من أسواق عامرة إلى أطلال مهجورة.. كيف حوّلت الحرب الأعياد إلى محطات للحزن والمآسي؟
من أسواق عامرة إلى أطلال مهجورة.. كيف حوّلت الحرب الأعياد إلى محطات للحزن والمآسي؟
في ظل دوي المدافع وصراخ الذكريات المؤلمة، تفقد الأعياد بريقها في مناطق النزاع لتتحول إلى مجرد أيام عادية يطغى عليها شبح الحرب وهموم البقاء.
هذا المشهد الكابوسي ليس مجرد انطباع عابر، بل تؤكده أحدث البيانات والإحصاءات التي ترسم لوحة قاتمة لواقع يعيشه ملايين البشر في اليمن وسوريا وفلسطين وغيرها من بؤر الصراع حول العالم.
تشير أرقام برنامج الأغذية العالمي الصادرة في منتصف عام 2024 إلى أن أكثر من 80% من سكان اليمن يعيشون تحت خط الفقر المدقع، مع انهيار كامل للقدرة الشرائية بعد أن فقدت العملة المحلية ما يقارب 400% من قيمتها منذ بداية الصراع.
هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات جافة، بل تعني عملياً أن شراء ملابس العيد أو حتى تأمين وجبة لائقة أصبح ضرباً من المستحيل بالنسبة لأغلب الأسر، والوضع لا يختلف كثيراً في سوريا، حيث تكشف التقارير الاقتصادية عن انهيار مريع في قيمة الليرة السورية التي خسرت 98% من قيمتها أمام الدولار منذ عام 2011، محولةً العيد من مناسبة للفرح إلى محطة جديدة من محطات المعاناة اليومية.
في غزة، لا تأتي الأعياد كاحتفال بقدر ما تأتي كجرح يتجدد، بعد الحرب، حيث تجاوز عدد القتلى الفلسطينيين 48,271، معظمهم من الأطفال والنساء، وبلغ عدد الجرحى 111,693، باتت الأعياد في القطاع مرادفًا للألم والفقدان بدلًا من الفرح والتجمعات العائلية.
رغم توقيع اتفاق هش لوقف إطلاق النار في يناير 2025، فإن الدمار الذي لحق بالبنية التحتية يجعل من الحياة الطبيعية حلمًا بعيد المنال.
بينما يحرص الغزيون على التمسك بطقوس العيد، تحوّلت الأولويات من شراء الملابس الجديدة وزينة المنازل إلى البحث عن مياه نظيفة أو تأمين دواء للمرضى، الأسواق التي كانت تضج بالحياة قبل الأعياد باتت اليوم شبه خالية، حيث لا سلع ولا زبائن، وحتى "كسوة العيد"، التي كانت رمزًا للبهجة، صارت رفاهية نادرة المنال.
على الصعيد الاجتماعي، أدت سنوات الحرب الطويلة إلى تفكك النسيج المجتمعي وبروز ظواهر اجتماعية خطرة مثل "الأيتام غير المسجلين" تقارير اليونيسف الصادرة أخيرًا تكشف عن وجود ما يزيد على 1.7 مليون طفل يمني فقدوا أحد والديهم أو كليهما بسبب النزاع المسلح، هذه الأرقام المروعة تطرح أسئلة وجودية حول معنى الاحتفال بالعيد في غياب الأسرة التي تشكل العمود الفقري لهذه المناسبات في الثقافة العربية والإسلامية.
في السياق السوري، تشير تقديرات مفوضية اللاجئين إلى أن 40% من العائلات فقدت عائلها الرئيسي، ما أدى إلى تحولات جذرية في طبيعة الاحتفالات التي كانت تقوم بالأساس على التجمعات العائلية الممتدة، العيد لم يعد ذلك المحفل الاجتماعي الذي يجمع الأقارب والأحباء، بل تحول إلى مناسبة تذكّر بالخسائر والفقدان، حيث تزور الأسر المقابر بدلاً من تبادل الزيارات والتهاني.
الجانب الصحي يقدم مشهداً أكثر إيلاماً، حيث تكشف بيانات منظمة الصحة العالمية عن واقع مرير: في اليمن، لم يعد سوى 51% من المرافق الصحية قادراً على العمل بكامل طاقته، في حين عادت أمراض كانت قد اختفت مثل شلل الأطفال إلى الظهور في سوريا.
