جثث على شواطئ الهجرة.. حين تغدو الطفولة سلعة في أسواق الظلام
جثث على شواطئ الهجرة.. حين تغدو الطفولة سلعة في أسواق الظلام
سجلت الأمم المتحدة، يوم الجمعة الماضي، مأساة إنسانية مروعة في قلب البحر الأبيض المتوسط، حيث يفقد طفل مهاجر حياته كل 24 ساعة تقريباً أثناء محاولته العبور نحو الحلم الأوروبي.
كشفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، في تقرير حديث، أن نحو 3500 طفل مهاجر لقوا حتفهم أو فُقدوا خلال العقد الماضي أثناء محاولتهم عبور البحر نحو إيطاليا، بمعدل يُقارب طفلًا واحدًا يوميًا، ولفتت المفوضية الأوروبية إلى أن الرقم الحقيقي قد يكون أعلى بكثير، إذ يُعتقد أن 65% من حوادث غرق الأطفال لا يتم توثيقها، مما يرفع تقديرات عدد الضحايا إلى نحو 10 آلاف طفل.
وانطلقت هذه الرحلات من مناطق تمزقها الفوضى والفقر، كالسودان والنيجر وسوريا، وامتدت عبر دروب التهريب نحو شواطئ ليبيا، حيث يُزج بالأطفال في قوارب متهالكة تقتادهم نحو مصير مجهول، يفقد الطفل، في طريقه، الحماية والكرامة، قبل أن يفقد حياته.
وأظهر تقرير مشترك صادر عن منظمة اليونيسف والمنظمة الدولية للهجرة أن 92% من الأطفال الذين نَجوا من عبور البحر تعرضوا لشكل من أشكال الانتهاكات، وأُجبر 78% منهم على تحمل عنف جسدي، بينما تعرض 64% لاعتداءات جنسية، واستُغل 89% اقتصاديًا، وتؤكد المنظمتان أن 70% من الضحايا دون سن الثانية عشرة، بينما سافر 40% بمفردهم، ما جعلهم فريسة سهلة للعصابات الإجرامية.
رصدت تقارير المفوضية الأوروبية أوضاعاً صادمة داخل مراكز الاستقبال في أوروبا، حيث تفتقر 68% من المراكز لمساحات آمنة للأطفال، وتخلو 92% منها من الدعم النفسي، ويعاني نصف الأطفال من سوء التغذية، ففي عام 2023 وحده، فقد 428 طفلاً حياتهم أثناء الرحلة، في أعلى حصيلة منذ بدء التوثيق.
وأنفقت الدول الأوروبية 3.8 مليار يورو عام 2023 على تشديد الرقابة الحدودية، في حين خُصصت فقط 4% من هذا المبلغ لحماية الأطفال المهاجرين، وفق بيانات وكالة فرونتكس الأوروبية، ويعكس هذا التفاوت فشلاً منهجيًا في ترتيب الأولويات الإنسانية.
عصابات تتربص بالأطفال
استغلت الشبكات الإجرامية هذه الثغرات، محققة أرباحًا تُقدر بنحو 6 مليارات دولار سنويًا من استغلال الأطفال، حسب منظمة العمل الدولية، وجرى تجنيدهم في الزراعة (38%)، والدعارة (22%)، والتسول المنظم (27%)، وأعمال خطرة (13%)، في ظل تقاعس السلطات.
وسجلت الأمم المتحدة في ليبيا 1200 حالة اعتقال تعسفي لأطفال مهاجرين خلال عام 2023 فقط. تعرض 80% منهم للتعذيب وسوء المعاملة، وتحدثت تقارير ميدانية عن أطفال يُحبسون في أقفاص، ويُجبرون على العمل مقابل الطعام، أو يُباعون مقابل مبالغ زهيدة.
ودعت دراسة لجامعة برشلونة إلى فتح ممرات آمنة للهجرة، مما قد يقلل من معدل وفيات الأطفال بنسبة تصل إلى 75%، بتكلفة لا تتجاوز 12% من ميزانية الرقابة الحدودية، كما تشير بيانات الاتحاد الأوروبي إلى أن عمليات الإنقاذ تقلل من معدلات الغرق بنسبة 64%.
