اقتصاد موازٍ وحقوق غائبة.. أكثر من مليون عامل غير نظامي في تونس خارج مظلة القانون
اقتصاد موازٍ وحقوق غائبة.. أكثر من مليون عامل غير نظامي في تونس خارج مظلة القانون
تواجه تونس تحديًا كبيرًا يتمثل في وضع العمالة غير المنتظمة التي تفتقر إلى أبسط حقوقها الاجتماعية والقانونية. وبينما تعمل هذه الفئة المهمة في مختلف القطاعات الحيوية للاقتصاد التونسي، يبقى هؤلاء العمال دون حماية قانونية تقيهم الاستغلال أو تضمن لهم حياة كريمة.
تشير الإحصاءات إلى أن حوالي نصف القوى العاملة في تونس تعمل ضمن الاقتصاد غير المنظم، ما يجعلها من الدول التي تعاني بشدة من توسع هذا القطاع، ما يؤدي إلى خسائر اقتصادية ويهدد تراجع حقوق العمال وقيم العدالة الاجتماعية. وخلال مؤتمر مشترك بين منظمة "العمل ضد الإقصاء" و"مبادرة المهارات لإفريقيا"، حذرت "العمل ضد الإقصاء" من تزايد أعداد العاملين في الاقتصاد غير المنظم في تونس، الذين بلغوا حوالي 1.6 مليون عامل. هذا العدد يعكس خسائر كبيرة بسبب التهرب الضريبي، إذ تقدر منظمة العمل الدولية أن الدولة تخسر قرابة 977 مليون دولار سنويًا نتيجةً لذلك.
الاقتصاد الموازي
يُشكل الاقتصاد الموازي نسبة تتجاوز 60% من إجمالي الأنشطة الاقتصادية في تونس، وهو في تزايد بسبب التحديات الاقتصادية، لا سيما بعد جائحة كورونا. وتعتبر القطاعات التي ينشط فيها العمال غير النظاميين، مثل الزراعة والتجارة الموازية، الأكثر استقطابًا لهذه الفئة. وفي هذا السياق، أكدت رئيسة منظمة "العمل ضد الإقصاء" زهرة بن نصر أن هؤلاء العمال يعانون من التهميش الشديد ويفتقرون لأبسط الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
من جانبها، أطلقت "العمل ضد الإقصاء" مشروعًا بالتعاون مع "مبادرة المهارات لإفريقيا" يسعى إلى إدماج هؤلاء العمال في الاقتصاد الرسمي، ما سيوفر لهم الحماية الاجتماعية والصحية ويمكّن الدولة من تحصيل عائدات إضافية تقدر بين 400 و500 مليون دولار سنويًا، وفقًا للخبير الاقتصادي رفيق باراكيزو.
ورغم الجهود المبذولة لإدماج العمال غير النظاميين، يبقى التحدي كبيرًا، إذ أظهر تقرير حديث للبنك الدولي أن الاقتصاد الموازي في تونس لا يقتصر على قطاع معين، بل يمتد عبر مختلف الفئات والمناطق، وتقدر منسقة برنامج "مبادرة المهارات لإفريقيا" صوفيا بحري أن نسبة الاقتصاد غير المنظم تصل إلى حوالي 85% في إفريقيا، بينما تشكل في تونس أكثر من 60% من النشاط الاقتصادي، ما يُبرز الحاجة إلى إصلاحات شاملة.
ويُشكل تزايد القطاع غير المنظم مؤشرًا على القصور في السياسات الحكومية، حيث لم تتمكن الدولة حتى الآن من دمج هذه القوى العاملة ضمن المنظومة الرسمية، وتشدد منظمات حقوقية ونقابات على ضرورة تشريع قوانين تضمن حقوق العمالة غير المنتظمة وتُلزم أصحاب العمل بتوفير عقود عمل وتأمينات صحية واجتماعية لهذه الفئة.
ويرى اقتصاديون أن إدماج العمال غير النظاميين يعد خطوة نحو معالجة المشكلة، إلا أن ذلك يتطلب التزامًا حكوميًا حقيقيًا واستراتيجية شاملة تُسهم في تسوية أوضاعهم القانونية وتوفير الحماية لهم.
ويعكس واقع العمالة غير المنتظمة في تونس ضعف الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، حيث تنعدم الحماية الاجتماعية، ويظل السؤال المطروح: كيف ستتعامل الدولة مع هذا التحدي لتحقيق بيئة عمل عادلة وآمنة لجميع العمال؟
تهميش واستغلال بلا حماية
وقال الخبير الاقتصادي والأكاديمي علي الشافعي، إن العمالة غير المنتظمة في تونس تمثل جزءاً معقداً ومتنامياً من الاقتصاد التونسي يعكس التحديات الهيكلية في سوق العمل المحلي ويضع ضغوطاً على النظام الاقتصادي والاجتماعي في آن واحد، وتشير الأرقام الرسمية إلى أن قرابة نصف القوة العاملة التونسية تعمل بشكل غير منتظم، وهو ما يساهم في ظاهرة الاقتصاد الموازي ويعكس العوائق الأساسية التي تواجهها البلاد في دمج شرائح كبيرة من العمالة في الاقتصاد الرسمي، وهذه الظاهرة لها تداعيات عميقة، إذ تتجاوز المشكلات المالية والإدارية لتؤثر بشكل جوهري على حياة الأفراد وأسرهم، وتزيد من تعقيد تحديات النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي.
تتمثل أحد أبعاد هذه المشكلة في ضعف الهياكل الاقتصادية والنقص في الوظائف الرسمية، ما يدفع الأفراد، خصوصاً في المناطق النائية والأقل حظاً من الخدمات والفرص، إلى العمل في قطاعات غير منظمة، ويتفاقم الأمر مع وجود قيود قانونية وإدارية تزيد من صعوبة الانتقال إلى الاقتصاد الرسمي. كثيراً ما يجد العاملون في الاقتصاد غير المنظم أنفسهم عالقين في دائرة مغلقة من التهميش والاستغلال، حيث يفتقدون إلى حقوقهم الأساسية كالرعاية الصحية والتأمين الاجتماعي، ما يجعلهم عرضة للأزمات الاقتصادية والصحية.
وأضاف، وفي هذا السياق، تبرز الحاجة إلى تطوير سياسات اقتصادية قادرة على خلق فرص عمل مستدامة وتوسيع النطاق الرسمي للاقتصاد، بحيث يستطيع هؤلاء الأفراد العمل ضمن إطار يوفر لهم الحد الأدنى من الحقوق.
وأوضح الشافعي أن التحدي الآخر الذي يواجه العمالة غير المنتظمة في تونس هو غياب المظلة القانونية التي تحميهم من استغلال أرباب العمل، ففي ظل انعدام العقود القانونية، يعمل هؤلاء الأفراد في بيئات غير آمنة، ما يؤدي إلى تفاقم الأوضاع المعيشية ويضعهم في مواقف يصعب فيها المطالبة بحقوقهم. وقد أدت جائحة كورونا إلى تسليط الضوء على هذه المشكلة، إذ وجد العديد من العمال أنفسهم دون عمل أو دعم في لحظة طارئة، ما أظهر بوضوح هشاشة هذه الفئة الاقتصادية وأهمية توفير الحماية لها.
من جهة أخرى، يؤثر انتشار الاقتصاد غير المنظم على استدامة الاقتصاد الوطني ككل، حيث يؤدي عدم خضوع جزء كبير من الأنشطة الاقتصادية للضرائب والرقابة إلى خسائر مالية جسيمة. ووفقاً للتقديرات، يكبد الاقتصاد غير الرسمي تونس خسائر كبيرة نتيجة التهرب الضريبي، ما يحرم الدولة من موارد حيوية يمكن استخدامها لتحسين البنية التحتية، وتعزيز الخدمات العامة، وتمويل برامج الرعاية الاجتماعية. وبالإضافة إلى هذه الخسائر المالية، يسهم الاقتصاد غير الرسمي في تشويه الإحصاءات الاقتصادية ويجعل التخطيط الفعّال أمراً بالغ الصعوبة.
وأكد أنه لمعالجة هذه المشكلات، من الضروري تنفيذ استراتيجيات شاملة ترتكز على تبسيط الإجراءات الإدارية وتقديم حوافز للعاملين وأرباب العمل في القطاعات غير الرسمية للانضمام إلى الاقتصاد الرسمي، وهذا يتطلب إصلاحات شاملة في النظام الضريبي والمالي، حيث يجب تطوير أنظمة ضريبية مبسطة تناسب احتياجات الفئات الهشة وتخفف من عبء الامتثال للقوانين، ما يشجع على الانتقال نحو الاقتصاد المنظم. كما يجب أن ترافق هذه الإصلاحات سياسات اجتماعية تقدم دعماً متوازناً للعمال غير المنتظمين، مثل برامج التدريب المهني وتطوير المهارات، لتمكينهم من الحصول على وظائف تضمن لهم الاستقرار المالي.
وأشار إلى أن المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية يمكن أن تلعب دوراً مهماً في هذا التحول، حيث يمكنها توفير الدعم القانوني والمشورة للعمال غير المنتظمين وتوعيتهم بحقوقهم. كما يمكن أن تساهم هذه المنظمات في تسهيل عملية إدماجهم في الاقتصاد الرسمي من خلال توفير برامج تدريبية مخصصة وتعاون مع القطاع الخاص لإنشاء مبادرات توظيف مستدامة.