على المستوى النفسي، تكشف دراسات منظمة أطباء بلا حدود عن معاناة عميقة 68% من أطفال مناطق النزاع يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، و55% من البالغين مصابون بالاكتئاب السريري، في حين ترتبط 42% من الحالات النفسية بذكريات مؤلمة خلال المناسبات والأعياد. هذه الأرقام تكشف كيف تحولت المناسبات السعيدة إلى محفزات للصدمات، حيث تتحول أصوات الألعاب النارية إلى كوابيس تذكر بأصوات القصف والانفجارات.
الثقافة والتقاليد لم تسلم أيضاً من تأثيرات الحرب المدمرة فتقارير اليونسكو تحذر من اختفاء 60% من العادات والتقاليد المرتبطة بالمناسبات في مناطق النزاع، حيث لم يعد 75% من السكان قادرين على ممارسة طقوسهم التقليدية بسبب ظروف الحرب والنزوح، الأغاني الشعبية، الألعاب التقليدية، حلويات العيد الخاصة، كلها مظاهر ثقافية أصبحت مهددة بالانقراض في العديد من المناطق.
رغم هذه الصورة القاتمة، تبرز بعض المبادرات المجتمعية تحاول إعادة إحياء روح العيد: "مطابخ التكافل" التي تطعم آلاف الأسر، "مدارس العيد" التي توفر فضاءات تعليمية وترفيهية للأطفال، "العيدية البديلة" حيث يتم تبادل الخدمات بدلاً من الهدايا المادية هذه المبادرات، وإن كانت لا تعوض عن فقدان مظاهر الاحتفال التقليدية، إلا أنها تشكل شمعة أمل في ظلام الحرب الدامس.
لكن هذه الجهود تواجه تحديات جسيمة، حيث تكشف البيانات أن 55% من المساعدات الإنسانية لا تصل في موعدها بسبب التعقيدات اللوجستية، في حين تظل 35% من المناطق المتضررة عصية على الوصول. نقص التمويل يشكل عائقاً آخر، حيث تعاني 70% من المشاريع الإغاثية من شح الموارد المالية.
الأمر الأكثر إيلاماً هو تحول الأعياد إلى أداة سياسية في يد الأطراف المتصارعة، إذ تكشف تقارير المنظمات الحقوقية عن استخدام 45% من الجماعات المسلحة للمساعدات الموسمية كورقة ضغط، ومنع 30% من المساعدات عن مناطق معينة لأسباب سياسية، وتحويل 25% من المساجد والمراكز المجتمعية إلى ثكنات عسكرية.
في خضم هذه المعطيات المأساوية، تبرز أسئلة مصيرية: كيف يمكن حماية الموروث الثقافي في زمن الحرب؟ ما آليات حماية المناسبات الدينية من الاستغلال السياسي؟ كيف نعيد بناء الذاكرة الجمعية الإيجابية حول الأعياد؟ هذه الأسئلة وغيرها تظل معلقة في انتظار إجابات عملية من المجتمع الدولي الذي يقف عاجزاً حتى الآن عن إيجاد حلول جذرية لأزمات هذه الشعوب.
في العراق..النزاعات تسلب فرحة العيد والدعم الدولي ضرورة
أكد مدير مدرسة الموهوبين بالعراق، مهند خضير، والحاصل على ماجستير في التقنيات الحياتية، لـ"جسور بوست” أن النزاعات المسلحة تُلقي بظلالها الثقيلة على طقوس العيد ومعيشة العائلات، خاصة في ظل التضخم الاقتصادي المتزايد. وأوضح أن تأمين الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والدواء والمأوى بات يشكّل تحدياً كبيراً، فما بالك بمتطلبات العيد من ملابس وحلويات وألعاب للأطفال، وهو ما يحرم النازحين والأسر المتضررة من أبسط مظاهر الفرح خلال هذه المناسبة.
وفيما يتعلق بالانتهاكات الحقوقية المرتبطة بالعيد، قال إن العراق، ومدينة الموصل تحديداً، لا تواجه حالياً أي قيود أمنية تؤثر في الاحتفال بهذه المناسبة، بل يتمتع السكان بحرية التعبير عن فرحهم وفق القانون والعادات والتقاليد.
وأضاف أن هذا المناخ الإيجابي تجلّى بشكل واضح منذ تحرير المدينة من احتلال تنظيم داعش عام 2017، حيث استعادت الحياة طبيعتها، وعاد العيد ليكون مناسبة للبهجة والتواصل الاجتماعي.
