"حياة على حافة الموت".. النساء الحوامل في غزة بين معاناة الولادة المبكرة والأجنة الجائعة
"حياة على حافة الموت".. النساء الحوامل في غزة بين معاناة الولادة المبكرة والأجنة الجائعة
في قلب غزة، حيث الحرب لا تترك متسعًا للتنفس، تواجه النساء الحوامل أخطر رحلة في حياتهن، رحلة الأمومة التي تحولت إلى صراع يومي للبقاء في وجه المجاعة والقصف وانهيار النظام الصحي.
بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، اليوم الثلاثاء، يوجد ما لا يقل عن 60 ألف امرأة حامل اليوم مهددات بفقدان حياتهن أو حياة أطفالهن بسبب انعدام الرعاية الصحية والأمن الغذائي.
مشاهد يومية من الألم
داخل مستشفى ناصر بمدينة خان يونس، تعمل الطبيبة الأمريكية أمبرين سليمي ضمن بعثة طبية تابعة لمنظمة بيت المال الأمريكية، وفقا لما أوردته وكالة أنباء الأناضول، تصف الطبيبة الوضع بكلمات تختزل عمق المأساة: "نجري عمليات ولادة قيصرية مبكرة لإنقاذ نساء فلسطينيات يعانين من مضاعفات خطيرة بسبب نقص الغذاء والدواء".
يولد الكثير من الأطفال في غزة اليوم قبل أوانهم، وبأحجام أصغر مما ينبغي، يواجهون العالم بنصف فرصة للحياة، في بيئة افتقدت أبسط مقوماتها.
وبينما كانت سليمي تحتضن رضيعًا حديث الولادة يعاني من سوء تغذية حاد، تضيف بأسى: "هذا المشهد يتكرر يوميًا، لدينا أطفال يعانون من الجوع، من الحروق والجروح، ولا نجد أسرّة كافية لعلاجهم".
مؤشرات كارثية
الأرقام التي كشفها الدكتور منير البرش، المدير العام لوزارة الصحة في غزة، ترسم ملامح الأزمة بوضوح أكثر فزعًا، إذ يوضح أنه منذ بداية عام 2025 وحتى منتصفه، سُجلت 17,000 حالة ولادة فقط، مقارنة بـ29,000 حالة في الفترة نفسها من عام 2022، بانخفاض يفوق 41%.
كما تم تسجيل 2,600 حالة إجهاض (15% من إجمالي الولادات)، و1,460 حالة ولادة مبكرة (9%)، 1,600 طفل وُلدوا بوزن أقل من المعدل الطبيعي، وتم إدخال 2,535 رضيعًا إلى وحدات العناية المركزة، وتم تسجيل 67 حالة تشوه خلقي.
هذه الأرقام تعكس الأثر المباشر للحرب والحصار وسياسة التجويع الممنهجة التي تقطع شرايين الحياة عن النساء والأطفال في غزة.
سياسة تجويع ممنهجة
منذ أكتوبر 2023، شددت إسرائيل حصارها المفروض على قطاع غزة، ووصل ذروته في مارس 2025 بإغلاق شامل للمعابر أمام المساعدات الإنسانية، ما أدخل القطاع رسميًا في مرحلة المجاعة بحسب توصيف منظمات أممية.
النتيجة كانت مأساوية: بحسب وزارة الصحة، توفي 133 فلسطينيًا بسبب سوء التغذية والمجاعة، بينهم 85 طفلًا، وحذر المكتب الإعلامي الحكومي من موت جماعي يهدد أكثر من 100 ألف طفل بسبب نفاد الحليب والمكملات الغذائية.
ولم تترك الحرب الإسرائيلية على غزة أثرها فقط في البيوت المهدّمة والأحياء المدمَّرة، بل زرعت الموت ببطء في بطون الأمهات وأجساد أطفال لم يُولدوا بعد، وتؤكد الطبيبة سليمي أن سوء التغذية الناتج عن الحصار والتوتر النفسي الناجم عن القصف المستمر يضاعف من احتمالات الولادات المبكرة والتشوّهات الخلقية، ويهدد حياة الأمهات أنفسهن.
تصف الطبيبة حالة امرأة فلسطينية، (22 عامًا)، فقدت زوجها بقذيفة إسرائيلية بينما كانت حاملًا في شهرها السادس: أصيبت بحروق شديدة أفقدتها عينها، وابنها البالغ ثلاث سنوات أُصيب أيضًا، وتضيف سليمي: "معاناتها النفسية أعمق بكثير من جروح جسدها، لا أحد يستطيع أن يتخيّل حجم الألم الذي يعيشه الفلسطينيون هنا".
النظام الصحي ينهار
حتى المستشفيات، التي كانت يومًا ملاذًا للمرضى والنساء الحوامل، أصبحت اليوم غير قادرة على أداء أبسط مهامها، وتعاني مستشفى ناصر، كمثال، من نقص حاد في الأدوية والمعدات الطبية والطعام وحتى الأسرّة، ما يجعل تقديم رعاية صحية آمنة أمرًا شبه مستحيل في ظل انهيار النظام الصحي.
أشارت سليمي إلى أن الأطباء والممرضين يعملون في ظروف مأساوية رغم الجوع والخوف وهو التزام تصفه بأنه مدهش ومؤثر لكنه غير كافٍ لإنقاذ الجميع في ظل الكارثة.
ووفقًا لتقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، يعاني أكثر من 1.1 مليون شخص في غزة من انعدام الأمن الغذائي الحاد، ويشير تقرير أصدرته اليونيسف مؤخرًا إلى أن النساء الحوامل والأطفال هم الأكثر تأثرًا، حيث تزداد لديهم مخاطر الوفاة بسبب سوء التغذية والافتقار إلى الرعاية الطبية.
وأكدت منظمات حقوقية، مثل هيومن رايتس ووتش، أن سياسة منع دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة ترقى إلى عقاب جماعي بحق السكان المدنيين، في انتهاك صريح للقانون الدولي الإنساني.
معركة يومية للبقاء
في الظروف الطبيعية، تمثل فترة الحمل للأمهات وقتًا للفرح والقلق الجميل على المولود القادم. أما في غزة فتحولت هذه الفترة إلى كابوس يومي، فالنساء الحوامل هناك لا يقلقن فقط من آلام الولادة، بل من فقدان حياتهن أو حياة أطفالهن بسبب الجوع، والقصف، أو نقص الرعاية.
تكرار النزوح من منطقة إلى أخرى، سوء ظروف النظافة، والعيش في خيام متهالكة يزيد من انتشار العدوى والأمراض. ويضعف ذلك مناعة النساء الحوامل، ما يرفع معدلات الالتهابات والمضاعفات الصحية.
ويعيش قطاع غزة تحت حصار إسرائيلي مشدد منذ عام 2007، تخللته أربع حروب كبرى ومئات الاعتداءات العسكرية، لكن الحرب الأخيرة المستمرة منذ أكثر من 21 شهرًا هي الأطول والأكثر دموية، حيث أودت بحياة أكثر من 204 آلاف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم من النساء والأطفال، مع أكثر من 9 آلاف مفقود.
ورغم التحذيرات الدولية والدعوات لوقف إطلاق النار وتسهيل دخول المساعدات، يواصل الجيش الإسرائيلي عملياته دون مبالاة للأزمة الإنسانية في القطاع والمناشدات الدولية.