السيادة الوطنية في مواجهة الابتزاز السياسي.. هل تنجح جنوب إفريقيا في كسر الضغوط؟
السيادة الوطنية في مواجهة الابتزاز السياسي.. هل تنجح جنوب إفريقيا في كسر الضغوط؟
في خطوة أثارت جدلًا واسعًا داخل وخارج الولايات المتحدة، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبر منصته "تروث سوشيال" أنه قرر قطع أي تمويل مستقبلي لجنوب إفريقيا بسبب ما وصفه بـ"مصادرة الأراضي" و"معاملة فئات معينة بشكل سيئ جدًا".
وأكد ترامب أن هذا القرار سيظل ساريًا حتى يتم إجراء تحقيق شامل في هذه الادعاءات، وهو ما اعتبرته حكومة جنوب إفريقيا تدخلاً غير مبرر في شؤونها الداخلية.
تعد قضية ملكية الأراضي في جنوب إفريقيا من أكثر القضايا حساسية وإثارة للجدل، حيث تسعى الحكومة منذ سنوات إلى تصحيح التفاوتات التاريخية التي خلّفها نظام الفصل العنصري.
وتشير الإحصاءات إلى أن 72% من الأراضي الزراعية لا تزال مملوكة للبيض، على الرغم من أن السكان البيض يشكلون أقل من 9% من إجمالي السكان البالغ عددهم نحو 60 مليون نسمة.
وبالمقابل، يشكل السود نحو 80% من السكان، لكنهم يمتلكون حوالي 4% فقط من الأراضي الزراعية، وفقًا لبيانات أصدرتها وزارة الأراضي الجنوب إفريقية في عام 2023.
في يناير الماضي، وقع الرئيس الجنوب إفريقي سيريل رامافوزا قانونًا يسمح للحكومة بمصادرة الأراضي في ظروف محددة للمصلحة العامة دون تقديم تعويض.
قلق وانتقادات حادة
وأثار هذا القانون قلق المستثمرين وواجه انتقادات حادة من المعارضة ومنظمات حقوق الإنسان، التي ترى أن مثل هذه السياسات قد تضر بالاقتصاد وتخلق مناخًا من عدم الاستقرار، في المقابل تؤكد الحكومة أن الهدف الأساسي من القانون هو تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان إعادة توزيع الأراضي بطريقة أكثر إنصافًا.
ونفى الرئيس رامافوزا هذه الادعاءات، مؤكدًا أن حكومته لم تصادر أي أراضٍ بشكل تعسفي.
وقال في بيان رسمي: “جنوب إفريقيا دولة ديمقراطية دستورية متجذرة في سيادة القانون والعدالة والمساواة، لم تصادر حكومتنا أي أراضٍ، وما يتم الحديث عنه ليس سوى تحريف للحقائق”.
وأكد رامافوزا أن القانون الجديد لا يسمح بالمصادرة العشوائية، بل يعتمد على معايير قانونية واضحة تهدف إلى تحقيق التوازن بين الحقوق الدستورية للأفراد وضرورة معالجة الظلم التاريخي.
تدهور في العلاقات
وتأتي هذه الأزمة وسط تدهور في العلاقات بين الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا، خاصة بعد أن أظهرت حكومة رامافوزا موقفًا أكثر استقلالية في السياسة الخارجية، لا سيما في ما يتعلق بموقفها من الحرب في أوكرانيا وتعزيز علاقاتها مع الصين وروسيا.
وتشير التقارير إلى أن الولايات المتحدة قدمت لجنوب إفريقيا مساعدات بقيمة 440 مليون دولار في عام 2023، معظمها مخصص لبرامج مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، وهو ما يقلل من تأثير أي قرار بقطع التمويل، وفقًا لمصادر حكومية في بريتوريا.
وتخشى بعض الأوساط داخل جنوب إفريقيا من أن تؤدي هذه التصريحات إلى تفاقم التوترات العرقية داخل البلاد.
ووفقًا لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة "إيبسوس" في ديسمبر 2023، فإن 63% من السكان السود يؤيدون سياسات إصلاح الأراضي، بينما يعارضها 78% من السكان البيض.
