الحاجة إلى «الجدارة الرحيمة»

الحاجة إلى «الجدارة الرحيمة»

لقد أدى الصعود المثير والمُطرد للتيارات اليمينية والشعبوية في الغرب تحديدا إلى إعادة الحديث مُجددا عن فكرة «نهاية التاريخ»، وهي فكرة فلسفية يتصور القائلون بها أن نظاما سياسيا واجتماعيا ما سوف يتطور، لكي يصبح نقطة نهاية التفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبشرية، قبل أن يقود البشر إلى الخيار الأمثل لشكل الحكم والحكومة. واليوم، بات الكثيرون يعرفون أن هذا المفهوم ارتبط لاحقا بالفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما، الذي أصدر كتابه المُهم «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، في العام 1992، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، وما بدا آنذاك من انتصار ساحق للقيم والسياسات الغربية حول العالم.

وفي هذا الكتاب، توصل فوكوياما إلى أن الديمقراطية الليبرالية بقيمها عن الحرية، والفردانية، والمساواة، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، وحرية الرأي والتعبير، وفق مفهومها الغربي، تشكل مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للبشرية، في انتظار تسيدها الكامل، عبر عولمة مبادئها وآلياتها، حتى ولو اقتضى ذلك عقودا من الزمن ليتحقق كاملا.

لكن أطروحة فوكوياما هذه، وعديد الأطروحات الأخرى التي حذت حذوها، أو نظّرت لتكاملها ونجاعتها، اصطدمت لاحقا بمتغيرات صلبة ومُعاندة، واستدعت إعادة التفكير.

ومن بين تلك المتغيرات ما بدا واضحا من تخلخل فكرة ازدهار الديمقراطية نفسها في موئلها ومعقلها الأساسي، أي العالم الغربي، من جانب، وما حققته بعض الدول والمجتمعات، التي لم تمض قدما في الطريق المُوصوفة ذاتها، وراحت تسجل إنجازات عملية لافتة بقيم وآليات أخرى، مثلما حدث في الصين وسنغافورة، وبعض دول العالم الثالث، من جانب آخر.

ثم جاء فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة في انتخابات مثيرة عام 2016، ليفتح الباب واسعا أمام مراجعات ضرورية، حيث كان الرجل يطرح طرحا مغايرا تماما لما عُرف عن استقرار القيم الديمقراطية والليبرالية، في المجالين السياسي والاجتماعي تحديدا.

ولم يتوقف ترامب عند هذه النقطة فقط، بل إنه خلال رئاسته، وبعدما خسر الانتخابات التالية أمام جو بايدن، راح يشكك في مناعة تلك القيم، وقابليتها للاستدامة، كما اعتدى على دستور البلاد، وشكك في ضرورة الامتثال له.

واليوم، يصمد ترامب، بكل ادعاءاته وشططه، أمام هذا النسق الذي بدا محكم البناء، ويخوض منافسة ضارية، بحظوظ متقاربة، مع كامالا هاريس، ولا يعد سوى بمزيد من السياسات التي تزعزع أجزاء حيوية من النسق الليبرالي والقيم الديمقراطية.

ويعتمد ترامب، في شططه ذلك، على قاعدة انتخابية واسعة من الناخبين الذين ينخرطون في حملات لدعمه، وسيمنحونه أصواتهم، رغم معارضة شرسة ومُنظمة تستهدف إظهار «فاشيته» وانقلابه المفترض على أسس المجتمع والدولة، التي تتصدر العالم كقوة عظمى غالبة ومُهيمنة إلى حد كبير.

لا يمكن توقع اسم الفائز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المُنتظرة، ومع ذلك، فإن حظوظ ترامب كبيرة، ولا يمكن استبعاد احتمال فوزه، وهو أمر قد يتكرر بنسب متباينة في مجتمعات غربية أخرى، شهدت صعودا لافتا لقادة وأفكار وأحزاب يمينية شعبوية، لا تنكر شعبويتها، ولا تدحض بجدية الاتهامات بتبنيها أفكارا «نازية» أو «فاشية» في بعض الأحيان. وفي المقابل، تبرز دول مثل الصين، وروسيا الاتحادية، وسنغافورة، وغيرها، تقول نخبها الحاكمة إنها لا تتبنى الأنموذج السياسي الغربي، ولا تعتقد في الديمقراطية الغربية كأسلوب حكم وحيد مُختار ومُصطفى.

تتبنى تلك الدول، أو تقول إنها تتبنى، أنموذج «الجدارة السياسية»، أي أنها تولى أمورها لساسة يتسمون بالكفاءة، والوطنية، والقدرة على الإنجاز، ولذلك، فإنها تحقق مكانة سياسية، ومعدلات تنمية اقتصادية عالية ومُطردة، وتضمن تحقيق الاستقرار والتقدم، وفق ظروفها ومواردها. سيظل هذا التباين قائما، لأن العالم وشعوبه ومجتمعاته ليست، ولن تكون، نسخا مكررة، لكن أحد أهم الانتقادات التي توجه للمجموعة التي تعاند فكرة «نهاية التاريخ»، أن تلك «الجدارة السياسية» قد تفتقد الرحمة والرأفة بمواطنيها، لأنها لا تشركهم في اتخاذ القرارات العمومية، ولا تعنى بتداعيات تلك القرارات عليهم في المجالات الحقوقية، وفي عدم القدرة على تعميم أثر النمو بعدالة، فضلا عن الإخفاق في مقابلة التوقعات وتوزيع التكاليف. لذلك، فقد طوّر مفكرون شرقيون مصطلح «الجدارة الرحيمة» Compassionate Meritocracy، وهو المصطلح الذي يُلزم القادة، الذين يعارضون فكرة الديمقراطية الغربية كإطار عمل سياسي واقتصادي واجتماعي، بضرورة نهج سبيل ينطوي على الجمع بين «الجدارة السياسية» والرحمة والرأفة بالمواطنين.

سيعني هذا أن التخلي عن فكرة الديمقراطية الغربية بكل ما تحمله من قيم وسياسات وآليات ليس هو الإشكال الأكبر، لكن هذا الإشكال يكمن في تبني نظام آخر يفتقد الجدارة أو الرحمة، أو كليهما، وهنا ستكون الليبرالية الغربية ما زالت قادرة على بلوغ «نهاية التاريخ».


نقلاً عن المصري اليوم



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية