مراكز احتجاز اللاجئين.. موت بطيء على هامش الحدود

مراكز احتجاز اللاجئين.. موت بطيء على هامش الحدود
الهجرة غير الشرعية - أرشيف

في قلب البحر الأبيض المتوسط، حيث تلتقي المياه الزرقاء مع الحدود البرية للدول، يبرز مشهد إنساني مؤلم يتجاوز حدود الفهم والتصور، وفي هذه البقعة الجغرافية المتشابكة بين ليبيا واليمن وتونس، يواجه أكثر من 600 ألف لاجئ ومهاجر مصيرًا قاتمًا بالإهمال القسري، حيث تُسلب منهم أبسط حقوق الإنسان ويعيشون في ظروف احتجاز غير آدمية. 

وفقًا لأحدث تقديرات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (يونيو 2024)، يعاني هؤلاء الأفراد من مآسٍ يتجاوز ظلمها الحدود، بينما يواصل العالم تجاهله لتلك الفظائع التي تجري على مرأى ومسمع الجميع.

وتحت شعاع الشمس الحارقة في شمال إفريقيا، تتكاثر مراكز الاحتجاز التي تضم اللاجئين والمهاجرين الهاربين من جحيم الحروب والأزمات الاقتصادية في ليبيا، أصبحت هذه المراكز سوقًا غير قانوني، حيث تتقاطع فيها الأزمات الإنسانية مع مكاسب مالية ضخمة. 

وفقًا لوثائق مسربة من وزارة الداخلية الليبية في مايو 2024، تجاوزت عائدات مراكز الاحتجاز غير الرسمية 75 مليون دولار خلال العام الماضي فقط، هذه الأموال تأتي من مصادر متعددة، مثل المساهمات الحكومية التي تبلغ حوالي 3 دولارات يوميًا لكل محتجز، بالإضافة إلى الأموال التي يدفعها الأهالي للإفراج عن ذويهم، والأرباح التي يتم تحصيلها من تجارة البشر التي تُدار بشكل شبه علني. 

وتكشف هذه الوثائق النقاب عن تجارة لا إنسانية تنشط على الأراضي الليبية، حيث تدير أكثر من 60% من هذه المراكز ميليشيات محلية، تتعاون مع الحكومة بشكل رسمي، وفقًا لتقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" في أبريل 2024.

ويظهر هذا الواقع الفوضوي بشكل أكثر وضوحًا في تقارير منظمة العفو الدولية التي أُصدرت في مارس 2024، حيث تكشف عن تورط جماعة الحوثي في اليمن في عمليات مشابهة، إذ تجني الجماعة ما لا يقل عن 20 مليون دولار سنويًا من "ضريبة الخروج" التي تفرضها على اللاجئين الأفارقة، في ظل غياب أي آلية للحماية القانونية، وازداد الوضع سوءًا عندما تحول النساء والأطفال إلى سلعة قابلة للبيع في "سوق النخاسة" الحديثة، حيث تُباع النساء بمبلغ 250 دولارًا، بينما يتم بيع الأطفال دون الثانية عشرة بمبلغ 150 دولارًا، وفقًا لتحقيقات شبكة "سي إن إن" في فبراير 2024.

الفوضى المنظمة

لم تعد مراكز الاحتجاز في ليبيا وتونس مجرد أماكن لاحتجاز المهاجرين، بل تحولت إلى مساحات تزدحم بالفوضى المنظمة، حيث يُستغل المحتجزون في عمليات تهريب وبيع بشر، دون أدنى اعتبار للحد الأدنى من الحقوق الإنسانية. في ليبيا، وفقًا لبيانات منظمة "ميديكو إنترناشونال" في يناير 2024، لا تطبق 85% من مراكز الاحتجاز أي معايير للفصل بين اللاجئين والمجرمين أو المهربين، ما يؤدي إلى تصاعد مستوى العنف. الإحصائيات تُظهر أن 7 من كل 10 لاجئين يتعرضون للعنف الجسدي داخل هذه المراكز، وأن واحدة من كل ثلاثة نساء تتعرض للعنف الجنسي أثناء الاحتجاز، وفقًا لإحصاءات المفوضية السامية لحقوق الإنسان في ديسمبر 2023.