ويعكس هذا التفاوت العميق في الرأي العام مدى تعقيد هذه القضية، حيث يرى البعض أن الإصلاح الزراعي ضرورة لتحقيق العدالة الاجتماعية، بينما يعتبره آخرون تهديدًا للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
ودعا الاتحاد الإفريقي إلى عدم تسييس القضية، مؤكدا أن “إصلاح الأراضي في جنوب إفريقيا هو شأن داخلي ينبغي أن يُحل وفق الأطر القانونية والدستورية للدولة”، كما أصدرت وزارة الخارجية الجنوب إفريقية بيانًا اعتبرت فيه أن تدخل ترامب في هذه المسألة "غير مبرر" و"يعكس نظرة استعمارية قديمة تجاه إفريقيا".
ويرى خبراء أن قضية مصادرة الأراضي في جنوب إفريقيا تظل واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في البلاد، حيث تتشابك فيها الأبعاد التاريخية والاقتصادية والسياسية وبينما تسعى الحكومة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال إعادة توزيع الأراضي، تظل التحديات الاقتصادية والاعتراضات الداخلية والخارجية عقبات رئيسية أمام تنفيذ هذه السياسات.
إشكالية حقوقية
قالت الناشطة والخبيرة الحقوقية فرح تاج الختم، إن اتهام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لجنوب إفريقيا بمصادرة الأراضي ومعاملة فئات معينة من الأشخاص بشكل سيئ جداً، متبوعاً بتهديده بقطع التمويل، يأتي كمحاولة لتأطير القضية ضمن خطاب حقوقي، لكن دون الارتكاز إلى فهم عميق للعدالة الانتقالية أو المبادئ الحقوقية الأساسية.
ووفقاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لكل فرد الحق في التملك، ولا يجوز حرمان أي شخص من ممتلكاته تعسفياً، لكن هذه القاعدة العامة تتداخل مع مبادئ أخرى مثل العدالة التصحيحية، التي تتيح للحكومات اتخاذ تدابير لتعويض الفئات التي تعرضت للظلم التاريخي في جنوب إفريقيا.
وتابعت تاج الختم، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن قطع التمويل كأداة ضغط سياسي يطرح إشكالية حقوقية من زاويتين الأولى تتعلق بمبدأ السيادة الوطنية، فالدول لها الحق في تبني سياسات داخلية تنسجم مع احتياجاتها دون تدخل خارجي مسيّس، والثانية ترتبط بتأثير العقوبات المالية على السكان الأكثر ضعفاً، حيث يُظهر التاريخ أن تعليق المساعدات لا يؤدي بالضرورة إلى تعديل السياسات الحكومية، لكنه غالباً ما يفاقم الظروف المعيشية للفئات المهمشة.
وعن القانون الذي أصدره رئيس جنوب إفريقيا، سيريل رامافوزا، قالت: لا يُجيز المصادرة التعسفية للأراضي، بل يضع إطاراً لإعادة توزيعها ضمن آليات قانونية محددة حتى في أكثر السيناريوهات تطرفاً، لا يمكن مقارنة الوضع في جنوب إفريقيا بما حدث في زيمبابوي مطلع الألفية، حينما تم انتزاع المزارع دون تخطيط اقتصادي، ما أدى إلى انهيار الإنتاج الزراعي، فالدستور الجنوب إفريقي نفسه يضع قيوداً على عمليات المصادرة، ويشترط أن يكون الهدف منها تحقيق الصالح العام.
وقالت تاج الختم، إن جوهر القضية لا يكمن فقط في السياسة الداخلية لجنوب إفريقيا، بل في ازدواجية الخطاب الحقوقي، ففي السياسة الدولية عندما يتم الحديث عن حقوق الملكية، تُغفل قضايا تاريخية مثل سرقة الأراضي الأصلية أثناء الاستعمار، وعندما تُطرح مسألة المساواة يتم تجاهل ضرورة اتخاذ إجراءات إيجابية لإصلاح الظلم التاريخي.
