روسيا تخنق الإنترنت.. قوانين جديدة تُجرم البحث عن "المحتوى المتطرف" وتُهدد حرية التعبير
روسيا تخنق الإنترنت.. قوانين جديدة تُجرم البحث عن "المحتوى المتطرف" وتُهدد حرية التعبير
في خطوة تثير قلقاً دولياً واسعاً وتُعدّ امتداداً لسلسلة من الإجراءات المتزايدة لتقييد الحريات، أقرت روسيا مؤخراً قوانين جديدة تُجرم "البحث العمدي" عن المحتوى "المتطرف" على الإنترنت، بما في ذلك عبر استخدام أدوات تجاوز الرقابة مثل الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN).
هذه التشريعات، التي تنتظر التصديق النهائي في روسيا لتُصبح نافذة في سبتمبر المقبل، تُمثل تصعيداً خطيراً في حرب الكرملين على المعلومات وحرية التعبير، وتُهدد بتحويل الفضاء الرقمي الروسي إلى "ستار حديدي رقمي" يحرم المواطنين من الوصول إلى أي معلومات لا تتوافق مع الرواية الرسمية.
تجريم البحث واستخدام الـVPN
لقد تجاوزت روسيا الآن مرحلة حجب المواقع الإلكترونية والمنصات، فالقوانين الجديدة، التي أقرها مجلس الدوما (الغرفة الأدنى في البرلمان)، تُعاقب المواطنين العاديين بغرامات تتراوح بين 3000 و5000 روبل روسي (ما يعادل نحو 38 إلى 64 دولاراً أمريكياً) على مجرد "البحث العمدي" عن المحتوى "المتطرف"، وهذا يُعدّ سابقة خطيرة، حيث لم تعد العقوبة مقتصرة على نشر المحتوى أو إنشائه، بل تمتد لتشمل مجرد محاولة الوصول إليه.
بالإضافة إلى ذلك، أقر مجلس الدوما في اليوم نفسه مشروع قانون آخر يُجرّم استخدام الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN) كظرف مشدد لارتكاب جرائم معينة، وعلى الرغم من أن القانون الروسي يحظر بالفعل على شبكات VPN توفير الوصول إلى المواقع المحجوبة، وقد تم حظر المئات منها، إلا أن مستخدمي VPN الأفراد لم يواجهوا عواقب قانونية حتى الآن، هذا التعديل الأخير يُغير قواعد اللعبة، ويُعرض ملايين الروس الذين يعتمدون على هذه الأدوات للوصول إلى المعلومات المستقلة لخطر الملاحقة القانونية.
الرقابة في زمن الحرب
تأتي هذه الإجراءات في سياق تشديد غير مسبوق لسيطرة روسيا على الإنترنت منذ غزوها الشامل لأوكرانيا في فبراير 2022، فبعد بدء الحرب، دخلت السلطات الروسية في ما يمكن وصفه بـ"رقابة زمن الحرب"، حيث تم حجب الآلاف من المواقع الإلكترونية التابعة لوسائل إعلام مستقلة، ومنظمات حقوق إنسان، ومعارضة سياسية، بالإضافة إلى منصات أجنبية مثل فيسبوك وإنستغرام، لعدم امتثالها للقوانين الوطنية الصارمة التي تنظم النشاط الإلكتروني.
لكن الأمر لا يتوقف عند الحجب؛ فقد وسعت السلطات الروسية بشكل مطّرد قائمة المنظمات والجماعات والمنصات المصنفة على أنها "متطرفة"، لتشمل كيانات لا تُصنف تقليدياً ضمن هذا الإطار، ومن الأمثلة البارزة على ذلك مؤسسة مكافحة الفساد، التي أسسها زعيم المعارضة الراحل أليكسي نافالني، وحتى منصة إنستغرام التابعة لشركة ميتا. هذا التوسع في تعريف "التطرف" يُمنح السلطات صلاحيات واسعة لحجب أي محتوى أو منصة لا تتوافق مع روايتها، بغض النظر عن طبيعة نشاطها، وتشير الإحصائيات إلى أن السلطات الروسية حجبت أكثر من 56000 مورد لرفضها حذف ما تعتبره "مواد متطرفة".
أدوات التحايل في مرمى النيران
لم تُركز القوانين الجديدة على المستخدمين الأفراد فحسب، بل امتدت لتُعاقب بشدة كل من يُسهل الوصول إلى المحتوى المحظور، حيث يقترح مشروع القانون الذي يعاقب على عمليات بحث معينة غرامات باهظة على الإعلان عن خدمات VPN التي تسمح بالوصول إلى المحتوى المحظور، وهذا الإجراء يهدف إلى خنق أي محاولة للترويج لأدوات تجاوز الرقابة، مما يُجعل من الصعب على المواطنين العثور عليها أو استخدامها.
علاوة على ذلك، يحظر مشروع القانون مشاركة بطاقات SIM والحسابات الإلكترونية بين الأفراد، وتعزز هذه الخطوة بشكل أساسي قدرة الدولة على المراقبة من خلال تحديد هوية المستخدم باستمرار، مما يُصعب على أي شخص التصفح أو التواصل بشكل مجهول، وبالتالي يُقوض أي مساحة للخصوصية على الإنترنت.
تقويض الوصول للمعلومات والمراقبة الجماعية
تُثير هذه القوانين مخاوف جدية بشأن مستقبل حرية التعبير والصحافة في روسيا، فكيفية تطبيق هذه القوانين لا تزال غير واضحة، إلا أنها تُهدد بمزيد من تقويض الوصول إلى المعلومات المستقلة وإضفاء الشرعية على المراقبة الجماعية عبر الإنترنت تحت ستار الأمن القومي، وهذا يُرسل إشارات مُقلقة للغاية لمن يسعون داخل روسيا إلى الوصول إلى معلومات غير خاضعة للرقابة، ويُعرضهم لخطر الاعتقال والغرامات.