وأثبتت مبادرات كبرنامج "أطفال بلا مخاطر" في السنغال فاعليتها، إذ انخفضت نسبة هجرة الأطفال غير المصحوبين بنسبة 40% خلال عامين بفضل التوعية والدعم الاقتصادي للأسر.
واقع مؤلم في أوروبا
أظهرت وزارة الصحة الإيطالية أن 78% من الأطفال المهاجرين في البلاد خارج النظام التعليمي، و45% لا يتلقون الرعاية الصحية الأساسية، بينما يعاني 35% من أمراض مزمنة بسبب الرحلة، وفي اليونان، يعاني 62% من الأطفال المهاجرين من اضطرابات نفسية دون أي دعم نفسي متخصص.
وغاب التنسيق الدولي عن هذه الأزمة. فلا توجد حتى الآن اتفاقية دولية ملزمة لحماية الأطفال المهاجرين، ويقترح الخبراء إنشاء صندوق دولي برأس مال 500 مليون دولار لحمايتهم، واعتماد آلية توزيع عادلة بين دول الاتحاد الأوروبي.
ودعا ناشطون حقوقيون إلى تحويل العلاقة مع دول العبور من الضغط السياسي إلى دعم تنموي فعلي، عبر تعزيز نظم الحماية وتقديم دعم فني واقتصادي، فمكافحة شبكات التهريب تبدأ من معالجة أسبابها الاجتماعية والاقتصادية.
أرقام تُبكي الضمير العالمي
قال الدكتور أيمن زهري، الحاصل على درجة الدكتوراه في دراسات الهجرة من جامعة ساسيكس، وأستاذ الهجرة والسياسات الدولية في الجامعة الأمريكية ببيروت، والمستشار لدى الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، إن مقتل أو فقدان أكثر من 3,500 طفل مهاجر في البحر المتوسط خلال العقد الأخير يشكل جرس إنذار أخلاقيًا وإنسانيًا، لا يمكن تجاهله، مؤكدًا أن "الجنة الأوروبية" التي يحلم بها هؤلاء الصغار تحوّلت إلى فخ قاتل يبتلع براءتهم بلا رحمة.
وأوضح زهري، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن التقرير الأخير الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) في أبريل 2025، والذي كشف عن هذه الأرقام الصادمة، يسلّط الضوء على الطريق الأكثر فتكًا بالأطفال، فالبحر الأبيض المتوسط الأوسط، الذي يبتدئ من شواطئ ليبيا وتونس وصولًا إلى إيطاليا، حيث فُقد فيه وحده أكثر من 1,700 شخص في عام واحد فقط –عام 2024– من بينهم مئات الأطفال.
وأشار إلى أن سبعين في المئة من هؤلاء الأطفال المهاجرين يسافرون دون مرافقة أحد من ذويهم أو أي وصي قانوني، وهو ما يجعلهم أكثر عرضة لشتى أنواع الانتهاكات من تجنيد في شبكات الجريمة المنظمة، إلى العمل القسري والاستغلال الجنسي، وسط غياب شبه تام للرقابة والحماية.
وأضاف أن هؤلاء الأطفال لا يفرّون فقط من الفقر أو الجوع، بل من دول تنهار فيها الحماية الاجتماعية وتتفكك فيها الدولة ذاتها، كالسودان وسوريا وأفغانستان وإريتريا، حيث الفساد مستشرٍ، والحروب لا تنتهي، والنزوح القسري بات هو القاعدة لا الاستثناء.
وأوضح زهري، أن المسألة لم تعد فقط تتعلق بتهريب غير شرعي أو ضعف في الرقابة الحدودية، بل هي أزمة جذرها اقتصادي-سياسي، أساسه غياب التنمية المستدامة والتعليم والرعاية الصحية والأمن. إن المقاربة الأمنية وحدها، مهما بلغت من تشديد ومراقبة، لن توقف قوارب الموت، ولن تردع أطفالًا لا يملكون خيارًا سوى الفرار، فيتحوّلون إلى أوراق يابسة في مهب عواصف المتوسط.
