«الفراشات» ترفرف رغم الحرب.. «روان» تدعم سيدات السودان بالتعليم والتوعية
«الفراشات» ترفرف رغم الحرب.. «روان» تدعم سيدات السودان بالتعليم والتوعية
بدّلت الحرب من شخصية روان عبدالرافع؛ حيث كانت ذات العشرين ربيعا ناقمة، وخلال عام أصبحت نبراسا في محيطها، تدور بين القرى السودانية لتنشر الوعي الصحي والتعليمي بين النساء، تساعدهن على إيجاد فرص عمل، تفتح لهن أبوابا جديدة للمعرفة، تنفض عن نفسها أذى النزوح والبُعد عن الحياة القديمة بأن تغير -ولو القليل- في حياة النساء السودانيات.
كانت روان تعيش في مدينة أم درمان بالخرطوم، تدرس علوم الحاسوب بالجامعة هناك وتطمح للكثير، لكن الحرب غيّرت ملامح حياتها كما فعلت مع البقية.
في منتصف إبريل 2023 اندلعت اشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وانتشرت عمليات النهب والقتل بعد 18 شهرا من انقلاب عسكري في الجيش السوداني، ما أدى لنزوح آلاف المواطنين داخليا وخارج البلاد.
وخلال الأشهر الأولى من الحرب مكثت روان وأشقاؤها الثلاثة بمنزلهم مع الوالد "ووالدتي كانت وما زالت خارج السودان"، انقطعت الكهرباء لأيام وكذلك الماء والمؤن الغذائية "كانت شحيحة"، دبّرت العائلة أمرها بالكاد غير أنهم لم ينووا الرحيل "رغم إنه قوات الدعم السريع كان ليها معسكر كبير بمنطقتنا وكانوا يدخلوا المنازل الفاضية يسكنوها وكان الرصاص فوق راسنا بكل ساعة".
ومع زيادة حالات النهب والسرقة والقتل الطائش اضطرت روان للخروج مع أخواتها "تركنا أبوي بالمنزل على أمل نرجع"، لم تكن تعرف أن حياتها الجديدة بدأت للتو.
نزوح داخلي
نزح الإخوة في البداية داخل مدينة أم درمان لعدة أسابيع "كان أبوي في حتة وأمي في حتة.. كانت فترة صعبة علينا شديد".
ظن الأشقاء أن العودة للمنزل آتية لا محالة "بس كنا نسمع إنه جيراننا كلهم نزحوا وما بقي أحد"، فيما ساءت الأوضاع في منفاهم الجديد "وصل إلينا القتل والتفجيرات.. كانت قوات الدعم السريع يشوفوا مجموعة من مواطنين متجمعين يضربوا عليهم دانات".
مرت الشابة بأسوأ فترة في حياتها "لأنه حتى أبوي ما كنا عارفين نكلمه بسبب انقطاع الاتصالات".
نزوح يتجدد
في أغسطس 2023 التأم شمل الأب مع أبنائه "وقتها قررنا النزوح لولاية نهر النيل حيث قرية ديم القراي بمدينة شندي وهي القرية اللي اتولدت فيها أمي".
لم يصطحب الأبناء شيئا معهم من المنزل؛ لا كتب ولا أدوات دراسية ولا أجهزة الحاسوب الشخصية "كل شيء حدث بسرعة والوضع كان خطر شديد"، وحين وصلت روان للقرية لم يهدأ خوفها "كنا يوميا نسمع إنه الدعامة (الدعم السريع) جايين علينا أو إنه فيه ناس هيسلموا ليهم شندي"، مرت الأيام ثقيلة على الفتاة، توقفت الدراسة في السودان وباتت الحياة فارغة إلا من أخبار الحرب "وانقطاع الكهرباء لأكثر من 18 ساعة يوميا".
لم يتوقف الأمر عند ذلك؛ فكثرة النازحين وصعوبة الظروف الصحية أدت لانتشار التلوث والأمراض "رغم أنه قريتنا كان حالها أفضل من غيرها"، إذ لم تسلم روان من ذلك؛ اُصيبت بالملاريا 5 مرات منذ بداية الحرب، تمتن للتعافي في كل مرة "رغم إني ما بقدر أوفر بسبب الحرب غير الفيتامينات والراحة والأدوية البسيطة"، كان عامها الأول في "ديم القراي" قاسيا، لكن تعودت الشابة السودانية على الظروف وبدأت تلتحم بسيدات القرية سواء النازحات أو الساكنات.