أعربت منظمات حقوق الإنسان الدولية والمنظمات الصحفية عن قلقها العميق إزاء هذه التطورات، فتقرير "هيومن رايتس ووتش" الذي استُشهد به في مطلع هذا التقرير، يؤكد أن هذه القوانين تُشكل انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان الأساسية، بما في ذلك الحق في حرية التعبير والحصول على المعلومات.
لجنة حماية الصحفيين (CPJ)، على سبيل المثال، وثقت تزايد حالات حبس الصحفيين وحجب المواقع الإخبارية المستقلة في روسيا منذ عام 2022، تُشير تقاريرها إلى أن الصحفيين أصبحوا هدفاً مباشراً للقوانين الجديدة التي تُجرم نشر "الأخبار الكاذبة" حول الجيش الروسي، والتي تُستخدم الآن لتكميم أفواه أي صوت معارض، وقد شهدت روسيا تدهوراً مستمراً في مؤشرات حرية الصحافة، حيث احتلت مرتبة متدنية للغاية في تقارير منظمة "مراسلون بلا حدود" (RSF)، التي تُشير إلى أن روسيا تُعدّ "دولة شديدة الخطورة" على الصحفيين، مع تزايد عدد الصحفيين المسجونين أو الذين أُجبروا على الفرار.
من جانبها، أعربت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان عن قلقها إزاء القيود المتزايدة على الفضاء المدني والرقمي في روسيا، ودعت السلطات الروسية إلى الالتزام بالتزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في حرية الرأي والتعبير.
في ظل هذا المشهد، تدعو منظمات المجتمع المدني ومطوري أدوات التحايل على الرقابة إلى تكثيف جهودهم لتمكين المواطنين في روسيا من اختراق هذا الستار الحديدي الرقمي المُحكم، مؤكدة أن الوصول إلى المعلومات المستقلة لم يعد رفاهية، بل أصبح ضرورة حيوية في مواجهة حملة قمع لا تتوقف تستهدف تكميم الأفواه وعزل الشعب الروسي عن العالم.
تاريخياً، شهدت روسيا مراحل متقلبة فيما يتعلق بحرية الإنترنت والتعبير، فبعد فترة من الانفتاح النسبي في تسعينيات القرن الماضي، بدأت الدولة تدريجياً في فرض قيود على الفضاء الرقمي، خاصة بعد عودة فلاديمير بوتين إلى الرئاسة في عام 2012.. شهدت هذه الفترة سن قوانين تُعزز الرقابة، مثل قانون "الإنترنت السيادي" في عام 2019، الذي يهدف إلى عزل الإنترنت الروسي عن الشبكة العالمية في حالات الطوارئ، ما يزيد من سيطرة الحكومة على البنية التحتية الرقمية.
تصاعدت حدة هذه القيود بشكل كبير ومطّرد بعد ضم شبه جزيرة القرم في 2014، ثم بشكل دراماتيكي بعد الغزو الشامل لأوكرانيا في 2022، ففي هذا العام صدرت قوانين تُجرم "نشر معلومات كاذبة" عن القوات المسلحة الروسية، وتُعاقب بالسجن لفترات طويلة، وقد استخدمت هذه القوانين على نطاق واسع لملاحقة الصحفيين والناشطين والمواطنين العاديين الذين ينشرون أي معلومات لا تتوافق مع الرواية الرسمية للحرب.
إحصائيات حديثة تُبرز حجم الأزمة
حجب المواقع: وفقاً لتقارير متعددة من منظمات مثل "روستليكوم" الروسية (التي تُشرف على سجل المواقع المحظورة)، و"نت بلوكس" (NetBlocks)، فقد تم حجب عشرات الآلاف من المواقع والمنصات في روسيا منذ عام 2022، بما في ذلك المواقع الإخبارية المستقلة، ومنصات التواصل الاجتماعي الغربية، ومواقع المنظمات الحقوقية.
عدد مستخدمي VPN: تُشير تقديرات من شركات مزودة لخدمات VPN ومنظمات مراقبة الإنترنت إلى أن ملايين الروس يعتمدون على شبكات VPN للوصول إلى المعلومات المحظورة، وبعض التقديرات تُشير إلى أن نسبة مستخدمي VPN في روسيا قد تجاوزت 25% من إجمالي مستخدمي الإنترنت، وربما وصلت إلى مستويات أعلى بكثير في أوقات التوتر.
قضايا "الأخبار الكاذبة": سجلت مجموعات حقوقية روسية ودولية المئات من قضايا "الأخبار الكاذبة" ضد أفراد وصحفيين منذ بدء الحرب، ما أدى إلى أحكام بالسجن وغرامات باهظة.
التصنيف "المتطرف": تُشير التقارير إلى أن السلطات الروسية أضافت مئات الكيانات والأفراد إلى قوائم "المتطرفين والإرهابيين"، ما يُمكن أن يؤدي إلى تجميد أصولهم وملاحقتهم قضائياً.
هذه الأرقام تُظهر بوضوح أن حملة القمع الرقمي في روسيا ليست مجرد إجراءات شكلية، بل هي جزء من استراتيجية شاملة لإحكام السيطرة على المعلومات وتشكيل الوعي العام، ما يُهدد بشكل مباشر الحقوق الأساسية للمواطنين في مجتمع ديمقراطي.