وبحسب الخبير الاقتصادي ففي ضوء هذه المشكلات، تتطلب معالجة العمالة غير المنتظمة نهجاً طويل الأمد ومتكاملاً يشمل الإصلاحات القانونية والاقتصادية والاجتماعية. على الحكومة التونسية أن تتبنى سياسات تسعى إلى بناء اقتصاد متكامل ومستدام، يأخذ في الاعتبار حقوق واحتياجات جميع العمال، ويوفر لهم فرصاً متساوية للعمل الكريم.
وضع مأساوي
وفي السياق، قالت الإعلامية التونسية، ريما خليفة إنني أعيش في تونس، وأراقب بقلق متزايد أزمة العمالة غير المنتظمة التي تتفشى في بلادي، يُقدّر أن أكثر من مليون ونصف المليون عامل غير منتظم يعانون من التهميش وفقدان حقوقهم الأساسية، وهو وضع يعكس عجز الدولة عن توفير الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية لهؤلاء الأفراد الذين يسعون بكل جد لكسب لقمة عيشهم، فواقع هؤلاء العمال لا يمكن وصفه إلا بالمأساوي، حيث يعمل الكثير منهم في قطاعات حساسة مثل الزراعة والتجارة والحرف اليدوية، وفي كل يوم يواجهون ظروف عمل قاسية دون أي ضمانات، فكيف يمكن للإنسان أن يعيش بكرامة وهو يعلم أنه في أي لحظة قد يفقد عمله دون أن يجد أذنًا مصغية لمطالبه؟ يفتقر هؤلاء العمال إلى أبسط حقوقهم، مثل التأمين الصحي والضمان الاجتماعي، ما يضعهم في دائرة الفقر والحرمان.
وتابعت في تصريحات لـ"جسور بوست"، تُظهر هذه الأزمة التمييز الاجتماعي الذي يعاني منه العمال غير المنتظمين، يُنظر إليهم أحيانًا على أنهم عبء على المجتمع، ما يعزز مشاعر الإقصاء والتهميش. هذا النمط من التفكير لا يضر العمال فحسب، بل يؤثر على النسيج الاجتماعي ككل، حيث يتعزز الفقر ويفتقر المجتمع إلى التلاحم المطلوب، وتُركّز الدولة في سياساتها على جوانب اقتصادية معينة، ما يترك هؤلاء العمال في حالة من العزلة، هل يُعقل أن تُركب الحكومة سياسات دون أن تأخذ بعين الاعتبار احتياجات هؤلاء العمال؟ فهذا التوجه يعكس فشلًا في الرؤية السياسية والاجتماعية، حيث يجب أن تكون هناك سياسات فعالة لدمج هؤلاء العمال في الاقتصاد الرسمي وتوفير الحماية الاجتماعية لهم، أشعر أن هناك حاجة ملحة لتطوير قنوات تواصل فعالة بين العمال غير المنتظمين والجهات الحكومية.
وأكدت خليفة أنه يجب أن تتاح لهؤلاء العمال الفرصة للتعبير عن مشكلاتهم، بل والمشاركة في وضع السياسات التي تمس حياتهم، لماذا لا يتم إنشاء منصات تواصل تسمح للعمال بالتعبير عن معاناتهم والمساهمة في تطوير حلول فعّالة تتناسب مع احتياجاتهم؟ يجب أن يكون هناك تعاون مع منظمات المجتمع المدني التي تُعنى بحقوق الإنسان لضمان توصيل أصوات العمال.
واسترسلت، في ظل هذه الظروف الصعبة، يبقى الأمل معقودًا على قدرة هؤلاء العمال على تنظيم أنفسهم والتعبير عن مطالبهم بشكل جماعي، فالتجمع في شكل جمعيات أو اتحادات يُعزّز من حقوقهم ويساهم في نشر الوعي بقضاياهم، ولكن، لا يمكن أن يكون ذلك بديلاً عن مسؤولية الحكومة في حماية حقوق مواطنيها، ومن واجب الدولة أن تدرك أن العمالة غير المنتظمة ليست مجرد أرقام، بل هم أشخاص يعيشون في ظروف صعبة ويعتمدون على تلك الأعمال لتأمين لقمة عيشهم، فالصمت عن هذه الأوضاع هو بمثابة تجاهل لحقوق الإنسان الأساسية، وهو ما يجب أن يتوقف. إن الاستجابة السريعة والمناسبة من قبل الحكومة هي الخطوة الأولى نحو تغيير هذا الواقع.
وأتمت، ريما خليفة قائلة: إذا كانت تونس ترغب في بناء مستقبل عادل ومستدام، فعليها أن تبدأ بمعالجة القضايا الأساسية التي تواجه هؤلاء العمال، فدعم حقوقهم هو دعم للعدالة الاجتماعية والاقتصادية، ويجب أن يكون ذلك في صميم السياسات الوطنية، إذا لم يُفتح المجال أمام العمال غير المنتظمين للحصول على حقوقهم، فكيف يمكننا أن نتحدث عن دولة تحترم حقوق الإنسان وتعمل على تحقيق العدالة للجميع؟