وحول دور المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية في دعم المتضررين، شدّد خضير على أن هذه الجهات تُعدّ ركيزة أساسية في إعادة إحياء المجتمعات المتضررة، عبر تقديم المساعدات في مختلف الجوانب الثقافية والاجتماعية والنفسية والصحية وأكد ضرورة تنسيق الجهود الدولية والإقليمية لتوفير إغاثة عاجلة تشمل الغذاء والدواء والدعم النفسي والاجتماعي، إلى جانب تنظيم برامج خاصة خلال الأعياد، مثل توزيع معونات مالية، وتوفير كسوة العيد، وإقامة فعاليات للأطفال والعائلات، لضمان حق الجميع في الاحتفال بكرامة.
وفيما يخص التأثيرات النفسية والاجتماعية للنزاع على الأطفال والعائلات خلال العيد، أوضح خضير أن هذه الفئة تعاني من مشاعر القلق والخوف والاكتئاب في ظل استمرار الصراعات، وأضاف أن هناك مبادرات محلية ودولية بدأت منذ 2017 وما زالت تقدم الدعم النفسي والاجتماعي، من خلال إنشاء مراكز استشارية، وتنظيم أنشطة ترفيهية للأطفال، وتقديم ورش للصحة النفسية، إلا أن الحاجة لهذه الجهود تبقى كبيرة بالنظر إلى التأثير العميق للنزاعات على المجتمعات.
عيد غزة بلا طقوس.. حصار وقصف ومآسٍ متواصلة
قال محمد عبد الناصر، أحد سكان قطاع غزة، إن الحرب والحصار المفروض على القطاع أثّرا بشكل كبير على طقوس العيد، ما حرم العائلات من أبسط مقومات الاحتفال، بدءًا من الطعام والشراب وحتى ملابس الأطفال، العيد في غزة لم يعد يحمل الفرح المعتاد، بل أصبح موسمًا آخر من المعاناة، حيث يعاني السكان من نقص حاد في الغذاء والمياه، وسط حصار خانق يمنع دخول الاحتياجات الأساسية.
وأضاف في تصريحاته لـ"جسور بوست"،: "كان العيد في غزة سابقًا مناسبة تزدان فيها الأسواق بالألوان الزاهية، ويتسابق الأهالي لشراء الملابس الجديدة والحلويات، لكن اليوم، لم تعد هناك أسواق تكتظ بالناس، بل أنقاض ودمار وصواريخ تتساقط على الأحياء السكنية. كيف يمكن للعيد أن يأتي ونحن نفتقد الأمان؟ كيف يفرح الأطفال وهم يسمعون صوت الانفجارات بدلًا من ضحكات العيد؟".
وأشار إلى أن مئات الآلاف من النازحين خرجوا من منازلهم دون أن يتمكنوا من حمل شيء، واضطروا للجوء إلى مدارس أو خيام لا تقيهم برد الليل ولا حر النهار، مشددًا على أن هؤلاء لا يملكون حتى الحد الأدنى من مقومات الحياة، فكيف لهم أن يحتفلوا بالعيد؟
كما أوضح أن استهداف الجيش الإسرائيلي للمساجد جعل أداء صلاة العيد أمرًا محفوفًا بالخطر، حيث تعرضت عشرات المساجد للقصف، ما دفع الكثيرين للخوف من التجمع للصلاة. وأضاف: "الاحتلال لم يكتفِ بقتل المدنيين وتدمير المنازل، بل سلب الناس حتى أبسط حقوقهم في التجمع والاحتفال. الأسواق فارغة، والمقابر ممتلئة، ولم تعد هناك عائلة إلا وفقدت أحباءها، بل هناك أسر كاملة أُبيدت ولم يبقَ لها أثر".
وأتم، الأطفال في غزة حُرموا من فرحة العيد لسنوات متتالية، مشيرًا إلى أن العيد الذي يفترض أن يكون مناسبة للبهجة، بات يومًا آخر للحزن والحداد وختم حديثه بالقول: "رغم الألم، سنبقى متمسكين بالحياة، وسنحاول أن نرسم الفرح على وجوه أطفالنا، لأن صمودنا هو رسالتنا في وجه هذا العدوان".
في سوريا.. العيد تحت التهديد والطائفية تقتل الفرح
قالت الناشطة الحقوقية السورية عهد قوجة إن النزاعات المستمرة في سوريا أثرت بشكل عميق في حياة المواطنين، حيث بات التوتر والخوف يطغيان على أي شعور بالفرح.
وأضافت في تصريحات لـ"جسور بوست": "لم نعد نحب اللون الأحمر، لأنه أصبح يرمز للدماء والمآسي التي نراها يوميًا. العيد في سوريا لم يعد مناسبة للاحتفال، بل بات تحديًا للبقاء على قيد الحياة وسط التهديدات الأمنية التي تلاحق الجميع".
وأشارت قوجة إلى أن التهديدات تتزايد في كل عيد، حيث تلقى الناس رسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تحذرهم من التجمعات في المولات والأماكن العامة، وسط مخاوف من وقوع تفجيرات في أي لحظة، وقالت: "القتل والخطف أصبحا شائعين، خصوصًا للطائفة العلوية، وهناك روايات متضاربة حول الجهات المسؤولة عن ذلك، فالبعض يقول إنها فصائل غير خاضعة للسيطرة، في حين يرى آخرون أن فلول الحرب هم من يقفون وراء هذه الجرائم لتدمير فرحة السوريين".
وأكدت أن الطائفية ما زالت تهدد السلام المجتمعي وتفسد الاحتفالات، مضيفة: "سواء كنا أقليات أو أكثرية، فإن الطائفية تحكم حياتنا، وإذا لم نتجاوز هذا الانقسام الداخلي ونتبنى دولة المواطنة، فلن نخرج من هذه المحنة. علينا أن نشعر بألم الآخرين، سواء المختطفون أو المغيبون، وإلا سنظل في حالة من التعاسة والشقاء".
وأوضحت قوجة أن الجهل والخوف والتغذية المستمرة للطائفية تعمّق الأزمة، مؤكدة أن الحل يكمن في التسامح والغفران والابتعاد عن التحريض، قائلة: "نحاول أن نفرح بالعيد، لكننا نجد أنفسنا محاصرين بتحذيرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تنصحنا بعدم حضور التجمعات".
وأضافت أن العيد في سوريا، سواء في عهد الأسد أو بعده، ظل غائبًا عن حياة الناس، مشيرة إلى أن الكثيرين اعتادوا على فقدانه. وقالت: "إذا لم تتخذ الحكومة إجراءات أمنية مشددة خلال العيد، فسيظل الخوف يلاحقنا. هناك جماعات مسلحة تهدد الأمن وتستهدف المدنيين.
وأشارت إلى أن السوريين يعيشون في خوف دائم، قائلة: "في الساحل، السنة يعيشون في السهول، والعلويون في الجبال، وكلا الطرفين يخشى الآخر، والبعض يرى في انتشار الحواجز الأمنية ضرورة للحماية، في حين يعده البعض الآخر أمرًا مخيفًا، لكن لا بد من ضمان أمن المواطنين بغض النظر عن طائفتهم، ويجب وقف أي استجوابات عن الانتماء الديني، ومنع الجماعات المسلحة من ارتكاب المجازر بحق المدنيين".
وأوضحت قوجة أن الجماعات الإرهابية تستغل الأعياد لتنفيذ عملياتها الدموية، مضيفة: "وصلتنا تحذيرات عن سيارات مفخخة قد تدخل دمشق، وإمكانية إطلاق قذائف. يبدو أن النزاع المسلح في سوريا لن ينتهي قريبًا، فيما يواصل رجال الأمن العام العمل دون راحة لحماية الناس، في وقت يأمل فيه السوريون تشكيل حكومة جديدة واستقرار الوضع السياسي، ما قد يسهم في تحسين الأوضاع الأمنية والاقتصادية".
وأردفت قائلة: "وسط كل هذه الأوضاع، كيف يمكن للأطفال أو الكبار أن يفرحوا بالعيد؟ في كل بيت سوري هناك مفقود أو شهيد، والعائلات تعيش في حزن دائم، والتجار يخشون فتح محالهم خوفًا من العنف أو الاستهداف، والتجارة شبه متوقفة، والجميع يعاني من القتل والخطف والتمييز الطائفي".
وختمت تصريحها قائلة: "المجتمع الدولي يقف متفرجًا على معاناة السوريين منذ 14 عامًا، واليوم، كل الشعب السوري مرهق، في المخيمات لا عيد ولا طقوس، ولا أدنى مقومات الحياة الكريمة، لقد جاء العيد والجيوب فارغة، والأوضاع الاقتصادية كارثية، فيما تظل حقوق الناس مهدورة، ولا تصل المساعدات لمستحقيها.. نحن محرومون من العيد، ومحرومون من أبسط حقوقنا".