كافية لقلب الاقتصاد، وهذا يشير إلى أن مفهوماً اقتصادياً آخر شائع الاستخدام -"سلسلة التوريد"- ضيق للغاية في أفضل تقدير، والواقع أن الاقتصادات الحديثة تبدو أشبه بالشبكات، حيث نادراً ما يكون قطع رابط واحد كافياً لتعطيل البنية بأكملها.

ولم يكن بوسع أولسون أن يتنبأ بأن الحرب الاقتصادية سوف تتطور إلى نظام متطور من العقوبات التجارية والمالية المتبادلة التي كانت واضحة بشكل كامل منذ الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا في عام 2022.

وتأتي السلع التي تستهدفها هذه العقوبات في أشكال عديدة، من الائتمان والطاقة إلى السلع والبرامج "ذات الاستخدام المزدوج"، ويتلخص هدفها، الذي ليس صريحاً دائماً، في تغيير سلوك أهدافها وردع الآخرين عن تقليدها.

وتعمل القيود المفروضة على التصدير بشكل مباشر، من خلال منع شحنات سلع معينة إلى الطرف المشكل، في حين تسعى عقوبات أخرى إلى الحد من الوصول إلى العملة الصعبة من خلال جعل تصدير السلع المربحة أكثر صعوبة بالنسبة لأهدافها، وغالباً ما يتم استخدام مزيج من هذه العقوبات.

وعلى الرغم من تعقيدها المتزايد، فإن هذه الترسانة الاقتصادية -التي تسيطر عليها أمريكا إلى حد كبير- فشلت في تحقيق أهدافها في أغلب الأحيان، وكانت المحاولات المبكرة مخيبة للآمال بالفعل، ففي عام 2007، أجرى باحثون في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي دراسة تناولت 174 حملة عقوبات شنت في مختلف أنحاء العالم بين عامي 1915 و2000، منها 162 حملة بعد عام 1945.

خلصت الدراسة إلى أن مثل هذه العقوبات حققت أهدافها جزئيا أو كليا في ثلث الحالات فقط، وكان النجاح أكثر ترجيحا عندما كانت الأهداف محددة بدقة، وكانت الدولة المستهدفة ضعيفة اقتصاديا بالفعل، ولم يكن هناك تاريخ من العداء السابق مع الطرف المنفذ.

وهذا يفسر لماذا لم تحقق العقوبات ضد روسيا، الدولة المعادية التي تتمتع بوفرة من المال، أهدافها العريضة، ففي عام 2022، توقع المحللون المتحمسون أن تكون روسيا على وشك لحظة 1998 (عندما انزلقت إلى الفوضى المالية) أو حتى ثورة على غرار ثورة 1917 (عندما تسبب الانهيار الاقتصادي في نهاية الحقبة القيصرية).

لقد أربكت مرونة الاقتصاد الروسي التوقعات، فقد تهربت من العقوبات جزئيًا من خلال استبدال السلع التي لم تعد قادرة على الحصول عليها، كما وجدت أصدقاء تجاريين جدد -ليس أقلها الصين- ليحلوا محل أولئك الذين فقدتهم.. في عالم شبكي، تبدو فكرة "الشريك الاستراتيجي" عابرة بشكل متزايد أيضًا.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية