«يهدد لقمة العيش».. مُزارعات تونسيات يواجهن قسوة الحياة وتغير المناخ
خبراء: تراجع قطاع الزراعة يدفع العاملات للنزوح والبحث عن مهن أخرى
تعيش تونس منذ عدة سنوات أزمة جفاف حادة عصفت بقطاع الزراعة، جرّاء تراجع هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة التي بلغت مستويات غير مسبوقة، وهو ما أجبر العديد من النساء العاملات في الزراعة على هجر أعمالهن والبحث عن فرص عمل أخرى.
وتظهر تفاصيل الأزمة على وجه "حليمة" الشاحب الذي خطّ فيه الزمن خطوطا عريضة مع التشققات التي رسمها الجفاف في أرضها القاحلة، ليُبرزا معا فداحة المعاناة التي تعيشها المرأة التونسية بعد أن فقدت مورد رزقها الوحيد "الأرض"، بفعل تغيّر المناخ.
تقتات حليمة (55 سنة) مثل المئات من النساء التونسيات على زراعة الأرض وتربية الماشية والطيور في منطقة "الروحية" بالشمال الغربي للبلاد التونسية، وهي مسقط رأسها الذي أبت الابتعاد عنه رغم قساوة تضاريسه ومناخه الحار.
وتمثل هؤلاء النساء العمود الفقري للقطاع الزراعي في تونس ويسهمن بشكل أساسي في ضمان الأمن الغذائي للتونسيات، ورغم عدم توفّر إحصاءات رسمية بشأن أعدادهن فإن معطيات متقاطعة لمنظمات وجمعيات تؤكد أنهن تمثلن أكثر من 70% من اليد العاملة في القطاع الزراعي في البلاد.
الخوف من المجهول
تقول حليمة لـ"جسور بوست" بنبرة يخنقها الخوف من المجهول: "قبل سنوات كانت هذه المنطقة تعج بالأهالي، وها هي اليوم خالية من ساكنيها الذين غادروها نحو المدن هربا من العطش والفقر والخصاصة، بمن فيهم زوجي وأولادي الثلاثة".
ومثل غيرها من النساء العاملات في الزراعة، تقف حليمة في الصفوف الأولى في مواجهة التغيرات المناخية التي قلبت حياتها رأسا على عقب، بعد أن خسرت أرضها بفعل الجفاف وانحسار التساقطات المطرية، وهي تخشى الآن من فقدان كنزها الثمين الذي يؤمّن لها لقمة العيش والمتمثل في بضع دجاجات وعشرة أغنام.
تقطع حليمة يوميا نحو 3 كيلومترات مشيا على الأقدام لبلوغ العين الجبلية الوحيدة التي تتزود منها بالمياه، وتضيف: "أضطر في فصل الصيف للقدوم فجرا إلى العين والوقوف لساعات في طابور طويل على أمل التزود ببَيْدُون ماء (وعاء بلاستيكي يستخدم لنقل المياه) تتقاسمه معي الحيوانات".
قد يطول انتظار حليمة دون أن تظفر بقطرة واحدة من مياه العين التي بدأت في النضوب بفعل تقلّص الأمطار، فتعود إلى بيتها المتواضع وحيواناتها خالية الوفاض منكسرة الخاطر.
تقول حليمة: "هنا في منطقة الروحية باتت قطرة المياه أغلى من قطرات الزيت"، فبسبب ندرتها تخيّر المرأة الخمسينية أحيانا سقي حيواناتها على أن تغتسل وتروي ظمأها، خاصة وهي التي تجرّعت مرارة نفوق عدد من نعاجها بسبب العطش.
ضريبة قاسية للتغيرات المناخية
وفي جبنيانة (محافظة صفاقس) بالوسط الشرقي للبلاد التونسية، ورغم اختلاف المحافظات وبعد المسافات، تتقاطع قصة حليمة مع قصة نادية التي تدفع هي الأخرى ضريبة قاسية للتغيرات المناخية.
تعي نادية (48 سنة) التي قضّت 20 عاما من عمرها في امتهان الزراعة جيّدا أثر تغيّر المناخ على مهنتها كعاملة فلّاحية.
وتقول في تصريح لـ"جسور بوست": "شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعا كبيرا في درجات الحرارة مقابل تقلّص التساقطات المطرية، وهو ما أضّر بالفلاحين الذين باتوا يلجؤون إلى الزراعات الأكثر تحمّلا للجفاف والأقل استهلاكا للمياه".
وتؤكّد أن هذه التغيّرات أدّت إلى تقلّص الزراعات وتراجع مردودية القطاع، وهو ما انعكس بشكل مباشر على نشاط عاملات الفلاحة اللاتي بتن يواجهن خيار التقليص من ساعات العمل إلى النصف أحيانا أو التخلي عن خدماتهن.
"الصحة".. الضريبة الأغلى
قد تحافظ عاملات الفلاحة على عملهن ولكنهن يدفعن في المقابل ضريبة أغلى بكثير من فقدانهن له، وهي ضريبة خسارة سلاحهن الوحيد الذي يواجهن به قساوة الحياة وهو صحتهن الجسدية.
تقول نادية: "يلجأ غالبية الفلاحين في تونس إلى مقاومة تغيّر المناخ وتأثيراته على صحة النباتات بتكثيف استعمال الأدوية والمبيدات الكيميائية التي تحتك بها أيادي عاملات الفلاحة بشكل مباشر".
تحمل النساءُ الفلّاحات مضخات المبيدات الكيميائية على ظهورهن للقضاء على الحشرات قصد إنقاذ حياة النباتات، ولكنهن يخاطرن في المقابل بإمكانية التعرض لأمراض تلازمهن طويلا وقد تضع حدا لحياتهن.
تنقل نادية تفاصيل حادثة عايشتها كعاملة فلاحية ولا تزال تلقي بضلالها الوخيمة على حياتها، فتقول: "أذكر جيّدا اليوم الذي أصبت فيه بالإغماء بينما كنت بصدد مداواة الخضر داخل إحدى البيوت المكيفة.. كانت الحرارة مرتفعة جدا والمضخة على ظهري.. خنقتني رائحة الدواء القوية وفقدت القدرة على التنفس".
منذ ذلك اليوم أصيبت نادية بمرض الربو وبات موسّع القصبات الهوائية يلازمها أينما ذهبت، وترى أنها كانت أوفر حظاً من زميلاتها اللائي أصيبت إحداهن بجلطة فارقت على إثرها الحياة بفعل التعرض لحرارة الشمس المرتفعة ورائحة الدواء القوية.
خطر المبيدات
تواجه معظم النساء الفلّاحات خطر المبيدات الكيميائية دون وسائل حماية من قفازات وكمامات وملابس خاصة، حيث تلتحم أياديهن العارية بالأدوية التي تتسبب لهن في أمراض وتعفنات جلدية على غرار سعاد التي باتت تلازمها حساسية جلدية سببها المبيدات.
تحدثت سعاد بن محمد في تصريح لـ"جسور بوست" عن معاناتها اليومية، قائلة: "لم أعد أقوى على مواجهة أشعة الشمس فقد لحق الضرر عيني جراء المواد الكيميائية، وباتت البثور تملأ يدي، ومع ذلك لا أملك خيارا غير الزراعة لأعول به عائلتي".
وتؤكد سعاد (44 سنة) أنها تتعامل مع هذه المبيدات بشكل يومي دون حماية، وهو ما عزز بداخلها الإحساس بعدم القيمة وبأن حياتها لا تساوي شيئا مقابل الربح المادي الذي يسعى إليه الفلاحون.
تطارد سعاد أمنيةً وحيدة وهي امتلاك نعجتَيْن تبعدانها عن العمل الفلاحي المنهِك والمحفوف بالمخاطر، وعلى بساطة هذه الأمنية تبدو بالنسبة إليها مستحيلة وهي المكبلة بعبء مصاريفها المعيشية والتكفل بأدوية والديها العاجزين.
هجرة العمل في الزراعة
تقود هذه الظروف القاسية العديد من النساء الفلّاحات في تونس إلى ترك عملهن الزراعي والنزوح نحو المدن لامتهان أعمال تبدو غريبة عن بيئتهن، وبعضهن يتعرضن للاستغلال.
ويؤكد الخبير في التغيرات المناخية والمستشار السابق لوزير البيئة التونسي، عامر الجريدي، أن البطالة الناجمة عن التغيرات المناخية تضع العديد من النساء العاملات في القطاع الفلاحي في خانة الفقر وتجبرهن على النزوح إلى المدن، حيث يزداد وضعهن هشاشة.
ويضيف الجريدي، في تصريح لـ"جسور بوست": "إن بعض النساء أصبحن يركبن قوارب الموت نحو أوروبا بحثا عن آفاق شُغلية انعدمت في بلادهن بسبب الأزمة الاقتصادية وارتفاع منسوب البطالة وتدهور القدرة الشرائية وحتى انعدامها أحيانا".
ويشير إلى أن النساء الريفيات يعانين من مختلف مظاهر تغير المناخ من الجفاف والفيضانات التي تذهب بمنازلهن الهشة فوق مجاري المياه، وصولا إلى الحرائق التي تسحق الغابات التي تمثل مصدر ارتزاق وغذاء لهن.
وأضاف: "كلّ هذه الآفات المناخية الطبيعية تضغط على النساء في الأرياف والمناطق الزراعية والغابية وتحكُم عليهن بالفقر في ديارهن، وحتى بالموت أثناء نزوحهنّ للمدن أو في هجرتهن غير النّظامية".
النزوح يسيطر على عقول العاملات
أكدت منيرة بن صالح، وهي منسقة النقابة الأولى للعاملات الفلاحيات في تونس، أن فكرة النزوح باتت تسيطر على عقول نساء الريف اللاتي بتن يلجأن إلى مهن أخرى غريبة عنهن في المناطق الحضرية.
وقالت منيرة بن صالح، في حديثها لـ"جسور بوست": "تخيّر العديد من النساء العمل في المصانع بأجور زهيدة تتراوح بين 300 و400 دينار (بين 98 و131 دولارا أمريكيا) على زراعة الأرض في ظل الظروف الراهنة والتغيرات المناخية".
وأضافت، أن جل النساء العاملات في قطاع الزراعة لا يمتلكن الأرض، وحتى في حال امتلاكهن لها يجدن أنفسهن مجبرات على تركها بسبب قلة الإمكانات وصعوبة تأقلمهن مع التغيرات المناخية، فيخترن الهجرة أو النزوح.
مخاطر وصعوبات
أضافت منيرة بن صالح أن قرابة 600 ألف امرأة في قطاع الزراعة في تونس مسؤولات عن تأمين الغذاء لما يزيد على 12 مليون مواطن تونسي، ويتكبدن لأجل ذلك العديد من المخاطر والصعوبات.
بحسب تقرير للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، صدر في إبريل 2023 فإن مجموع اليد العاملة الفلاحية في تونس قُدِّر بـ946773 عاملاً وعاملة خلال الموسم الزراعي 2017-2018، وبلغ عدد النساء التونسيات العاملات في القطاع الزراعي 521306 عاملة.
وكشف ذات التقرير أن 8% فقط من مجموع أصحاب المشاريع في تونس هن نساء و92% من أصحاب المشاريع الزراعية ومالكيها رجال، في حين أن 5% من النساء في قطاع الزراعة في تونس يملكن هذه المشاريع الزراعية، وتمثل النساء في تونس 62% من اليد العاملة.
ويَبرز المناخ ضمن أحد أهم مسببات الهجرة التي تزداد تأثيراتها يوما بعد يوم، إذ يشير تقرير للبنك الدولي (صدر في 13 سبتمبر 2021) إلى أن تغير المناخ قد يجبر 216 مليون شخص على النزوح داخل بلدانهم بحلول عام 2050.
وتوقع التقرير أن يكون هناك 19 مليون مهاجر في منطقة شمال إفريقيا، مرجحا أن تكون مدن تونس الكبرى بؤرة هجرة داخلية ما لم يتم اتخاذ إجراءات فورية للحد من تداعيات تغير المناخ على قطاع الزراعة.