تحت الركام وفوق الخطر.. الفلسطينيون يقاتلون للبقاء في منازل مدمّرة
تحت الركام وفوق الخطر.. الفلسطينيون يقاتلون للبقاء في منازل مدمّرة
أصر الكثيرون من سكان قطاع غزة على العودة إلى ما تبقى من أطلال منازلهم التي أصابتها الغارات الإسرائيلية على مدى أكثر من عام، غير آبهين بما قد تؤول إليه الأمور، لكن معاناتهم لم تنته، إذ يواجهون العديد من المخاطر، تحت أسطح المنازل المهددة بالانهيار.
ويلاحق الخوف الدائم ومشاعر عدم الارتياح الحاجة أم محمد معمر (63 عاماً) منذ عودتها إلى ما تبقى من أنقاض منزلها غرب مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، فالمعيشة داخل منزل آيل للسقوط أشبه بـ"الموت المُحتّم" كما تقول.
وقالت معمر لـ"جسور بوست" إنها اضطرت للعيش بغرفة صغيرة هي ما تبقى لها من منزلها بعد قصفه، وبعد أن عانت ويلات النزوح في الخيام التي لم تقيها لهيب الصيف أو برد الشتاء، وكانت أشبه بالقبر المظلم.
وتهدد المنازل والبنايات السكنية الآيلة للسقوط في قطاع غزة حياة الآلاف من السكان، الذين عادوا مؤخراً، للمناطق المدمرة عقب انسحاب الجيش الإسرائيلي منها بموجب اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة حماس والجيش الإسرائيلي.
ورغم تحذيرات كثير من المسؤولين لخطورة الإقامة والسكن في أنقاض المنزل، فإن أم محمد لم تجد أي بديل يمكن الاستعاضة به.
الجميع أخبرنا بخطورة السكن في ما تبقى من منزلنا، المهندسون والمقاولون وكل من يُعاين ما حل بمنزلنا من دمار كان يحذرنا من عدم الإقامة فيه، لكن لا خيار آخر أمامنا، هكذا قالت أم محمد لـ"جسور بوست".
وأضافت بكثير من الأسى: "لم نجد مأوى ولا خيمة، ومنذ أن قصف منزلنا خلال الاجتياح البري الإسرائيلي الواسع لمدينتي لم يهتم لنا أحد".
من داخل مطبخ صغير أعدته هذه الحاجة من بعض مقتنياتها السابقة تتابع، قائلة: "لو توفرت لي خيمة سأقيم بداخلها".
وعن الأخطار التي واجهتها وأبناؤها، قالت: "وقعت علينا الحجارة من السقف وتضرر أحد أقربائي، ونحن ندرك الخطر الذي يداهمنا جراء السكن هنا، لكن لا مأوى آخر ولا بديل، وحتى الخيام ليس بمقدورنا شراؤها، ولم نستلم من المساعدات أي خيمة للمعيشة".
ورغم خطورة أوضاع هذه السيدة الفلسطينية، فإن إرادتها للحياة والبقاء دفعتها لإغلاق ما يمكن إغلاقه من جوانب المنزل وجدرانه التي سقطت، عبر ستائر وأقمشة استعارتها من جيرانها وأقربائها.
البقاء في العراء
وقال جمال سليمان، نجل السيدة الفلسطينية (32 عاماً)، إنه اضطر للعيش على أنقاض المنزل كونه لم يعثر على خيمة تؤويه وأسرته، أو مسكن مؤقت أو كرفانات للمعيشة.
وأضاف سليمان لـ"جسور بوست": “حين عدنا من رحلة النزوح وجدنا المنزل قد قصف وهو آيل للسقوط وشبه مدمر، وعشنا فيه مرغمين، ونتوقع سقوطه في أي لحظة، متسائلاً: ما البديل؟!”.
وعن المخاطر التي مرت بهم، قال: "بنات أخي سقطن من الأعلى وتعرضن للإصابة، إحداهن في الطحال والأخرى بالرأس، ولولا عناية الرحمن لفقدناهن أسفل الركام".
يدرك سليمان الخطر الناجم عن هذه المنازل المتهالكة، ويؤكد قائلا: "لا يستطيع أي عاقل مجرد المرور بجانب أنقاض المنزل فما بالك بالمعيشة داخله".
يروي سليمان معاناته خلال المنخفضات الجوية الأخيرة في تطاير ألواح الصفيح من المنازل المجاورة لغرفته، قائلا: "سقطت علينا ألواح الصفيح، إذ لا حماية أو جدران للغرفة وكادت تودي بحياة أبنائي لقوة ارتطامها بأرضية الغرفة وشدة الرياح حينها، وبقينا كأننا في العراء".
ورغم استصلاح بعض من القماش والنايلون لتغطية الغرفة فإن سليمان يرى فيها حلاً لا يمكن أن يوفر المكان الآمن له ولأسرته.
طريق محفوف بالمخاطر
أما محمد علي (36 عاماً) من منطقة المعسكر الغربي بمدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة فقد استطاع بصعوبة بالغة استصلاح جزء من منزله الآيل للسقوط، لاهتراء خيمته بفعل تطايرها من جراء المنخفض الأخير الذي ضرب المنطقة ومنها مناطق ومدن القطاع المحاصر.
لم يستطع علي أن يدخل من الطريق المؤدي لأنقاض منزله كونه غُطي بالركام، وقال لـ"جسور بوست": الصغار يؤذون بشدة من الركام ولا يستطيعون حتى الدخول للمنزل من وعورة الطريق".
وقال: "ناشدنا طواقم البلدية والدفاع المدني وكل الجهات المعنية لإزالة هذا الركام وما زلنا ننتظر حتى الآن".
آثار القصف تلاحقنا
أما حسن حنيدق (43 عاماً) فقد نجا بأعجوبة من سقوط بعض الكتل الخرسانية عليه خلال تنظيف جدران منزله المتهاوي.
يروي لـ"جسور بوست" لحظات الخوف التي انتابته أثناء تساقط كتل من الباطون على رأسه بفعل اهتراء سقف المنزل، قائلا: "بالكاد السقف متماسك وأعمدة المنزل ملقاة على الشوارع وهي في غاية الخطورة".
وأضاف: "هذا الركام خطر محدق على الأطفال وقد يصيبهم بجراح أو كسور أو قد يتساقط عليهم في أي لحظة".
ويبدو أن أكثر ما يقلق حنيدق في معيشته بالمنزل هي أحوال الطقس المتقلب خاصة أثناء الرياح والمنخفضات والأمطار التي تزيد احتمالية سقوط أجزاء من الركام وبالتالي تزايد الأخطار وتعميقها.
ورغم نجاة حنيدق من القصف الإسرائيلي للحي السكني الذي يقيم فيه إبان الأسابيع الأولى للحرب الإسرائيلية، فإن خشيته من آثار هذا الدمار الواسع تبقى كبيرة ومقلقة، وهو يعتبرها بمثابة "القبر المؤقت الذي نخشاه".
ومنذ انتهاء دفة الحرب، برزت أزمة النقص الحاد في المسكن والمأوى للغزيين بعد تضرر 450 ألف وحدة سكنية، منها 170 ألف هدمت بشكل كلي، و80 ألف وحدة بشكل بليغ، و200 ألف بشكل جزئي، بحسب ما صرح به مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة لـ"جسور بوست".
حكم بالإعدام
بدوره، أكد الناطق باسم جهاز الدفاع المدني بقطاع غزة محمود بصل، أن السبب الذي أرغم الأهالي للسكن في المنازل الآيلة للسقوط هو عدم وجود منازل أو مأوى لهم، مشيراً إلى أن الجيش الإسرائيلي دمّر كل شيء في قطاع غزة، وبالتالي المواطن فضّلها عن العيش في الخيام المهترئة التي لا تصلح للحياة.
وقال بصل في تصريح لـ"جسور بوست": إن المخاطر التي قد تلحق بالسكن في تلك المنازل تتمثل في وجود الأعمدة الخرسانية والأسقف التي قد تسقط أو تنهار في أي لحظة.
وأضاف المدير بالدفاع المدني: "يمكن أن تحتوي هذه المنازل على مخلفات الاحتلال ومتفجرات بقيت من آثار الحرب وقد تنفجر بسبب مباشر أو غير مباشر، بالإضافة للأمراض والأوبئة التي قد تصيب السكان".
ولفت إلى أنه منذ بداية وقف إطلاق النار سجلت طواقم الدفاع المدني أكثر من 10 شهداء في هذه المنازل جراء مخلفات الاحتلال أو انهيارات في هذه المباني أو سقوطهم من الأعلى.
واعتبر بصل أن التلكؤ والمماطلة الإسرائيلية في تنفيذ البروتوكول الإنساني وإدخال المعدات لإزالة أطنان الركام بمثابة إعدام مُحتّم للمواطن الفلسطيني.
