«نيويورك تايمز»: تراجع الالتزام العالمي يُسهم في استسلام العالم لتغير المناخ
«نيويورك تايمز»: تراجع الالتزام العالمي يُسهم في استسلام العالم لتغير المناخ
شنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال 3 أشهر فقط، حملة ممنهجة ضد التزامات بلاده المناخية، في سلوك فاجأ المراقبين بحدته وتوقيته، ففي مرحلة ما قبل الانتخابات الرئاسية، حذرت التحليلات من أن عودة ترامب إلى السلطة قد تؤدي إلى إطلاق 4 مليارات طن إضافية من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بحلول عام 2030، ذلك يعني عمليًا التخلي عن تعهدات الولايات المتحدة في اتفاقية باريس للمناخ، ما يشكل انتكاسة قد تُجهض التوافق العالمي على مواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري.
وفي هذا الصدد، ذكر الكاتب الأمريكي صاحب كتاب "الأرض غير الصالحة للسكن"، ديفيد والاس ويلز، في مقال نشرته صحيفة "نيويورك تايمز"، الأربعاء، أن ترامب لم يكتفِ بالانسحاب من الالتزامات، بل تجاوز المخاوف السابقة بأسوأ من المتوقع، فاستهدف مكتب برامج القروض في وزارة الطاقة، وضغط على حلفاء واشنطن لزيادة وارداتهم من الغاز الطبيعي الأمريكي، واستخدم المناخ كسلاح في حربه التجارية، كذلك قلّص دعم الطاقة المتجددة، محذرًا من أثر قانون خفض التضخم الذي اقترحه الرئيس بايدن، وهو القانون الذي يُعدّ من أكبر المبادرات الأمريكية لتعزيز الاستثمارات في الطاقة الخضراء.
تجميد البحوث المناخية
واصلت إدارة ترامب الضغط على الوكالات العلمية، فقيّدت عمل الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، وعطّلت عمل هيئة الأرصاد الجوية الوطنية.
وخفّضت التمويل الحكومي للأبحاث المناخية، ما أحدث حالة من الانكماش في برامج جامعية ومبادرات عامة عديدة، حتى البرنامج الذي كان يروّج له ترامب نفسه سابقًا لزراعة الأشجار كمخرج من أزمة المناخ، تمّت التضحية به في ولايته الثانية.
وعمدت إدارة ترامب أيضًا إلى عرقلة الجهود المحلية، حيث حاولت منع الولايات من تطبيق خططها المستقلة لخفض الانبعاثات، ما مثّل ردًا معاكسًا لمقاربة إدارة بايدن التي افتخرت بتبني "استجابة شاملة" لتغير المناخ، ولكن هذا الردّ لم يكن مجرد قرار سياسي، بل موجة كاملة من الانسحاب المؤسسي من المعركة المناخية.
العالم يُطبّع مع الكارثة
في السنوات الأخيرة، بدا أن العالم يسير على طريق الإدراك الجماعي لأهمية التصدي لتغير المناخ، إذ زاد الزخم الثقافي والسياسي، وأُدرجت سياسات المناخ في برامج الحكومات الكبرى، لكن الأزمات المتتالية، من جائحة كوفيد-19 مرورًا بالتضخم وصولًا إلى الحروب وارتفاع أسعار الفائدة، قلبت الأولويات.
تفاقمت أزمات المعيشة والديون، وبدأ قادة العالم يتعاملون مع التغير المناخي بوصفه "حقيقة لا مفر منها"، بدلًا من كونه خطرًا ينبغي تفاديه.
وفي أوروبا، تراجع الحماس لاتفاق الصفقة الخضراء، بعد أزمة الطاقة التي فجّرها الغزو الروسي لأوكرانيا، وفي بريطانيا بدأ نقاش رسمي حول التخلي عن الالتزامات القانونية لبلوغ صافي انبعاثات صفرية، أما في المكسيك فشرعت الرئيسة الجديدة في بناء بنية تحتية للوقود الأحفوري، وفي كندا كان أول قرار لرئيس الوزراء الجديد مارك كارني هو إلغاء ضريبة الكربون.
انحدار السياسات المناخية
شهدت الفترة من 2019 إلى 2021 طفرة غير مسبوقة في السياسات المناخية، حيث اعتمدت الحكومات أكثر من 300 سياسة سنويًا للتخفيف من آثار التغير المناخي، لكن هذا الزخم تراجع تدريجيًا، فسُجّلت أقل من 200 سياسة في عام 2023، وأقل من 50 في 2024.. هذا الانحدار يعكس فقدان الزخم العالمي الذي ساد في أعقاب توقيع اتفاقية باريس، عندما كان الحفاظ على الارتفاع الحراري دون درجتين مئويتين يُعدّ إنجازًا تاريخيًا.
وحتى التحالفات المالية التي بُنيت لدعم المناخ بدأت تتفكك؛ تحالف غلاسكو المالي لأجل صافي الانبعاثات الصفرية، الذي أسسه كارني، شهد انضمام 100 عضو مصرفي في عامه الأول، لكنه لم يضمّ سوى أقل من 10 أعضاء جدد في العام الماضي، وفقد عددًا من أكبر أعضائه مثل جي بي مورغان، بلاك روك، وغولدمان ساكس.
ولم تقتصر علامات التراجع على السياسات، بل وصلت إلى لغة الخطاب نفسها، فقد انخفض ذكر البيئة في تقارير الشركات المدرجة بمؤشر "ستاندرد آند بورز 500" بنسبة 76% في الربع الأول من 2025 مقارنةً بعام 2020، وأصبح الممولون يتحدثون عن التكيف مع عالم أكثر حرارة، بدلاً من الاستثمار في حلول مناخية.
وأشار تقرير صادر عن "مورغان ستانلي" إلى أن أهداف اتفاقية باريس باتت بعيدة المنال، بسبب تضافر عوامل مثل الشعبوية والتضخم وارتفاع تكلفة التمويل، وخلصت تقارير من "جي بي مورغان" ومعهد التمويل الدولي إلى النتيجة نفسها.
انحسار الأمل في التحول الأخضر
أمام هذا التراجع، تبدو مقترحات بعض المؤسسات أقرب إلى الاستسلام، فقد أطلق مجلس العلاقات الخارجية مبادرة "الواقعية المناخية"، التي تقترح التخلّي عن هدف حصر الاحترار العالمي في درجتين مئويتين، والاستعداد لارتفاع قد يصل إلى ثلاث درجات أو أكثر، بينما تساءل بعض المحللين: إذا تخلينا عن 1.5 درجة، فهل نقبل بثلاث درجات؟
هذا الطرح، وإن بدا واقعيًا، يطرح معضلة أخلاقية لا يمكن تجاهلها، فلا يزال العالم يملك القدرة، من الناحية التقنية، على خفض الانبعاثات، فبحسب تقرير لمنصة "فوكس"، تضاعفت السعة العالمية السنوية لمنشآت الطاقة الشمسية منذ عام 2021، وبلغت الاستثمارات في التحول الطاقي تريليوني دولار سنويًا، وساهمت مصادر الطاقة المتجددة في 92.5% من إجمالي الطاقة الكهربائية الجديدة في العام الماضي.
ورغم هذا التقدم، يتبدى خطر أكبر: أن يفقد العالم إرادته الجماعية، لا قدراته التقنية، وأن الاستسلام لتغير المناخ ليس قدرًا محتومًا، بل نتيجة لتقاعس سياسي ومالي وأخلاقي، وبينما تعاني الحكومات من تحديات اقتصادية آنية ينبغي ألّا تتخلى عن الأهداف المناخية طويلة المدى، فقد تُكلّف الكارثة المناخية العالم أكثر مما يظن، اقتصاديًا وبشريًا، وإنسانيًا.