خصوصية مهددة ومشاعر مستهلكة.. هل فقد عيد الحب معناه في ظل الثورة الرقمية؟
خصوصية مهددة ومشاعر مستهلكة.. هل فقد عيد الحب معناه في ظل الثورة الرقمية؟
عندما تصبح المشاعر سلعة وتنتهك الخصوصية.. كيف أثرت الثورة الرقمية على الاحتفال بعيد الحب؟يحتفل العالم في الرابع عشر من فبراير كل عام بعيد الحب، حيث تتجلى مشاعر المودة والرومانسية بين الأفراد في هذا اليوم، ويتبادل الناس الهدايا والورود والبطاقات للتعبير عن حبهم وتقديرهم لبعضهم البعض، ومع تطور العصر الرقمي، أصبحت هذه المناسبة تأخذ أبعادًا جديدة، حيث يتداخل التعبير عن المشاعر مع قضايا حقوق الإنسان في ظل الثورة الرقمية.
وتشير الإحصائيات إلى أن عيد الحب يشهد إنفاقًا كبيرًا على مستوى العالم، ففي الولايات المتحدة الأمريكية، يُتوقع أن يصل حجم الإنفاق في هذا اليوم إلى أكثر من 25 مليار دولار، مع متوسط إنفاق للفرد يبلغ حوالي 175.41 دولار، وهذا الرقم يعكس زيادة ملحوظة مقارنة بالسنوات السابقة، حيث كان متوسط الإنفاق في عام 2021 حوالي 164.76 دولار.
ولا يقتصر هذا الإنفاق الكبير على الولايات المتحدة فحسب، بل يمتد إلى دول أخرى، ففي هونغ كونغ، يصل متوسط إنفاق الفرد في عيد الحب إلى 102 يورو، تليها بريطانيا بمتوسط 96 يورو، ثم أيرلندا والولايات المتحدة وإيطاليا. في المقابل، تأتي نيجيريا في المرتبة الأخيرة بمتوسط إنفاق يبلغ 25 يورو للفرد.
مع هذا التزايد في الإنفاق، يبرز التساؤل حول تأثير الثورة الرقمية على كيفية الاحتفال بعيد الحب، فالتكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تلعب دورًا محوريًا في تشكيل وتوجيه مشاعر الأفراد، فمن خلال هذه المنصات، يتم تبادل الرسائل والصور والفيديوهات التي تعبر عن الحب والمودة، مما يضيف بُعدًا جديدًا للتواصل الإنساني.
تحديات تتعلق بحقوق الإنسان
يحمل التطور الرقمي في طياته تحديات تتعلق بحقوق الإنسان، فالثورة الرقمية، رغم فوائدها العديدة، تطرح قضايا جوهرية تتعلق بالخصوصية وحرية التعبير، فمن جهة، توفر التكنولوجيا منصات للتعبير والتواصل، ومن جهة أخرى، قد تُستخدم كأدوات للمراقبة وانتهاك الخصوصية، وقد أكدت الأمم المتحدة أن الحقوق التي يتمتع بها الأفراد في العالم الواقعي يجب أن تكون محمية بنفس القدر في العالم الافتراضي.
في سياق عيد الحب، يمكن أن تؤثر هذه التحديات على كيفية تعبير الأفراد عن مشاعرهم، فمثلاً، قد يشعر البعض بالضغط الاجتماعي لنشر مظاهر الاحتفال على وسائل التواصل الاجتماعي، مما قد يؤدي إلى مقارنة غير صحية بين الأفراد والشعور بالنقص أو عدم الرضا، بالإضافة إلى ذلك، قد تُستغل البيانات الشخصية التي يتم مشاركتها خلال هذه المناسبة لأغراض تجارية أو حتى خبيثة، مما يثير مخاوف بشأن الخصوصية والأمان الرقمي.
من ناحية أخرى، يمكن أن تسهم الثورة الرقمية في تعزيز حقوق الإنسان من خلال توفير منصات للتوعية والتثقيف حول قضايا الحب والعلاقات الصحية، فمن خلال المحتوى الرقمي، يمكن نشر رسائل تدعو إلى الاحترام المتبادل والتفاهم بين الشركاء، والتأكيد على أهمية الموافقة والحدود الشخصية في العلاقات.
ويمكن استخدام التكنولوجيا لدعم المبادرات التي تهدف إلى مكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي وتعزيز المساواة بين الجنسين، فمن خلال التطبيقات والمنصات الرقمية، يمكن تقديم الدعم والمشورة للأفراد الذين يواجهون تحديات في علاقاتهم، وتوفير موارد تعليمية حول كيفية بناء علاقات صحية ومستدامة.
ويرى خبراء أهمية التوعية والتثقيف حول كيفية استخدام التكنولوجيا بشكل مسؤول وآمن، ويجب على الأفراد أن يكونوا مدركين للمخاطر المحتملة وأن يتخذوا التدابير اللازمة لحماية خصوصيتهم وبياناتهم الشخصية كما يجب تعزيز الوعي حول أهمية الاحترام المتبادل والحدود الشخصية في العلاقات الرقمية، أيضًا على الشركات والمنصات الرقمية أن تتحمل مسؤوليتها في حماية حقوق المستخدمين.
عندما تصبح المشاعر سلعة
قالت الحقوقية والخبيرة الاجتماعية، آية حسين، إن عيد الحب يفترض أن يكون مناسبة للاحتفاء بالمودة والمشاعر الإنسانية، لكنه يكشف في عصر الثورة الرقمية عن تناقضات جوهرية بين العاطفة وحقوق الإنسان، ففي حين يمثل الحب أسمى المشاعر الإنسانية، فإن الطريقة التي يتم التعبير بها عنه اليوم أصبحت محكومة بقواعد غير مكتوبة تفرضها التكنولوجيا، وتخلق واقعًا قد يتعارض مع بعض المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، مثل الحق في الخصوصية، وحرية التعبير، وعدم التمييز، والحق في بيئة خالية من العنف والابتزاز العاطفي.
وتابعت آية حسين، في تصريحات لـ"جسور بوست"، الثورة الرقمية لم تكن محايدة في تأثيرها على العلاقات العاطفية، بل عززت أنماطًا جديدة من الهيمنة والسيطرة، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي. في ظل انتشار تطبيقات المواعدة والتواصل الفوري، أصبح مفهوم العلاقات العاطفية معرضًا لإعادة تشكيل قسرية، تحكمه لوغاريتمات تحدد من يمكن أن يكون شريكك المحتمل بناءً على بياناتك الرقمية، وليس على إرادتك الكاملة الحرة، هذه الآلية تثير تساؤلات حول الحق في الاختيار، فالحرية في تكوين العلاقات ينبغي ألا تكون مشروطة بمحددات تفرضها شركات تكنولوجية تسعى إلى تعظيم أرباحها عبر استغلال بيانات المستخدمين وتحليلها بطرق غير شفافة.
وقالت، إن الحق في الخصوصية بات مهددًا بصورة غير مسبوقة. عيد الحب، الذي من المفترض أن يكون تجربة شخصية حميمية، أصبح مناسبة لعرض المشاعر علنًا تحت ضغط اجتماعي غير مباشر، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي مسرحًا لاستعراض العلاقات، هذا الاستعراض الرقمي يولّد ضغوطًا نفسية واجتماعية، ويؤدي إلى خلق توقعات غير واقعية حول الحب والمشاعر، وهو ما يتعارض مع حق الإنسان في حياة خاصة خالية من التدخل غير المبرر، وفقًا للمادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، "لا يجوز تعريض أحد لتدخل تعسفي في خصوصيته أو شؤون أسرته أو مراسلاته"، لكن في عصر البيانات الضخمة، أصبح هذا الحق مهددًا.
وأضافت أن العلاقات العاطفية في العصر الرقمي أصبحت أكثر عرضة للتلاعب العاطفي والابتزاز، فحالات الاحتيال العاطفي عبر الإنترنت تتزايد بمعدلات مقلقة، حيث تشير تقارير إلى أن جرائم الاحتيال العاطفي في عام 2023 وحده تسببت في خسائر مالية تجاوزت 1.3 مليار دولار على مستوى العالم، ووفقًا للجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية هذه الظاهرة تكشف كيف أن العاطفة، التي يُفترض أنها جوهر العلاقات الإنسانية، باتت أداة للاستغلال والتربح، وهو ما يتناقض مع الحق في الأمان الشخصي والحق في عدم التعرض للاستغلال، وهما من المبادئ الأساسية التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية.
وفي ما يتعلق بمسألة عدم التمييز، أوضحت، أن الوسائل الرقمية عززت من التفاوتات العاطفية بطرق غير مباشرة، ففي العديد من البلدان، لا تزال بعض الفئات، مثل الأقليات العرقية والجنسية، تواجه عقبات في ممارسة حقها في الحب بحرية بسبب الرقابة الرقمية والتضييق القانوني المدعوم بتكنولوجيا التعرف على الهوية، هذا الوضع يتناقض مع المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تنص على أن “لكل إنسان الحق في التمتع بجميع الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز”.