تداعيات قطع التمويل الأمريكي
وقال الخبير الاجتماعي الأكاديمي، فهمي قناوي، إن أي نقاش حول مسألة الأراضي في جنوب إفريقيا لا يمكن أن ينفصل عن السياق الاجتماعي الذي تشكلت فيه الهياكل الاقتصادية للبلاد، فالسياسات المتعلقة بإعادة توزيع الأراضي ليست مجرد قرارات حكومية عابرة، بل هي امتداد لصراعات اجتماعية تاريخية لا تزال تلقي بظلالها على النسيج المجتمعي، عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اتهاماته لجنوب إفريقيا بمصادرة الأراضي ومعاملة فئات معينة بشكل سيئ، وأتبعها بتهديد بقطع التمويل، فإنه لم يكن فقط يعيد إنتاج خطاب سياسي متحيز، بل كان أيضاً يعزز حالة الاستقطاب الاجتماعي.
وتابع قناوي، في تصريحات لـ"جسور بوست": المجتمع الجنوب إفريقي اليوم يقف على خطوط انقسام حادة بين الأغلبية السوداء التي لا تزال تعاني من التهميش الاقتصادي، والأقلية البيضاء التي تمتلك معظم الموارد الزراعية، وبين هاتين الفئتين تتداخل طبقات اجتماعية واقتصادية جديدة نشأت بعد سقوط نظام الأبارتهايد، لكنها لم تغير جذرياً في توزيع الثروة.. لهذا فإن أي تدخل خارجي يُسقط الأبعاد الاجتماعية للنقاش سيؤدي إلى تعميق الفجوة بين المجموعات المتنافسة على الموارد، وإذا تم تنفيذ قرار قطع التمويل فإن التأثير الاجتماعي سيكون واسع النطاق، لأن جنوب إفريقيا تعتمد جزئياً على المساعدات الأمريكية في مجالات الصحة والتعليم والتنمية المجتمعية.
وأوضح أن القرار قد يُستخدم كأداة سياسية من قبل بعض القوى الداخلية لتأجيج مشاعر الغضب بين الفئات المختلفة، مما يزيد من احتمال اندلاع اضطرابات اجتماعية، حيث إن الإحباط المتراكم بسبب الفقر والبطالة يمكن أن يتحول بسهولة إلى مواجهات بين الأعراق والمجموعات المختلفة، وقد يعزز هذا القرار مشاعر العداء تجاه الغرب داخل جنوب إفريقيا، فالتاريخ لا يزال حاضراً في الذاكرة الجمعية، وكثير من المواطنين يشعرون أن القوى الغربية لعبت دوراً في إدامة أنظمة الاستغلال الاقتصادي في إفريقيا.
وبالنسبة لفئة المزارعين البيض، قال، إنهم يمثلون شريحة اقتصادية مهمة، لكنهم أيضاً يشعرون بتهديد متزايد نتيجة السياسات الحكومية الأخيرة، وإذا تم تنفيذ سياسات الإصلاح الزراعي دون توازن اجتماعي، فقد يؤدي ذلك إلى نزوح جماعي لهذه الفئة، وهو ما قد يسبب انخفاضاً في الإنتاج الزراعي، وزيادة الضغوط الاقتصادية على الطبقات العاملة التي تعتمد على قطاع الزراعة في تأمين فرص عمل، لكن في المقابل، فإن التمسك ببنية الملكية الحالية دون تغيير سيبقي على حالة التفاوت الاجتماعي، مما يغذي مشاعر الظلم ويمنع أي تقدم في تحقيق العدالة الاجتماعية الحقيقية.
وأشار قناوي، إلى أن النتيجة المحتملة لأي تصعيد في هذه القضية ستكون خلق هوة أوسع بين المجموعات العرقية والاجتماعية، وسيؤدي ذلك إلى زيادة العزلة بين المجتمعات، حيث إن الفئات المهمشة ستشعر بأن أي محاولة لإصلاح أوضاعها يتم عرقلتها خارجياً، بينما الفئات التي تملك الموارد ستشعر بأن أمنها الاجتماعي والاقتصادي مهدد، هذه البيئة المشحونة قد تؤدي إلى صراعات متكررة على الأرض، وزيادة الاحتجاجات، وربما انتشار العنف الاجتماعي في ظل التنافس على الموارد.
وأتم: الطريقة المثلى لمعالجة هذه الأزمة يجب ألّا تكون عبر إجراءات عقابية تزيد من معاناة المجتمع، بل من خلال حلول تدعم التنمية الشاملة، وتعزز فرص الاندماج الاقتصادي لجميع الفئات، دون إقصاء أو تمييز.