بحثا عن الحياة.. جاسم يهرب من قصف إدلب إلى قيود اللجوء في تركيا

بحثا عن الحياة.. جاسم يهرب من قصف إدلب إلى قيود اللجوء في تركيا

في قرية صغيرة بريف إدلب، كان محمود جاسم (24 عامًا) يحلم بأن يصبح مهندسًا، لكن الحرب حولت أحلامه إلى ركام، بعد أن دمرت غارة جوية منزله عام 2019، وجد نفسه يعيش تحت الخيام مع أسرته، بلا عمل ولا مستقبل

قال في تصريحاته لـ"جسور بوست"، "كنت أرى الموت كل يوم، إما بقصف أو بجوع"، يقول محمود بصوت مرتجف، لم يكن يعلم أن رحلته للنجاة ستعرضه لأنواع أخرى من الموت، أكثر قسوة وأشد إيلامًا. 

باع محمود قطعة الأرض التي ورثها عن أبيه بـ3,000 دولار، ثمنًا لتذكرة عبور غير مضمونة إلى تركيا عبر البحر "كانوا يقولون إن الرحلة آمنة، وأننا سنصل في 4 ساعات فقط"، لكن الحقيقة كانت أبعد ما تكون عن ذلك، في ليلة باردة من فبراير 2020، وجد نفسه مع 15 شخصًا في قارب مطاطي صغير يحمل من فلتوا من رصاص خفر السواحل بإعجوبة بينهم نساء وأطفال.. 

يروي محمود قصته فيقول، لم تكن الأمواج العاتية فقط هي القاتل، بل رصاص خفر السواحل أيضًا. "سمعت أصوات الرصاص فجأة، ثم انقلب القارب رأيت أطفالًا يغرقون أمامي، ولم أستطع إنقاذ أحد"، يقول محمود، فقدت ثلاثة من أصدقائه في تلك الليلة طاردتنا الزواحف وأكلنا البرد وابتز القائمين على تهجيرنا النساء، جوعى إلى وجهة غير مضمونة.

وفقًا لتقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" (2023)، فإن خفر السواحل التركي واليوناني قاما بـ2,300 عملية صدٍ عنيفة ضد قوارب المهاجرين بين 2020-2023، ما تسبب في مقتل 489 شخصًا على الأقل. 

بعد 12 ساعة من التيه في البحر، وصل محمود إلى شاطئ تركيا منهكًا، لكنه حي، لكن النجاة من البحر لم تكن نهاية المعاناة، "اختبأت في الغابات لأيام، خائفًا من الشرطة، كنت آكل من القمامة وأشرب مياه الأمطار"، يروي في تركيا، يعيش أكثر من 3.7 مليون لاجئ سوري، 72% منهم تحت خط الفقر، وفقًا للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين (2023). 

عمل محمود في الزراعة مقابل أجر زهيد دون أوراق، معرضًا نفسه للاعتقال في أي لحظة، "كانوا يهددوننا بالترحيل إذا طالبنا بحقوقنا"، يقول لكن الأسوأ جاء عندما أوقفته الشرطة التركية في طريق عمله عام 2021 "لم أعطِ أي فرصة للاستئناف، وضعوني في حافلة مع عشرات الآخرين، وأعادوني إلى سوريا بالقوة" 

العودة إلى سوريا كانت أشبه بالعودة إلى الجحيم، "وجدت قريتي مدمرة، والألغام في كل مكان"، يقول محمود، وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن 14% من الأراضي السورية لا تزال ملوثة بالألغام، ما يتسبب في مقتل أو إصابة 200 شخص شهريًا أما البطالة، فتبلغ 78% بين الشباب في المناطق المحررة، بحسب إحصائيات الأمم المتحدة (2023). 

نموذج لأزمة عالمية

قصة محمود ليست استثناءً، بل نموذجًا مصغرًا لأزمة عالمية، ففي عام 2023، سجلت منظمة الهجرة الدولية أكثر من 8,000 حالة وفاة خلال الهجرة غير النظامية حول العالم، 35% منها في البحر الأبيض المتوسط، الأرقام الرسمية لا تعكس الحقيقة الكاملة، إذ يُعتقد أن العدد الحقيقي قد يصل إلى ضعف هذا الرقم، بسبب اختفاء آلاف الأشخاص دون أثر. 

في تركيا، يعيش 4 ملايين لاجئ، 3.7 مليون منهم سوريون. لكن 68% منهم يعملون في الاقتصاد غير الرسمي، دون أي حماية قانونية، وفقًا لتقرير "معهد أبحاث الهجرة التركي" (2023). أما في لبنان، فإن 89% من اللاجئين السوريين يعيشون تحت خط الفقر المدقع، بحسب مفوضية اللاجئين. 