وقالت إنه في ضوء كل ذلك، يصبح من الضروري إعادة التفكير في كيفية الحفاظ على جوهر المشاعر الإنسانية في ظل التكنولوجيا المتسارعة، بما يضمن احترام حقوق الإنسان.
عندما تتحول المشاعر إلى أرقام
وقالت الخبيرة الاجتماعية الإماراتية عائشة العناني، إن عيد الحب، الذي كان يومًا مناسبة رومانسية تنبض بالمشاعر الصادقة، بات اليوم يعيش تحولات عميقة بفعل الرقمنة، حيث أصبح جزءًا من اقتصاد المشاعر الذي تديره الخوارزميات ووسائل التواصل الاجتماعي. في عالم يزداد ترابطه رقميًا، لم يعد الاحتفال بعيد الحب مجرد تعبير عن العاطفة، بل تحول إلى ظاهرة اجتماعية معقدة تتداخل فيها القيم التقليدية مع متطلبات العصر الرقمي، الأمر الذي أدى إلى تأثيرات نفسية واجتماعية ملموسة على الأفراد والعلاقات الإنسانية.
وتابعت العناني، في تصريحات لـ"جسور بوست"، في ظل سيطرة الرقمنة، لم يعد التعبير عن الحب عفويًا كما كان، بل أصبح محكومًا بمعايير جديدة تفرضها المنصات الرقمية، حيث تُحدد قيمة المشاعر بعدد الإعجابات والتعليقات والمشاركات، ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي، التي صُممت لتقريب المسافات، دورًا مزدوجًا، إذ ساهمت في تعزيز بعض العلاقات لكنها في المقابل فرضت معايير غير واقعية للحب والمشاعر.
وأشارت إلى أن إحدى المخاطر الكبرى التي فرضتها الرقمنة على عيد الحب هي تسليع المشاعر، حيث أصبح الحب نفسه يُباع عبر الإعلانات الموجهة التي تستهدف المستخدمين بناءً على تفضيلاتهم وسلوكهم الرقمي، حيث تشير تقارير اقتصادية إلى أن الإنفاق العالمي على الهدايا والزهور والمناسبات المرتبطة بعيد الحب تجاوز الملايين، وهذه الأرقام تعكس تحوّل الحب إلى سلعة تجارية.
ومن الناحية النفسية، أكدت العناني أن الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا أدى إلى تفريغ الحب من محتواه الحقيقي لصالح تفاعلات سطحية قائمة على السرعة واللحظية، حيث تشير الدراسات الحديثة إلى أن الاستخدام المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي في العلاقات العاطفية يزيد من معدلات القلق والاكتئاب، حيث يشعر الأفراد بعدم الرضا نتيجة لمقارنة علاقتهم بصور مثالية تُعرض على الإنترنت.
واسترسلت، أن الرقمنة أضعفت الروابط الإنسانية الحقيقية، حيث أصبحت المشاعر تُعبَّر عنها الرموز التعبيرية والرسائل النصية بدلاً من اللقاءات الواقعية، وأفرزت التقنيات الحديثة نوعًا من العزلة العاطفية، حيث يُفضل الكثيرون التفاعل الافتراضي بدلاً من التواصل الحقيقي.
وأكدت أنه في ظل هذه التحولات، يحتاج الأفراد إلى إعادة النظر في كيفية تعاملهم مع عيد الحب في العصر الرقمي، فمن الضروري التحرر من ضغط التوقعات الاجتماعية الرقمية والتركيز على بناء علاقات صحية تستند إلى التفاهم الحقيقي بدلاً من البحث عن الكمال الزائف عبر الإنترنت، كما أن تعزيز ثقافة الوعي الرقمي يساعد في تقليل التأثيرات النفسية والاجتماعية السلبية لهذا النمط الاستهلاكي.
وأتمت، الاحتفال بالحب لا يجب أن يكون مقيدًا بإطار رقمي تحكمه الخوارزميات، بل ينبغي أن يعود إلى جوهره الحقيقي القائم على المشاعر الصادقة، بعيدًا عن الاستهلاك المفرط والتمثيل المثالي للعلاقات، فالحب الحقيقي لا يُقاس بعدد الإعجابات، بل باللحظات الصادقة التي تُبنى على الاحترام والاهتمام المتبادل.