صناعة محتوى تعليمي
في يوليو الماضي طلبت جارة روان التي تعمل مُعلمة في القرية من الشابة أن تساعدها "كان معها لاب توب وما بتعرف كيف تشغله عشان تدرس به الطلاب"، أعطتها روان عدة محاضرات مبسطة ومكثفة لكيفية استخدامه وتشغيل البرامج المهمة لصناعة محتوى تعليمي "وكان رد فعلها غاية في الجمال.. يمكن أول حاجة بسطتني من ساعة الحرب"، وقتها لمعت في ذهن الفتاة فكرة "ليه ما أعلم سيدات القرية يستخدموا التكنولوجيا بشكل أفضل في ظل الحرب؟".
أثناء دراستها في الجامعة تطوعت روان لمبادرة "هي للتكنولوجيا" الموجهة لسيدات السودان "كنا نعمل كورسات محو أمية تكنولوجية لكن أونلاين"، قررت الطالبة نقل التجربة لأرض الواقع؛ اتجهت لخَلوة القرية "وهو المكان اللي بتدرس فيه السيدات عندنا القرآن مثل الكتاتيب في مصر"، استأذنت القائمين عليه ليكون مُستقرا للمحاضرات "عملنا أول 4 محاضرات بحضور 28 سيدة وفتاة من القرية" فيما تراوحت أعمارهن بين 12 و65 عاما.
استغلت روان اليوم العالمي لمحو الأمية في 7 سبتمبر لتبدأ أولى تلك المحاضرات، غير أن الأمور لم تكن سهلة "أنا خرجت نازحة ما معي لاب توب ولا شيء وأصلا القرية ما فيها شيء"، تعديلات بسيطة أجرتها صاحبة العشرين عاما على المنهج ليلائم الهواتف المحمولة "علّمنا السيدات كيف يعملوا إيميل وصفحات تواصل وملفات للتخزين، وكيف يدوروا على مواقع تعطيهم كورسات تعليمية مختلفة، وكيف حتى يلاقوا فرص عمل أونلاين"، رغم بساطة الفكرة فإنها لقيت استحسانا كبيرا "بقوا سيدات يجونا ويتواصلوا معاي عشان نكرر الكورس مرة ثانية وثالثة".
وذلك ما فعلته روان، لكنها استطاعت الحصول على لابتوب أخيرا "بديت أستخدمه في المحاضرة الأخيرة عشان تكون عملية وباقي المحاضرات بالموبايل"، أدخلت الفتاة تغييرات طفيفة لتحفز السيدات "بقى فيه امتحان في نهاية المحاضرات وتوزيع شهادات مطبوعة وهدايا بسيطة"، تذكر روان بفخر أن أكبر الناجحات عمرا كانت مُعلمة الخلوة صاحبة الـ65 عاما، فيما تكوّن بعقلها اسم جديد لتلك المبادرة "أسميناها فراشات في التقنية لأنه نتمنى تكون ذات أثر لطيف على السيدات".
رغم تعثر الخطى وصعوبة التحضير للأمر ونقص المعونات، فإن روان ما يئست من البحث عن ما يفيد السيدات.. في بداية أكتوبر الماضي ومع دخول شهر التوعية بسرطان الثدي، سألت في الوحدة الصحية للقرية عن حملات التوعية "وعرفت إنه آخر حملة اتعملت في القرية عندنا كانت منذ 7 سنوات"، على الفور بدأت الفتاة في التحضير لمبادرتها التالية رفقة متطوعات أخريات "هذه المرة كان التطوع مع نادي اسمه شأني الوردي بيعملوا توعية صحية للفتيات في المدارس، وأنا أخدت تدريب هناك مع الدكتورة تبيان حسن عشان أكون مؤهلة لعمل الحملة"، لم تجد روان في الوحدة الصحية للقرية مكانا ومؤهلات تكفي للحدث، غير أنها اتفقت مع بعض المتطوعات من الهلال الأحمر "واستأذنا نعمل المحاضرات في مدرسة القرية".
لم تتوقع روان ردود فعل السيدات على الحملة "كتير منهم عندهم معلومات مغلوطة عن السرطان"، حتى إنها تذكر بعض السيدات اللاتي تواصلن معها بعد الحملة يخبرنها عن فائدة الفحص المبكر اللاتي قمن به منزليا "وفيه واحدة اكتشفت ورم في الثدي لكن الحمد لله كان حميد وبدأت العلاج"، قدّمت روان أيضا للسيدات حفنة من المعلومات التكنولوجية خلال التوعية، إذ عرفتهن كيفية تنزيل بعض التطبيقات الطبية التي تخبرهن بصورة أكبر عن السرطان، فيما انتشرت الحملة لتشمل 4 قرى أخرى في ريف مدينة شندي.
التطوع خلال الحرب
التطوع خلال الحرب ليس سهلا؛ ثمة أخطار محدقة في الانتقال من قرية لأخرى خاصة للسيدات، لولا ضيق ذات اليد لمتطوعات الحملة لاتسعت رقعة المستفيدات من التجربة "بالإضافة إنه المتطوعين نفسهم أحيانا يكونوا مستهدفين من قوات الدعم السريع"، إذ تتذكر روان قبل النزوح مقتل 7 متطوعين في الخرطوم، طبقا للهلال الأحمر السوداني.
في أثناء التطوع واجهت روان ورفيقاتها هجوما من سيدات في قرى مختلفة، منهن من اتهمت روان بالحصول على مقابل مادي، وبعضهن لم يتقبلن ما تقوم به المتطوعات "يعني كنا بنجمع ونوزع فوط صحية للسيدات عشان الحرب وبعضهم كان شايف إنه عيب وما ينفع"، لكن ذلك ما فتّ في عضد الفتاة، إذ زرعت بذرة مبادرة جديدة في القرية اسمها بيت البنيات.
"بيت البنيات هي مساحة آمنة لسيدات الريف زي فُسحة نعمل فيها تثقيف صحي وتعليمي والسيدات يتعلموا يكونوا منتجات"، من مدرسة لأخرى تنقلت روان مع رفيقاتها المتطوعات "ركزنا أكتر على الفتيات"، قابلت روان أكثر من 300 فتاة، شعرت بالامتنان لما سمعته خلال تلك الرحلة "البنات اللي علمناهم يستخدموا التكنولوجيا أو يعرفوا أكتر عن الصحة واللي بقوا يقولولنا إننا إديناهم أمل خلال الحرب".
العمل الطوعي
ما زال أمام روان الكثير في مجال العمل الطوعي، تتعطل قدراتها أحيانا بسبب الحرب أو الظروف الشخصية لكنها لا تتوقف عن تقديم المساعدة. كانت لديها طموحات واسعة هدمها الاقتتال "أبسطها إني أمثل بلدي السودان في مجال التقنيات التكنولوجية وأشارك في المؤتمرات"، تضع الشابة سيناريوهات عديدة لمستقبلها، إذا لم يحدث ما حدث "كان زماني في العام الثالث الجامعي مش الثاني وكان زماني قطعت شوط طويل في مجال ريادة الأعمال اللي بدأت فيه وأنا في أولى جامعة".
تتذكر روان فرحتها العارمة حين اشترت قرطا من الذهب حصلت على أمواله من مشروعها الصغير لمنتجات البشرة، غير أنه مع انقطاع الاتصال بأبيها وانقطاع الخدمات المصرفية ببداية الحرب توقف المشروع و"اضطريت أبيع الحلق عشان كنا محتاجين قروش".
انقضى أكثر من عام ونصف على الحرب، نزح بسببها أكثر من 10 ملايين سوداني طبقا لمنظمة "أطباء بلا حدود"، ورغم الحزن على أحلامها التي سُرقت لكن روان تعتبر نفسها رابحة "الحرب خلتني أشوف الناس حواليا شنو عايشين وكيف أساعدهم وخلتني أكثر امتنانا للأشياء مهما بدت بسيطة حتى لو شربة موية (مياه) نظيفة".