«فايننشال تايمز»: رعاية الأطفال عقبة بوجه الأمهات العاملات في ألمانيا
«فايننشال تايمز»: رعاية الأطفال عقبة بوجه الأمهات العاملات في ألمانيا
شهدت ألمانيا، صاحبة أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، أزمة متفاقمة في قطاع رعاية الأطفال، المعروفة محليًا باسم "كيتاز" (kitas)، وهي دور الحضانة المُخصصة للأطفال دون سن السادسة.
وذكرت صحيفة "فايننشال تايمز"، في تقرير لها، اليوم الثلاثاء، أن النقص الحاد في عدد العاملين المُؤهلين في هذا المجال أثّر على حياة الآباء العاملين، وخاصةً الأمهات، وأضرّ بإنتاجية البلاد، ويُهدد مستقبل جيل كامل من الأطفال.
وتسبّب هذا الوضع في اكتظاظ مراكز الرعاية النهارية، والإغلاقات الطارئة المُتكررة، ونقص حاد في الأماكن المُتاحة، ما خلّف عواقب وخيمة على الأُسر والشركات وسوق العمل بشكل عام.
نقص في الكوادر المُؤهلة
أوضح الخبراء أن الوضع الحالي لم يسبق له مثيل من حيث خطورته، واصفين تعاملهم اليومي مع مُتخصصي رعاية الأطفال، والآباء المُرهقين، والأطفال المُنهكين نتيجةً للاكتظاظ في الفصول.
وكشفت الأرقام أن الآباء في ألمانيا يتحملون بعضًا من أقل تكاليف رعاية الأطفال مُقارنة بالدول المُتقدمة الأخرى، مع وجود تفاوتات إقليمية كبيرة، حيث تتراوح الرسوم الشهرية من صفر إلى نحو 1200 يورو، لكن هذا الفرق في التكاليف يخفي وراءه مشكلات عميقة تتعلق بموثوقية وجودة الرعاية المُقدمة.
جهود الحكومة ونتائج مرجوة
سنّت حكومة أولاف شولتز الائتلافية تشريعات جديدة وخصصت تمويلًا إضافيًا لقطاع "كيتاز"، لكن هذه الإجراءات لم تُحقق الآمال المعقودة عليها من قبل الخبراء.
وأصبحت قضية رعاية الأطفال جزءًا من الحملات الانتخابية للانتخابات البرلمانية القادمة، حيث وعدت الأحزاب الرئيسية باتخاذ خطوات جادة لمعالجة هذه الأزمة.
وكشفت الإحصائيات عن زيادة كبيرة في الإنفاق الحكومي على الرعاية النهارية خلال الخمسة عشر عامًا الماضية، حيث بلغ صافي إنفاق القطاع العام الألماني نحو 46 مليار يورو في عام 2023 لتوسيع عدد الأماكن المُتاحة.
ويُشكل هذا الرقم نحو 1.2% من الناتج المحلي الإجمالي، مُقارنة بـ0.7% في عام 2009، وفقًا لستيفان سيل، أستاذ الاقتصاد والسياسة الاجتماعية في جامعة كوبلنز للعلوم التطبيقية.
تزايد الطلب
أظهرت البيانات أنه على الرغم من انخفاض مُعدل الخصوبة في ألمانيا، فإن الطلب على أماكن رعاية الأطفال في ازدياد مُستمر، وذلك بسبب عودة المزيد من الأمهات إلى سوق العمل بعد الإنجاب.
وأكد الخبراء أن الزيادة في عدد أماكن رعاية الأطفال والنفقات المُخصصة لها لا تكفي لتلبية الطلب المُتزايد، لافتين إلى الحاجة المُلحة للمزيد من العاملين في هذا القطاع، لكن العثور عليهم أصبح صعبًا إن لم يكن مُستحيلًا.
وأفاد تقرير صدر في يونيو عن جمعية Paritätische Gesamtverband ، وهي مظلة لمنظمات الصحة والعمل الاجتماعي، بوجود نحو 900 ألف مُتخصص مُدرّب في رعاية الأطفال يعملون في هذا القطاع، لكن هناك نحو 125 ألف وظيفة شاغرة.
وكشف مثال من ولاية شمال الراين وستفاليا عن الإجراءات المُتخذة لمواجهة الأزمة، حيث اقترحت الحكومة السماح لمُربي واحد مُدرّب برعاية ما يصل إلى 60 طفلًا، بشرط وجود دعم من مُتخصصين آخرين مثل الموسيقيين والبُستانيين والحرفيين، أسهم نقص الموظفين في نقص نحو 300 ألف مكان في دور الحضانة على مُستوى البلاد، غالبيتها في غرب ألمانيا، وهو ما انعكس أيضًا على قطاعي رعاية المُسنين والرعاية الصحية.
ضغوط العمل
تسببت هذه المُشكلة في ضغط كبير على العاملين الحاليين، الذين وصفهم النقابيون بأنهم مُثقلون بالأعباء ويُعانون من الإجهاد.
أوضحت البيانات أن المُشكلة لا تتعلق بالأجور بشكل أساسي، حيث يبلغ متوسط الأجر قبل الضريبة للعاملين المُدرّبين تدريبًا عاليًا في هذا القطاع 3750 يورو شهريًا، وهو أقل من متوسط الراتب في ألمانيا ولكنه أعلى بكثير من الحد الأدنى للأجور.