وتابع أن مسؤولية دول المقصد، وعلى رأسها إيطاليا، لا تقل عن مسؤولية دول المنشأ، فالإجراءات في مراكز الاستقبال كثيرًا ما تكون غير إنسانية، حيث يُحتجز الأطفال جنبًا إلى جنب مع بالغين دون تفرقة، ولا تتوفر لهم الرعاية النفسية أو التعليمية اللازمة، ما يدفع نسبة كبيرة منهم إلى الهروب والاختفاء، ليقعوا مجددًا فريسة للاستغلال. إن الأطفال هناك لا يُعاملون كضحايا، بل كأرقام في معادلات سياسية وأمنية، تُجرّدهم من إنسانيتهم وتُسقط عنهم حقهم في الطفولة.
ولفت إلى أن التزامات الدول الأوروبية تجاه الاتفاقيات الدولية لحقوق الطفل لا تزال حبرًا على ورق، فالميثاق العالمي للهجرة والميثاق العالمي للاجئين، وكلاهما صادر عام 2018، يوصيان بضرورة حماية الأطفال بوصفهم فئة هشّة، ويدعوان إلى تقاسم المسؤوليات دوليًا، إلا أن الواقع العملي يكشف فجوة عميقة بين النصوص والتطبيق. وأضاف زهري أن غياب الإرادة السياسية وعدم تخصيص الموارد اللازمة يجعلان هذه الالتزامات أشبه بوعود خاوية، تتآكل أمام أول موجة من اللاجئين.
ودعا زهري، استنادًا إلى ما ورد في تقرير اليونيسف، إلى ضرورة إنشاء هيئة دولية متخصصة لحماية الأطفال المهاجرين، تُنسّق الجهود بين الدول والمنظمات الحقوقية، وتتابع حالات الأطفال المفقودين والمحتجزين، وتضع قاعدة بيانات شاملة ترصد أوضاعهم من نقطة الانطلاق حتى نقطة الوصول، مرورًا ببلدان العبور.
وأكد أن الوصول إلى الشاطئ الأوروبي لا يعني نهاية المعاناة، بل كثيرًا ما يكون بداية لنوع جديد من الحرمان، حيث يُحرم الأطفال من التعليم والرعاية الصحية بسبب "الوضع غير القانوني"، ويُتركون لمصير نفسي مجهول، إذ تشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى أن 40% من الأطفال اللاجئين يعانون من اضطرابات نفسية شديدة، تحتاج إلى تدخل متخصص.
وقال زهري، إن ما نراه اليوم هو مأساة تُقاس بالأرقام، لكن خلف كل رقم طفل له اسم، وحلم، وضحكة كان من الممكن أن تستمر، حين تُختزل الطفولة في جدول إحصائي أو ملف إداري، نفقد جزءًا من إنسانيتنا، وإن لم نتحرك –سياسيًا وأخلاقيًا– لإعادة تعريف سياسات الهجرة من منظور إنساني، فإننا لا نحمي حدودنا فحسب، بل نُغلق أبواب الرحمة أمام من يحتاجون إليها أكثر من أي وقت مضى.. فحين يكون الطفل هو الضحية الأولى لا يجوز أن نغضّ الطرف، بل يجب أن نحاسب ضمير العالم.
حماية الأطفال المهاجرين
قالت بسمة فؤاد، المتخصصة في قضايا الهجرة غير النظامية، إن وقف نزيف الهجرة غير النظامية للأطفال نحو أوروبا لا يمكن أن يتحقق عبر الشعارات أو الأمنيات، بل يتطلب قرارات سياسية شجاعة تعترف بأن جذور المشكلة تتجاوز الحدود والأسلاك الشائكة، وأن المعالجة الحقيقية يجب أن تبدأ من عمق الأسباب، لا من قشور النتائج. فالهجرة غير النظامية للأطفال ليست مجرد خرق لقانون حدودي، بل هي نتاج اختلالات اقتصادية، وتهاوي شبكات الحماية، وفقدان الأمل في المستقبل داخل مجتمعاتهم الأصلية.
وأضافت فؤاد، في تصريحات لـ"جسور بوست": دعم برامج اقتصادية حقيقية في المناطق المصدّرة للهجرة، لا سيما في دول إفريقيا جنوب الصحراء ومنطقة الشرق الأوسط، يشكّل المفتاح الأهم لتقليص أعداد الأطفال المغادرين.
لكنها شددت على أن هذا الدعم يجب ألّا يكون على هيئة منح طارئة أو مساعدات موسمية، بل من خلال استثمارات استراتيجية مباشرة في التعليم، والتدريب المهني، وخلق فرص تشغيل ترتبط مباشرة باحتياجات الأسواق الأوروبية، بحيث يرى الطفل أفقًا في بلده لا على شاطئ مجهول.
وأوضحت أن منع الأطفال من السفر لا يعني مجرد إغلاق الحدود، بل يستلزم سياسات داخلية حازمة في دولهم، تجرّم استغلال الأطفال من قبل سماسرة الهجرة، وتُفعّل قوانين تعاقب الأسر التي تدفع بأطفالها نحو المجهول.
وأشارت إلى ضرورة إطلاق حملات توعية محلية تستهدف الأسر في القرى والمناطق التي تشكّل بؤرًا لانطلاق موجات الهجرة، مع تقديم قصص واقعية عن المخاطر التي يتعرض لها الأطفال، لتكون صادمة بما يكفي لردع الاندفاع غير المحسوب نحو البحر.
وشددت فؤاد على أن بداية الحل لا بد أن تكون بالاعتراف القانوني والإنساني بأن هؤلاء الأطفال ليسوا "غير شرعيين" بل هم "ضحايا وضع غير نظامي"، ويجب معاملتهم على هذا الأساس.
ودعت إلى إنشاء مراكز استقبال بإشراف منظمات دولية محايدة كالصليب الأحمر أو اليونيسف، لضمان الشفافية والحد من الانتهاكات التي تقع في مراكز تشبه السجون، موضحة أن بعض هذه المراكز، خصوصًا في إيطاليا، تعاني من ضعف في التأمين إلى درجة أن الأطفال يهربون منها بسهولة، وأحيانًا بتواطؤ ضمني من الإدارات المحلية التي تسعى إلى تقليص التكلفة بدلًا من تأهيل الأطفال وحمايتهم.
وأكدت أهمية الربط بين وزارات الصحة، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والداخلية، في الدول المستقبلة، من خلال سياسات موحدة لا تعمل في جزر معزولة، بل تتكامل في مسار حماية موحد. كما دعت إلى اعتماد نهج الدمج التدريجي للأطفال في المجتمع الأوروبي، بدلًا من الحلول الأمنية أو الترحيل السريع، مشيرة إلى أن إشراك المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية في رسم السياسات يعد ضرورة لا رفاهية.
واعتبرت فؤاد أن التنسيق بين الدول يجب أن يتخطى تبادل المعلومات الاستخباراتية، ليصل إلى التزام قانوني شامل عبر توقيع ميثاق دولي إلزامي لحماية القُصَّر، يخضع لإشراف أممي مباشر، وتصدر عنه تقارير دورية معلنة تُحاسب الدول المقصّرة.
ودعت إلى إنشاء مكاتب أمنية مشتركة في مناطق العبور، مثل ليبيا وتونس ومصر، تُعنى بتفكيك شبكات تهريب الأطفال، وإنشاء قاعدة بيانات موحدة أوروبية-إفريقية لرصد الأطفال غير المصحوبين ومتابعة أوضاعهم.
وختمت فؤاد حديثها، قائلة، إن إنقاذ هؤلاء الأطفال لا يجب أن يكون خيارًا سياسيًا، بل واجبًا أخلاقيًا وإنسانيًا، لأن كل طفل يُنتزع من بين أمواج المتوسط هو في الحقيقة فرصة أخيرة لإنقاذ ضمير العالم.