وتحولت سياسات الهجرة في العديد من الدول إلى آليات عنف منهجي،  ففي الولايات المتحدة، كشفت وثائق وزارة الأمن الداخلي عن فصل أكثر من 5,500 طفل عن ذويهم على الحدود بين 2017-2021. وفي أوروبا، تنفق الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أكثر من 2 مليار يورو سنويًا على تعزيز الحدود، وفقًا لـ"مرصد الهجرة الأوروبي". 

ولكن الصادم في الأمر هو ما كشفته منظمة "أطباء بلا حدود" من تعذيب منتظم للمهاجرين في ليبيا "50% من المرضى الذين نعالجهم تعرضوا للتعذيب"، يقول تقرير المنظمة (2023). 

قصص مقاومة في المنفى

رغم القسوة التي تحيط برحلة اللاجئين، تبرز بين الحين والآخر قصص مقاومة تثبت أن الإرادة الإنسانية قادرة على تحويل المعاناة إلى إنجاز ففي برلين، استطاع خالد توفيق، اللاجئ السوري الذي وصل ألمانيا عام 2015 بعد رحلة هروب محفوفة بالأخطار، أن يحول خبرته الهندسية إلى مشروع تنموي مبتكر. 

أسس توفيق شركة "جرين هورايزون" المتخصصة في حلول الطاقة المتجددة، والتي توظف اليوم أكثر من 200 شخص، 40% منهم من اللاجئين، هذه النجاحات ليست معزولة، فوفقاً لتقرير "الغرفة التجارية الألمانية" 2023، أسس اللاجئون في ألمانيا أكثر من 12,000 شركة ناشئة منذ 2015، أسهمت بما يقارب 4 مليارات يورو في الاقتصاد الألماني.

وفي العاصمة الأردنية عمان، تحولت سميرة أحمد من لاجئة سورية تعيش على المساعدات الإنسانية إلى رائدة أعمال في مجال الأزياء. بدأت سميرة مشروعها من خيمة في مخيم الزعتري باستثمار لا يتجاوز 500 دولار، واليوم تدير علامة "سيريوس" للأزياء التي توظف 35 امرأة لاجئة وتصدر منتجاتها إلى 5 دول عربية.

تقول سميرة: "الهجرة لم تسلب منا أحلامنا، بل أعطتنا فرصة لإثبات أن اللاجئ يمكن أن يكون منتجاً إذا أتيحت له الفرصة". 

وهذه النماذج تؤكدها دراسة أجرتها "منظمة العمل الدولية" 2023، والتي بينت أن 68% من اللاجئين السوريين في الأردن وتركيا يمتلكون مهارات يمكن تحويلها إلى مشاريع منتجة إذا توفر التمويل الكافي.

إعادة تشكيل النظام الدولي

يتطلب الخروج من هذه الأزمة الإنسانية المزمنة مقاربة شاملة تتجاوز سياسات الترقيع المؤقت، فقد اقترح الخبراء في مجال الهجرة واللجوء 3 ركائز أساسية لإصلاح النظام الحالي.

أولاً، إصلاح نظام اللجوء الدولي عبر اعتماد آلية توزيع عادلة للحصص بين الدول، بناءً على معايير اقتصادية وسكانية واضحة، فحسب تقديرات "المفوضية السامية للاجئين"، لو التزمت الدول الغنية باستقبال 0.1% فقط من سكانها كل عام، لتم حل أزمة إعادة التوطين بالكامل. 

ثانياً، إقامة آليات دولية ملزمة لمحاسبة الدول التي تنتهك حقوق المهاجرين، على غرار المحكمة الجنائية الدولية. 

ثالثاً، التركيز على معالجة الأسباب الجذرية للهجرة عبر استثمارات تنموية طموحة في بلدان المنشأ دراسة مشتركة بين "البنك الدولي" و"برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" توصلت إلى أن كل دولار يستثمر في التنمية المستدامة بمناطق النزاع، يوفر 4 دولارات من تكاليف إدارة أزمات الهجرة لاحقاً.

العالم أمام مرآة قاسية

قصة محمود جاسم وأمثاله تضع العالم أمام مرآة قاسية، تسائل ضمير الإنسانية الجماعي.. كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يتغنى بحقوق الإنسان، في حين يموت آلاف الأشخاص سنوياً على أبواب الدول الغنية؟ 

وتكشف الإحصاءات الصادمة التي توثقها "منظمة الهجرة الدولية" أن أكثر من 50,000 مهاجر ولاجئ فقدوا حياتهم منذ عام 2014 أثناء محاولتهم الوصول إلى أماكن آمنة، 30% منهم أطفال.

هذه الأرقام ليست حصيلة كوارث طبيعية، بل نتيجة سياسات متعمدة تضع الحواجز أمام حركة البشر، في حين تفتح الحدود أمام تدفق السلع ورؤوس الأموال.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية