من غزة إلى لبنان.. الصحفيون العرب أهداف مباشرة للنيران في 2024
من غزة إلى لبنان.. الصحفيون العرب أهداف مباشرة للنيران في 2024
شهد الإعلام خلال العام الجاري 2024 تحولًا عميقًا في دوراته ومسؤولياته بين حق التعبير وحقوق الإنسان من جهة، وبين التضييقات المستمرة التي يتعرض لها الإعلاميون من جهة ثانية.
ويُعد الإعلام إحدى الدعائم الأساسية لحقوق الإنسان حيث يعكس الواقع ويعزز الوعي العام ويسهم في خلق بيئة ديمقراطية، وهو بذلك يمثل العمود الفقري للشفافية والمحاسبة، ولكن في ظل التضييق والرقابة، بات دور الإعلام اليوم محاطًا بالعديد من التحديات التي تهدد استمراره وحريته.
في الوقت الذي تتمتع فيه بعض البلدان الديمقراطية ببيئة إعلامية شبه مستقلة، نجد أن القمع الإعلامي في العديد من الدول التي تدعي التزامها بحقوق الإنسان -في الواقع- يشهد تزايدًا ملحوظًا في الأعوام الأخيرة.
وصنفت منظمة "مراسلون بلا حدود" في تقرير صادر عنها في بداية 2024، 17 دولة على أنها من "أسوأ" البلدان في مجال حرية الصحافة، حيث يعاني الصحفيون من تهديدات الاعتقال، والتعذيب، والرقابة المفرطة.
ووفقًا للتقرير نفسه، فإن منطقة الشرق الأوسط تحتل مركزًا متقدمًا في هذا السياق، حيث ما زالت الحكومات في بعض الدول العربية، تمارس أساليب تقيد الإعلام وتمنع الصحفيين من الوصول إلى المعلومات.
وتتناقض الحرية الإعلامية في هذه البلدان بشكل صارخ مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان التي تنص على أن لكل شخص الحق في التعبير عن آرائه بحرية، وهو ما يعكس التوتر بين هذه الحقوق والأنظمة الاستبدادية التي تسعى للسيطرة على الرأي العام.
وخلال 2024، نشر الاتحاد الدولي للصحفيين تقريرًا أظهر أن نحو 90% من الصحفيين في الدول غير الديمقراطية يواجهون تهديدات مباشرة من قبل سلطات الأمن، سواء من خلال الاعتقالات أو الملاحقات القانونية.
التضييق على الصحافة
وتشير هذه الإحصائيات إلى أن التضييق على الصحافة قد أصبح أكثر شراسة، بل وأصبح العديد من الصحفيين يختارون الصمت أو الهجرة نتيجة لهذه الضغوط المتزايدة.
من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل ما يحدث للصحفيين في غزة ولبنان، حيث شهد عام 2024 تصعيدًا مقلقًا في استهداف الصحفيين ما يهدد حرية الصحافة ويؤدي إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
وفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، ارتفع عدد الشهداء من بين الصحفيين إلى 192 منذ بدء الحرب، كان آخرهم الصحفي ميسرة أحمد صلاح من شبكة "قدس الإخبارية"، الذي استشهد متأثرًا بجراحه إثر قصف إسرائيلي، وتأتي هذه الجرائم ضمن استهداف متعمد للصحفيين المحليين الذين يوثقون المأساة في غزة، حيث تمنع إسرائيل دخول الصحفيين الدوليين وتضيق على الأصوات المستقلة.
وفي لبنان، استهدف القصف الإسرائيلي مسكنًا للصحفيين في حاصبيا، جنوب لبنان، ما أدى إلى استشهاد 3 صحفيين، ما رفع عدد الشهداء الصحفيين في لبنان لأكثر من 12 صحفيا.
قضايا معقدة
تزداد تعقيدات القضايا المتعلقة بالإعلام وحقوق الإنسان في عالم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، فقد أصبحت منصات التواصل الاجتماعي الآن الميدان الأول للتعبير عن الآراء والنقاشات العامة، وتُعد هذه الشبكات ساحة جديدة للصحافة البديلة والأصوات التي قد لا تجد مكانًا في الإعلام التقليدي، ومع ذلك، ومع انتشار هذه المنصات، ظهر تحدٍ جديد يتمثل في انتشار الأخبار المضللة والمحتوى الضار.
في دراسة حديثة نشرها "المعهد الدولي للصحافة" في 2024، أظهرت أن نحو 60% من الأخبار التي يتم تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي تحتوي على معلومات غير دقيقة، ما يعرّض الجمهور لتهديدات على مستوى الوعي العام.
ومن جهة أخرى، نجد أن هذه الشبكات أصبحت عرضة للرقابة أيضًا، حيث تستخدم بعض الأنظمة الرقابة الرقمية لمراقبة المنشورات وحذف المحتوى الذي يعارض السلطات، كما يحدث في الصين وروسيا.
في العديد من الحالات، يكون الصحفيون الذين يعبرون عن آرائهم بحرية عبر الإنترنت هدفًا للحكومات التي تسعى لقمع معارضتها.
وفي تقارير مفصلة نشرتها "هيومن رايتس ووتش" في 2024، تم التأكيد على أن أكثر من 20 صحفيًا ومواطنًا صحفيًا في مناطق مثل تركيا وروسيا والصين تعرضوا للاحتجاز بسبب منشورات على منصات التواصل الاجتماعي، كما تم حجب العديد من مواقع الإنترنت المستقلة، هذه القيود تبرز حجم التوتر بين الحريات الرقمية وحقوق الإنسان في العصر الرقمي.
ورغم هذا التضييق، يبقى للإعلام دور محوري في تعزيز حقوق الإنسان والدفاع عنها، ففي عام 2024، أظهرت دراسة من "منظمة العفو الدولية" أن 43% من الحملات الحقوقية الناجحة على مستوى العالم قد انطلقت من تقارير صحفية حصرية أو تحقيقات استقصائية.
وساعدت هذه الحملات في تعزيز الوعي الدولي حول قضايا مثل حقوق اللاجئين، والتمييز العنصري، والفساد الحكومي، على سبيل المثال، ساهمت التقارير الصحفية الاستقصائية التي تناولت قضايا حقوق الإنسان في ميانمار في لفت انتباه المجتمع الدولي إلى عمليات التطهير العرقي بحق الروهينغا، ما أدى إلى فرض عقوبات دولية ضد الجيش الميانماري.
ومع تطور التقنيات الحديثة، أصبح من الممكن للصحفيين أن ينقلوا تجاربهم وأعمالهم من خلال أدوات جديدة توفر حماية أكبر لهم.
ففي عام 2024، أطلق العديد من الصحفيين منظمات جديدة تعمل على توفير أدوات أمنية لحماية الصحفيين من الملاحقات الأمنية، وأظهرت الإحصائيات التي قدمتها مؤسسة "صحفيون بلا حدود" في هذا العام أن أكثر من 25% من الصحفيين في المناطق المعرضة للخطر استخدموا تقنيات تشفير متطورة، مثل الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN) لتجاوز الرقابة، كما تم تقديم أكثر من 80 ورشة عمل للتدريب على الأمن الرقمي خلال العام الماضي، ما ساعد العديد من الصحفيين في الحفاظ على خصوصيتهم وأمانهم.
ولا تزال هذه الجهود تواجه العديد من التحديات، فمع ازدياد الاضطرابات السياسية والاقتصادية في بعض الدول، بات من الصعب تحديد مكان الصحفيين الذين قد يواجهون خطر القتل أو التعذيب بسبب تقاريرهم، على سبيل المثال، في العراق، أشارت تقارير "منظمة حقوق الإنسان" في 2024 إلى أن أكثر من 30 صحفيًا عراقيًا قتلوا منذ بداية العقد الماضي بسبب عملهم.
وفي سوريا، تعتبر الصحافة الاستقصائية جريمة محظورة، حيث تم اعتقال العشرات من الصحفيين والنشطاء الحقوقيين بسبب نشر تقارير تتعلق بالانتهاكات التي تقوم بها القوات الحكومية والجماعات المسلحة.
واقع متدهور بلا مساءلة
أكد الخبير الحقوقي ورئيس مركز حماية وحرية الصحفيين، نضال منصور، أن حالة حرية الإعلام في العالم العربي ليست بخير، مشيرًا إلى أن حرية الإعلام في الواقع وعلى مستوى العالم تشهد تراجعًا ملحوظًا، خاصة مع صعود الحكومات اليمينية التي لا تعطي أولوية لحماية حرية التعبير والإعلام.
وأضاف “منصور”، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أنه مع هذا التراجع، تزداد الضغوط على الصحفيين، ما يؤدي إلى تدهور حالة حقوق الإنسان بشكل عام. فالإعلام يلعب دورًا محوريًا في توفير المعلومات للجمهور وتعزيز المشاركة السياسية للمجتمع في صناعة القرار، وعندما تتزايد الضغوط على الإعلام، تعاني المجتمعات من انتهاك حقها في الوصول إلى المعلومات وفي المشاركة السياسية.
وتابع أن استقلالية وسائل الإعلام، خلال السنوات الماضية، عاشت تضييقًا غير مسبوق، فالسلطات في بعض البلدان عملت على تجفيف منابع المال والدعم للصحافة المستقلة، وسيطرت بشكل كبير على وسائل الإعلام، ما جعلها تعكس وجهة نظر أحادية تنحصر في وجهة نظر السلطة التنفيذية وأجهزتها التابعة، ونتيجة لذلك، لم تعد وسائل الإعلام قادرة على ممارسة الصحافة الاستقصائية أو القيام بدورها الرقابي على السلطة التنفيذية أو السلطات الأخرى، وبهذا التقييد، ازدادت الانتهاكات، ولم تعد الصحافة قادرة على توثيقها أو رصدها بشكل فعال.
وشدد “منصور”، على أن لكل مجتمع خصوصياته، لكن هناك قواسم مشتركة بين التحديات التي تواجه الإعلام في المنطقة العربية، أولاً، البيئة التشريعية ليست حاضنة أو داعمة للإعلام، فالقوانين غالبًا ما تكون مقيدة، وتتضمن عقوبات سالبة للحرية وغرامات مالية مغلظة، هذه التشريعات تحد من حرية التعبير وتزيد من خوف الصحفيين وقلقهم، ما يدفعهم إلى ممارسة الرقابة الذاتية على عملهم، وتجنب التطرق إلى قضايا حساسة تنطوي على كشف التجاوزات والانتهاكات.
واسترسل الخبير الحقوقي، لا توجد سياسات واضحة تتبناها بعض الدول العربية لدعم الإعلام، حيث تغيب استراتيجيات فعالة تتعامل مع التحولات الكبرى التي يشهدها الإعلام اليوم، مثل الحماية الرقمية، والتحولات الرقمية، واستخدامات الذكاء الاصطناعي، هذه التحولات تتطلب استجابات متطورة، لكن غياب السياسات المواكبة يجعل الإعلام العربي عاجزًا عن التكيف مع البيئة الإعلامية الحديثة.
وأتم، الممارسات الميدانية تزيد من سوء الوضع، فالانتهاكات ضد الصحفيين أصبحت شائعة، بينما تمتنع السلطات العامة عن التحقيق فيها، ويُفلت مرتكبوها من العقاب، هذه الممارسات تجعل البيئة الإعلامية أكثر هشاشة، ما يقوض دور الصحافة في تعزيز الشفافية والمساءلة.
عام حزين على حرية التعبير
ووصف الأكاديمي وخبير حقوق الإنسان، الدكتور محمود الحنفي عام 2024 بـ"الحزين" على حرية التعبير والإعلام، قائلا: كان عامًا حزينًا لحرية التعبير والصحفيين حول العالم، وفقًا للإطار النظري المادي لحقوق الإنسان، والذي يعتمد على المبادئ العالمية الأساسية، فإن احترام حرية الرأي والتعبير ضرورة أساسية، ومع ذلك، لا تزال هذه المبادئ النظرية بحاجة إلى آليات عملية لتطبيقها على أرض الواقع.
وأضاف “الحنفي”، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن حرية التعبير، خاصة في المناطق الساخنة مثل غزة ولبنان، تعرضت لانتهاكات جسيمة حيث استهدف مئات الصحفيين بشكل مباشر خلال عملهم في غزة، وقُتل صحفيون عمداً عبر قصف دقيق بالطائرات المسيرة أو الطائرات الحربية، وهو ما يؤكد وجود نية جنائية وراء هذه الجرائم، في لبنان، شهدنا استهدافاً مماثلاً، حيث قُصفت مواقع الصحفيين بشكل منهجي، ما يعكس محاولة واضحة لإسكات أصواتهم.
واسترسل الخبير الحقوقي، الردود الدولية كانت مقتصرة على الإدانة، دون اتخاذ إجراءات فعالة، التحقيقات الدولية بشأن هذه الجرائم ظلت مجرد أمنيات أو مطالبات عامة من منظمات حقوق الإنسان، الوضع في غزة تحديدًا أصبح مقلقًا للغاية، حيث بات ارتداء زي الصحافة يشكل خطراً على الحياة،ـ أصبح الصحفيون هناك وكأنهم أهداف واضحة، ما حول مهنة الصحافة إلى مصدر رعب بدلاً من وسيلة لإظهار الحقيقة.
وأضاف: “على صعيد حرية التعبير عامة فالانتهاكات لم تقتصر على القتل، بل شملت استغلال التكنولوجيا لتضييق الخناق على الإعلام، أصبح التعبير عن الرأي محفوفًا بالمخاطر، حيث تعرض الأفراد للاعتقال التعسفي لمجرد التعبير عن آرائهم”.
وأتم، ما يحدث يعكس رعبًا واضحًا من نشر الحقيقة ومن الصحافة المستقلة، هذا الوضع يهدد بشكل مباشر مؤشرات حقوق الإنسان المرتبطة بالتنمية البشرية والسياسية والعلمية، إذا لم يتم اتخاذ خطوات جادة، مثل اتفاقيات دولية جديدة وإجراءات قوية من مجلس الأمن ومحكمة الجنايات الدولية، فإننا مقبلون على مزيد من القمع والضبابية وضرب حرية التعبير. المطلوب الآن تحرك دولي عاجل لوضع حد لهذه الانتهاكات الممنهجة وضمان حماية الصحفيين كرسل للحقيقة.