صرحت كاتيا روس، مُعلمة رعاية نهارية من مدينة روستوك، أمام البرلمان في أكتوبر بأن العديد من العاملين المُدرّبين يتركون المهنة بسبب "الظروف الكارثية"، حيث يُعاني العاملون في رعاية الأطفال من أحد أعلى مُعدلات الغياب بسبب المرض في ألمانيا، بمتوسط 30 يومًا إجازة مرضية سنويًا، مُقارنة بالمتوسط الوطني البالغ 20 يومًا.
تأثير الأزمة على الأُسر
أدى ذلك إلى إعلان دور الحضانة بانتظام عن تقصير ساعات العمل أو حتى الإغلاق المُفاجئ، ما وضع الأطفال والآباء وأصحاب العمل في مأزق حقيقي. وصفت ميريام هوك، وهي أم عاملة لطفلة تبلغ من العمر 18 شهرًا وتعيش في أوغسبورغ، روتينها اليومي قائلة: "أول ما أفعله كل صباح هو فحص هاتفي لمعرفة ما إذا كانت هناك رسالة من تطبيق دار الحضانة".
وأضافت: "نتلقى رسائل حوالي مرتين في الشهر يطلبون منا فيها اصطحاب الطفلة مُبكرًا أو إبقاءها في المنزل"، وأكدت هوك، التي تعمل مديرة مشاريع في مجال تكنولوجيا المعلومات وعضوة في مجلس إدارة جمعية الأمهات العاملات في ألمانيا، أن هذا الوضع يُسبب ضغطًا كبيرًا على عملها وعلاقتها بشريكها.
التأثير على النساء
أظهرت الإحصائيات أن هذه الظاهرة تُؤثر بشكل غير مُتناسب على النساء، حيث تمتلك ألمانيا أحد أعلى مُعدلات مُشاركة الإناث في القوى العاملة في أوروبا، بنسبة تُقارب 76%، لكن هذا الرقم يُخفي مُعدلًا مرتفعًا للعمل بدوام جزئي للأمهات، خاصةً اللاتي لديهن أطفال صغار.
وفي عام 2023، عملت 27% فقط من الأمهات اللاتي لديهن أطفال دون سن السادسة بدوام كامل، مُقارنة بـ91% من الآباء.
وأوضح جوناس فلوختمان، خبير سوق العمل في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن مُستوى العمل بدوام جزئي بين الأمهات في ألمانيا "مرتفع للغاية" مُقارنة بالدول الأخرى، وأشار إلى أن له آثارًا مُتتالية على دخل النساء الحالي والمُستقبلي ومعاشاتهن التقاعدية.
مبادرات الشركات لسد الفجوة
كشف تحليل للوضع أن بعض الأمهات يخترن العمل بدوام جزئي، لكن الاستطلاعات تُشير إلى أن الكثيرات يرغبن في العمل لساعات أطول، دفع هذا الاقتصاديين إلى المُطالبة بتحسين خدمات رعاية الأطفال كوسيلة لتعزيز الإنتاجية الوطنية.
ودفع هذا الوضع بعض الشركات الخاصة إلى إيجاد حلول لسد الفجوة التي خلّفها نقص الدعم الحكومي، على سبيل المثال، ترعى شركة الطاقة Eon 65 مكانًا في دار حضانة في مدينتها الأم إيسن بتكلفة سنوية تُقارب 4000 يورو للمكان الواحد، وتُساعد هذه الأموال في دفع رواتب موظفين إضافيين لتحسين نسب الموظفين إلى الأطفال، ما يجعل المرافق أكثر موثوقية.
وفي شركة HelloFresh لتوصيل الوجبات في برلين، أنشأ المسؤولون التنفيذيون خدمة رعاية أطفال داخلية، حيث يُمكن للآباء حجز فترات لرعاية أطفالهم من قبل مُربية الشركة، وهي إحدى المُبادرات العديدة التي اتخذتها الشركة لجذب الموظفين والاحتفاظ بهم.
تأثير الأزمة على الأطفال
أعربت راحيل دراير، الخبيرة في مجال الطفولة المبكرة، عن قلقها البالغ بشأن تأثير هذه الأزمة على الأطفال، خاصةً أولئك القادمين من خلفيات اجتماعية واقتصادية صعبة.
وأشارت دراير إلى دراسات تُظهر أن جودة التعليم والرعاية في السنوات الأولى من حياة الطفل تُحدث فرقًا كبيرًا في مساره المستقبلي، وأكدت أن إخفاقات نظام "كيتاز" الحالي له تداعيات خطيرة على الأطفال، والآباء، والعاملين في هذا القطاع، والمجتمع ككل.
وأوضح يوهانس ويلبرج، نائب الرئيس الأول لشؤون الموظفين في شركة "هالو فريش"، أن مُعظم المؤسسات الكبيرة في برلين تتخذ إجراءات مُشابهة لمساعدة موظفيها، لكن تبقى الحقيقة أن مُعظم العائلات لا تتمتع برفاهية هذا الدعم المؤسسي، ما يُزيد من صعوبة الوضع بالنسبة لها.
عواقب على الأطفال والآباء
خلصت دراير إلى أن إخفاقات نظام "كيتاز" الحالي لها "عواقب على الأطفال، والآباء، والعاملين في هذا القطاع، وفي النهاية على المُجتمع ككل"، وحذّرت قائلة: "إذا لم نضمن حصول كل طفل على فرصة مُناسبة في المُجتمع، فسوف يُعاني الازدهار والتماسك الاجتماعي".
يُظهر هذا الوضع أن أزمة رعاية الأطفال في ألمانيا تتجاوز مُجرد نقص في الأماكن المُتاحة في دور الحضانة، بل هي مُشكلة مُعقدة ذات تداعيات اقتصادية واجتماعية ونفسية كبيرة، وتتطلب حلولًا شاملة وجذرية.