«فورين بوليسي»: مطاردة الطلاب الأجانب يقوّض القيم الليبرالية الأمريكية

الجامعات الأمريكية تفقد حيادها

«فورين بوليسي»: مطاردة الطلاب الأجانب يقوّض القيم الليبرالية الأمريكية
الطالبة التركية روميساء أوزتورك

أوقفت السلطات الفيدرالية الأمريكية الطالبة التركية روميساء أوزتورك، المرشحة لنيل درجة الدكتوراه في جامعة "تافتس" بولاية ماساتشوستس، في مارس الماضي، في أثناء وجودها في محطة وقود بالقرب من مقر إقامتها في مدينة سومرفيل، وجه المحققون إليها تهمًا تتعلق بالتجسس لمصلحة الحكومة التركية، رغم أن الأدلة المزعومة لم تتضمن اتهامات بسرقة معلومات حساسة أو تهديد مباشر للأمن القومي، بل استندت إلى نشاطات أكاديمية وشخصية قامت بها في إطار حياتها الطلابية.

ووفقًا لتحليل نشرته "فورين بوليسي"، الأربعاء، أدرجت السلطات في ملفها مشاركتها بمقالة رأي تنتقد رد فعل الجامعة تجاه مظاهرات مؤيدة لفلسطين، ومساهمتها في محادثات خاصة حول التمييز ضد المسلمين، إلى جانب حصولها على منحة دراسية من مؤسسة حكومية تركية تُعرف بـ"وقف المعارف التركي"، وهي جهة تموّل الآلاف من الطلاب الأتراك للدراسة في الخارج منذ عام 2016.

واتهمها أحد المحققين الفيدراليين صراحةً بأنها "جاسوسة"، وهو ما نفته أوزتورك بشدة، ومنذ توقيفها، تخضع للاحتجاز من قِبل إدارة الهجرة والجمارك الأمريكية، في انتظار جلسة ترحيل قضائية، ما أثار موجة استنكار في الأوساط الأكاديمية الأمريكية، خاصة بين الأساتذة والطلبة الأجانب.

وعبّر أحد أساتذتها، الدكتور أبرار أحمد، عن قلقه قائلاً: "إذا كانت الحكومة تعد روميساء تهديدًا، فيمكن القول إن كل من يحمل جنسية تركية أو إيرانية أو صينية أصبح موضع شبهة".

تاريخ من التوترات

تبنّت الولايات المتحدة منذ عقود سياسة مزدوجة تجاه الطلاب الأجانب، تجمع بين الانفتاح التعليمي والتوجس الأمني، فقد دعا الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان عام 1950 إلى فتح أبواب الجامعات أمام الطلاب الدوليين، معتبرًا ذلك ركيزة مهمة في العلاقات الخارجية، وأسهم لاحقًا في إطلاق برنامج "فولبرايت" للتبادل الأكاديمي، الذي ما زال يُعد من أبرز أدوات القوة الناعمة الأمريكية.

وسعى القائمون على السياسة الخارجية إلى أن يعود الخريجون الأجانب إلى بلدانهم حاملين معهم القيم الأمريكية، ليكونوا بمنزلة سفراء غير رسميين للولايات المتحدة، لكن هذا الطموح لم يخلُ من الشروط، ففي نفس العام، أقر الكونغرس "قانون ماكاران والتر"، الذي أجاز للحكومة منع دخول الأجانب الذين يُشتبه في انتمائهم لأيديولوجيات تهدد الأمن القومي، وعلى رأسها الشيوعية.

ومنعت السلطات عام 1952 طالبًا في جامعة كولومبيا من استكمال دراسته بسبب انتمائه إلى اتحاد طلابي ذي توجهات اشتراكية، ورغم انتهاء الحرب الباردة، استمرت هذه السياسة في الظهور بأشكال مختلفة، خاصة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث أنشأت وزارة الأمن الداخلي برنامجًا لمراقبة الطلاب الأجانب يُعرف بنظام SEVIS، أدى إلى تأخيرات كبيرة في إصدار التأشيرات، وتصاعد المخاوف من استغلال النظام التعليمي لأغراض أمنية.

تصاعد القيود في عهد ترامب

شنّت إدارة الرئيس دونالد ترامب الأولى حملة غير مسبوقة ضد الطلاب الأجانب، ترافقت مع تصاعد التوترات العالمية وتزايد الشكوك حول إمكانية تسرب التكنولوجيا الحساسة.

وألغت الحكومة عام 2018 تأشيرات نحو ألف طالب صيني، بدعوى ارتباطهم ببرامج تابعة للجيش الصيني، رغم غياب أدلة علنية تدعم هذه الادعاءات، وفي عام 2020، اقترحت الإدارة قاعدة تنظيمية تحد من مدة إقامة الطلاب الدوليين بأربع سنوات فقط، قابلة للتخفيض إلى عامين بالنسبة للطلاب القادمين من دول مصنفة معادية، مثل إيران وكوريا الشمالية وسوريا.

وأثارت هذه التوجهات موجة اعتراض من رؤساء الجامعات الأمريكية، الذين حذروا من أن القيود الجديدة تهدد مكانة الولايات المتحدة كوجهة أولى للطلاب الدوليين، وجّه بعضهم رسائل مباشرة إلى البيت الأبيض، مشيرين إلى أن "الجامعات ليست أدوات للأمن القومي، بل جسور لبناء الفهم بين الشعوب".

تعامل إدارة بايدن

ورثت إدارة الرئيس السابق جو بايدن هذا الملف الحساس، ولم تُظهر نية واضحة في تغييره بشكل جذري، بل أعلنت أنها ستُخضع حسابات التواصل الاجتماعي للطلاب الأجانب إلى تدقيق متزايد، ضمن ما وصفته بخطوات لحماية الجامعات من "أخطار التطرف أو التمييز العنصري والديني"، خصوصًا في ظل ارتفاع حدة الخطاب السياسي المرتبط بالقضية الفلسطينية.

وأخيرًا، أكّدت وزارة الخارجية الأمريكية في تقرير لها أن بعض الطلاب الأجانب -لا سيما في مجالات العلوم الدقيقة والهندسة والتكنولوجيا- قد يسعون إلى الوصول إلى معلومات علمية متقدمة تُستخدم في تطوير أسلحة أو برمجيات عسكرية، وقال أحد مسؤولي الوزارة إن "الانفتاح الأكاديمي لا يعني التنازل عن متطلبات الأمن القومي".

وسلّطت قضية روميساء أوزتورك الضوء على حدود ما يسمى بـ"القوة الناعمة الأمريكية"، التي طالما اعتمدت على التعليم أداةً دبلوماسيةً، فقد أكّد محاميها أن موكلته لم تنتهك قوانين الإقامة أو تخرق أي لوائح أكاديمية، بل استُهدفت بسبب آرائها السياسية ونشاطها في قضايا تمسّ مجتمعها الطلابي، وأضاف: "تستخدم الحكومة قانون الهجرة أداةً لمعاقبة التعبير السياسي".

ويرى أكاديميون أن استمرار مثل هذه القضايا سيُضعف الثقة العالمية في النظام التعليمي الأمريكي، ويُشجّع الطلاب المتميزين على التوجه إلى وجهات أخرى مثل كندا، ألمانيا أو أستراليا.

وعلى الرغم من أن عدد الطلاب الدوليين في الولايات المتحدة لا يزال مرتفعًا -إذ بلغ نحو مليون طالب في العام الأكاديمي 2023- فإن الاتجاه العام يُظهر بوادر تراجع في ظل هذه السياسات.



 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية