الميثاق العربي لحقوق الإنسان.. مساعٍ لتحقيق رقابة حقوقية فاعلة
الميثاق العربي لحقوق الإنسان.. مساعٍ لتحقيق رقابة حقوقية فاعلة
تُعد لجنة الميثاق العربي لحقوق الإنسان إحدى الآليات الإقليمية التي أُنشئت لمراقبة وتعزيز حقوق الإنسان في الدول العربية، وفقًا للميثاق العربي لحقوق الإنسان الذي أقرته جامعة الدول العربية عام 2004 ودخل حيز التنفيذ في عام 2008.
تتألف اللجنة من 7 خبراء مستقلين، يتم انتخابهم لمدة 4 سنوات قابلة للتجديد وتتمثل مهمتهم في مراجعة التقارير الدورية التي تقدمها الحكومات وتقديم التوصيات لضمان الامتثال لمبادئ الميثاق، ورغم ذلك لا تزال هناك تساؤلات حول مدى استقلالية اللجنة وفاعليتها خاصة في ظل غياب آليات قانونية تُلزم الدول بتنفيذ توصياتها بشكل فعلي على أرض الواقع
يعتمد عمل اللجنة على التقارير التي تقدمها الحكومات والتي تتضمن تدابير ضمان احترام حقوق الإنسان، وفقًا للميثاق، إلا أن هذه التقارير غالبًا ما تقتصر على سرد الإنجازات الرسمية دون الإشارة إلى التحديات والانتهاكات التي تواجهها الدول.
وفي المقابل يمكن للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني تقديم تقارير موازية تُعرف بتقارير الظل التي تهدف إلى تقديم تقييم مستقل وموضوعي لحالة حقوق الإنسان في الدولة المعنية، ورغم أهمية هذه التقارير فإن تأثيرها يظل محدودًا في ظل القيود التي تواجهها بعض منظمات المجتمع المدني، وعدم إلزامية توصيات اللجنة للدول التي تخضع للتقييم.
استقلالية اللجنة
ورغم التأكيد الرسمي على استقلالية اللجنة، فإن هناك تحديات تجعل من الصعب عليها ممارسة دورها الرقابي بحرية كاملة، فغياب آلية الشكاوى الفردية على سبيل المثال يحول دون تمكين المواطنين من رفع قضايا انتهاكات حقوق الإنسان إلى اللجنة مباشرة، على عكس الآليات الدولية مثل لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة التي توفر للأفراد حق تقديم الشكاوى ضد حكوماتهم.
وتواجه اللجنة انتقادات بسبب غياب الصرامة في التعامل مع الانتهاكات الجسيمة، حيث يُنظر إليها في بعض الأحيان على أنها تتجنب توجيه انتقادات حادة لبعض الحكومات ما يجعلها أقرب إلى هيئة استشارية منها إلى آلية رقابية فعالة.
تشير التقارير الدولية إلى أن الوضع الحقوقي في العالم العربي، لا يزال يشهد تحديات كبيرة رغم التصديق الرسمي على الميثاق العربي لحقوق الإنسان، ففي سوريا رغم الإصلاحات الاجتماعية التي أُعلنت عنها، لا يزال أكثر من 130 ألف شخص في عداد المفقودين بسبب الاعتقالات القسرية، منذ بدء النزاع، بينما في الجزائر تعرض نشطاء حقوق الإنسان للملاحقات القضائية بسبب انتقادهم سياسات الدولة.
ورغم أن بعض الحكومات تبنت إصلاحات قانونية لتعزيز حقوق الإنسان فإن الفجوة بين التشريعات والتطبيق الفعلي ما زالت قائمة وهو ما يضع مسؤولية أكبر على اللجنة لمساءلة الحكومات بشأن تنفيذ التزاماتها.
وتمثل لجنة الميثاق العربي لحقوق الإنسان، خطوة مهمة في مجال تعزيز حقوق الإنسان في المنطقة العربية، لكنها تواجه تحديات جوهرية تحدّ من تأثيرها، ورغم أنها توفر منصة لمراجعة التزامات الدول فإن غياب آليات الإنفاذ الفعالة يجعلها في كثير من الأحيان تفتقر إلى النفوذ الحقيقي لتحقيق العدالة والمساءلة.
رقابة حقوقية
قالت الناشطة الحقوقية التونسية، مريم حمودة، إن الحديث عن لجنة الميثاق العربي لحقوق الإنسان باعتبارها مؤسسة رقابية مستقلة وغير مسيسة يثير تساؤلات جوهرية حول مدى قدرتها الفعلية على ضمان حماية حقوق الإنسان في المنطقة العربية دون التأثر بالضغوط السياسية والإملاءات الحكومية، فالمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، كما أرستها المواثيق الدولية، تقوم على الشمولية وعدم التجزئة، حيث لا يمكن القبول بمراقبة شكلية أو انتقائية تنظر إلى الحقوق باعتبارها امتيازات تخضع لرغبة الدول بدلاً من كونها التزامات قانونية وأخلاقية يجب الوفاء بها.
وتابعت حمودة، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن مبدأ المساءلة يشكل حجر الزاوية في أي نظام حقوقي فعال، حيث لا يمكن حماية الحقوق دون وجود آلية حقيقية تضمن محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، غير أن لجنة الميثاق، رغم كونها آلية إقليمية، تفتقر إلى سلطة فرض إجراءات تصحيحية أو إحالة الانتهاكات الجسيمة إلى جهات مختصة، وهو ما يتناقض مع المبدأ القانوني القاضي بعدم الإفلات من العقاب.
وقالت إن حياد اللجنة يفترض أن يكون مرتبطًا بمعايير موضوعية لا تخضع للاعتبارات السياسية، لكن الواقع يثبت أن تعاملها مع الدول الأعضاء لا يتم وفق درجة متساوية من التدقيق، على سبيل المثال هناك تفاوت واضح في التعامل مع انتهاكات جسيمة ترتكبها بعض الدول التي تحظى بنفوذ إقليمي وسياسي، مقابل تشديد أكبر على دول أخرى تُعتبر أقل تأثيرًا في المشهد السياسي العربي، وهذا التفاوت يتناقض مع مبدأ عدم التمييز، وهو أحد المبادئ الراسخة في القانون الدولي لحقوق الإنسان.
واستطردت، إذا كانت اللجنة تدعي عدم تزيين الواقع أو تجميل الحقائق، فإن من واجبها نشر تقارير دقيقة وشفافة تعكس الصورة الحقيقية لحالة الحقوق في الدول الأعضاء، بدلًا من الاكتفاء بالتعامل مع التقارير الحكومية كمرجع أساسي دون إتاحة مساحة كافية للأصوات المستقلة.
وأشارت إلى أن إحدى الإشكاليات الكبرى في عمل اللجنة تكمن في غياب آلية للشكاوى الفردية، مما يحرم الضحايا من فرصة تقديم تظلماتهم مباشرة كما هو الحال في المنظومة الأممية، هذا القصور يتناقض مع الحق في الانتصاف، وهو حق أساسي نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، كما أن غياب هذه الآلية يجعل اللجنة أداة غير مكتملة، حيث لا يمكن اعتبارها جهة رقابية فعالة ما دامت غير قادرة على منح الأفراد وسيلة مباشرة لحماية حقوقهم في حال تعرضهم لانتهاكات.
وأكدت حمودة، أنه في ظل هذه التحديات، يصبح من الضروري إعادة النظر في صلاحيات اللجنة وآليات عملها، بحيث يتم تعزيز استقلاليتها ليس فقط من الناحية الشكلية، ولكن على مستوى الممارسة والتأثير الفعلي. من دون إصلاحات جذرية، فإن اللجنة ستظل مجرد واجهة شكلية تُستخدم لتعزيز صورة الدول بدلًا من أن تكون أداة حقيقية لحماية الحقوق وتعزيز العدالة.
التأثير في الشعوب والمجتمعات
وفي السياق الاجتماعي، قالت خبيرة علم الاجتماع الإماراتية، عائشة العناني، إن لجنة الميثاق العربي لحقوق الإنسان، تُشكل إحدى الأدوات التي يُفترض أن تعكس مدى التزام الدول العربية بحقوق مواطنيها، لكن تأثير هذه اللجنة على المجتمعات يظل محدودًا إذا لم يكن مدعومًا بآليات تضمن التغيير الفعلي، فالمجتمعات العربية، التي تعيش في ظل أنظمة حكم متفاوتة من حيث احترامها للحقوق والحريات، تحتاج إلى مراقبة حقيقية تعكس واقعها دون تجميل.
وتابعت العناني، في تصريحات لـ"جسور بوست"، الجانب الأول الذي يتأثر بعمل اللجنة هو وعي الشعوب بحقوقها، فعندما تُصدر اللجنة تقارير متوازنة، غير منحازة، وتتناول الانتهاكات بوضوح، فإنها تسهم في تعزيز إدراك المجتمعات العربية لمفاهيم الحقوق والواجبات، لكن إن كانت اللجنة تفتقر إلى الحياد الحقيقي، أو كانت تقاريرها تحمل طابعًا دبلوماسيًا أكثر من كونها أداة مساءلة، فإن هذا الوعي يظل ناقصًا، وقد يؤدي إلى ترسيخ القبول المجتمعي للانتهاكات وكأنها جزء من الواقع الذي لا يمكن تغييره.
واسترسلت، النقطة الثانية تتعلق بالعلاقة بين اللجنة والمجتمع المدني في الدول التي تتمتع بمساحة أكبر من الحرية، حيث تلعب منظمات المجتمع المدني دورًا رئيسيًا في رصد وتوثيق الانتهاكات، وتقديم تقارير موازية للجنة، مما يخلق توازنًا بين الرواية الرسمية والسرديات البديلة المستمدة من الواقع، لكن في العديد من الدول العربية، تواجه هذه المنظمات تضييقًا شديدًا، يصل إلى حد التجريم، ما يجعل اللجنة تعتمد بشكل أساسي على التقارير الحكومية، وهذه الديناميكية تُضعف دور المجتمع المدني، وتحرم المجتمعات من آلية دفاع قوية عن حقوقها، ما يرسّخ ثقافة الصمت والخوف، ويدفع الكثيرين إلى تبني مواقف سلبية تجاه أي جهود حقوقية يُنظر إليها على أنها شكلية أو غير مؤثرة.
وعن الجانب الاجتماعي، قالت العناني: تُسهم محدودية فاعلية اللجنة في تكريس الشعور باليأس بين الفئات الأكثر ضعفًا، مثل النساء، والأقليات، والعمال المهاجرين، والناشطين السياسيين، الذين يعوّلون على وجود آلية إقليمية يمكن أن تُحدث فرقًا في أوضاعهم، فعندما تُصدر اللجنة توصياتها دون أن تجد أي آليات لتنفيذها، تصبح التوصيات مجرد بيانات رمزية لا تُغيّر الواقع.
وأشارت إلى أن العامل النفسي والاجتماعي الآخر يتمثل في انعكاسات ضعف المساءلة على الحياة اليومية للناس، ففي المجتمعات التي تعاني من انتهاكات مستمرة دون محاسبة فعلية، يترسخ الشعور بأن العدالة انتقائية، وأن القانون لا يعمل لحماية الجميع، بل يخدم مصالح معينة، هذا الشعور يؤدي إلى تفشي الإحباط، وانتشار الانقسامات الاجتماعية.
وشددت العناني، على أنه رغم هذه التحديات، لا يمكن إنكار أن مجرد وجود لجنة إقليمية لحقوق الإنسان يظل خطوة نحو بناء منظومة عربية لمراقبة الحقوق، لكنّ فاعليتها تعتمد على مدى استقلالها، وقدرتها على تجاوز الخطابات الرسمية والدبلوماسية لصالح تحقيق تغيير اجتماعي ملموس، وإذا أرادت اللجنة أن تلعب دورًا حقيقيًا في تحسين واقع الشعوب، فعليها أن تعزز شراكاتها مع الفاعلين الحقيقيين في المجتمع، وأن تكون أكثر شفافية في تقاريرها.