وناشد الناطق الإعلامي المجتمع الدولي للضغط على إسرائيل لإدخال المعدات والآليات الثقيلة لإزالة الركام وإعادة الإعمار بشكل فوري وعاجل.
عقاب جماعي
من جانبه، أكد نائب مدير دائرة البحث الميداني في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ياسر عبد الغفور، أن تدمير المنازل على هذا النطاق الواسع يشير إلى استخدامها كسياسة عقاب جماعي، ولا يوجد أي مبرر لتدمير هذا العدد الهائل من الوحدات السكنية.
وقال عبد الغفور لـ"جسور بوست": "إن هذا التدمير ينتهك الحق في السكن، الذي يعد حقاً أساسياً من حقوق الإنسان وفقاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 25) والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المادة 11)، كما أن هدم المنازل بهذا الشكل يُعتبر انتهاكاً جسيماً لاتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر تدمير الممتلكات إلا في حالات الضرورة العسكرية القصوى والمحدودة".
وأضاف المدير الحقوقي: الأهم بتقديرنا أن إسرائيل دمرت هذا العدد الهائل من المنازل في إطار ارتكاب الجريمة الأخطر وهي الإبادة الجماعية، من خلال فرض ظروف معيشية كارثية على الفلسطينيين وحرمانهم من المقومات الأساسية اللازمة للبقاء على قيد الحياة، بما في ذلك تدمير منازلهم وكل مقومات الحياة.
ونفى عبد الغفور أن تكون هناك إحصائية دقيقة للمنازل المهدمة، لكن الواقع يقول إن -ربما- أكثر من 70% من منازل القطاع ووحداته السكنية دمرت، وتدمير هذا العدد الهائل يمثل عين الإبادة الجماعية؛ لأن التدمير جاء بنية مُبيّتة لإعدام فرص الحياة أمام الفلسطينيين، فضلا على أنه يشكل انتهاكاً صارخاً لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، التي تحمي المدنيين والأعيان المدنية أثناء النزاعات المسلحة.
ولفت عبد الغفور إلى أن المادة 53 من الاتفاقية تحظر تدمير الممتلكات إلا في حالات الضرورة العسكرية القصوى وفي الغالبية العظمى من الحالات هذه لم يكن متوفراً، وأغلب عمليات التدمير جاء بعد إحكام إسرائيل سيطرتها على المناطق.
هذه الأرقام الصادمة تشير إلى أن هذه الأفعال قد تكون جزءاً من سياسة ممنهجة تستهدف إلحاق المعاناة بالمدنيين، مما قد يشكل -بحسب الباحث الحقوقي- إلى إبادة جماعية، فضلاً عن كونها جريمة حرب وفقاً لتعريفات القانون الدولي.
ونوه عبد الغفور إلى أن ادعاء الاحتلال بأن المنازل تؤوي مقاومين لا يبرر تدميرها على هذا النطاق الواسع، إذ إنه وفقاً لمبادئ القانون الدولي الإنساني، يجب أن تكون الهجمات متناسبة ولا تلحق ضرراً غير مبرر بالمدنيين أو الممتلكات المدنية.
حلول منتظرة
وشدد المدير بالمركز على ضرورة إيجاد حلول عاجلة لأزمة السكن واضطرار الأهالي للعيش على أنقاض منازلهم، عبر تسهيل المسارات الإنسانية الواجب اتخاذها من المنظمات الأممية والدولية، بما في ذلك توفير الخيام والوحدات السكنية المؤقتة، وإدخال معدات إزالة الأنقاض والركام، وإدخال مواد بناء وترميم المنازل المتضررة للاستفادة منها في الإيواء.
وإلى جانب إعادة الإعمار يرى عبد الغفور ضرورة مساءلة إسرائيل قانونياً ومحاسبتها على انتهاكاتها عبر آليات دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية (ICC) لضمان عدم الإفلات من العقاب والوصول للمحاسبة من جهة والإنصاف للضحايا وذويهم.
وختم عبد الغفور حديثه، قائلاً: لا بد من تطبيق قرار محكمة العدل الدولية الصادر في أغسطس الماضي، بعدم قانونية الاحتلال بوصفه جذر المشكلة لاستمرار التصعيد وتدهور الأوضاع، وبناء على ذلك فالمجتمع الدولي مطالب بالعمل على التوصيات الصادرة عن المحكمة واتخاذ كل الإجراءات لإنهاء هذا الاحتلال غير القانوني ووقف ازدواجية المعايير في تطبيق القانون الدولي.