وتُظهر التحقيقات الصحفية التي أجرتها "نيويورك تايمز" في نوفمبر 2023 أن الوضع في تونس لا يختلف كثيرًا عن ليبيا، حيث كشفت هذه التحقيقات عن شبكة معقدة من التواطؤ بين المسؤولين التونسيين وسماسرة العمل، إذ يتم تحويل أكثر من 40% من المحتجزين في المراكز العسكرية إلى العمل القسري في مزارع وورش بناء، مقابل أقل من دولارين يوميًا. هذه الممارسات القسرية تتم تحت إشراف ورعاية الأجهزة الأمنية، التي تحصل على نسبة تصل إلى 30% من أرباح السماسرة، وفقًا لاعترافات مسؤول سابق في وزارة الداخلية التونسية.

ورغم أن هذه الانتهاكات تحدث أمام أعين الجميع، إلا أن جدار الصمت الذي يحيط بهذه المراكز يمنع وصول الحقائق إلى الرأي العام في ليبيا، أصدرت الحكومة قانونًا في عام 2022 يُجرم دخول الإعلاميين إلى مراكز الاحتجاز ويعاقب بالسجن لمدة تصل إلى 5 سنوات، وهذه الخطوة، كما تشير التقارير، جعلت من الصعب على المنظمات الدولية والإعلام الوصول إلى هذه الأماكن، ما أدى إلى أن أقل من 5% من مراكز الاحتجاز في ليبيا تمكّنت من زيارة المنظمات الدولية منذ عام 2020، وفقًا لتقارير "منظمة مراقبة حقوق الإنسان" في أكتوبر 2023.

وفي اليمن، حيث يواصل النزاع العنيف بين الأطراف المتصارعة، أصبحت عمليات التوثيق أكثر صعوبة، كما تشير "مراسلون بلا حدود" في تقريرها الصادر في سبتمبر 2023، إذ سجلت مقتل 12 صحفيًا واختفاء 18 ناشطًا حقوقيًا أثناء محاولاتهم توثيق الانتهاكات داخل مراكز الاحتجاز. وحتى الأمم المتحدة تجد نفسها مجبرة على تعليق بعض برامج المساعدات الإنسانية بسبب اكتشاف استخدامها كغطاء لعمليات الاتجار بالبشر.

التواطؤ الدولي

تشير الوثائق المسربة من الاتحاد الأوروبي في يوليو 2023 إلى أن أكثر من 80 مليون يورو من أموال المساعدات الإيطالية التي كانت مخصصة لليبيا قد انتهت في جيوب الميليشيات التي تدير مراكز الاحتجاز.

ويكشف هذا الأمر عن التواطؤ بين الدول الأوروبية وحكومة ليبيا في دعم مراكز الاحتجاز، ما يعمق من هذه المأساة الإنسانية، والمفارقة الأكبر هي أن بعض الدول الأوروبية، التي تدعي دعمها لحقوق الإنسان، تستخدم اللاجئين كورقة ضغط سياسي، كما حدث في مايو 2023 عندما سمح المغرب بتسريب 12 ألف لاجئ إلى سبتة ومليلية في سياق نزاع سياسي مع إسبانيا.

ورغم القتامة التي يحيط بها هذا الملف، إلا أن هناك بعض المبادرات التي قد تمثل أملًا في التصحيح والمحاسبة، المحكمة الجنائية الدولية بدأت في مارس 2024 التحقيق في جرائم ضد الإنسانية في مراكز الاحتجاز الليبية، وهي خطوة مهمة نحو تقديم المسؤولين إلى العدالة. أيضًا، تمكنت منظمة "أرشيف حقوق الإنسان" من توثيق أكثر من 500 حالة انتهاك باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، ما يعزز من قدرة المجتمع الدولي على ملاحقة هذه الانتهاكات.

وبدأت بعض الدول الاسكندنافية في اتخاذ خطوات جادة لإعادة توطين ضحايا هذه المراكز مباشرة دون المرور عبر الحكومات المحلية التي غالبًا ما تكون شريكًا في الجريمة، ما يوفر لهم فرصة بداية جديدة بعيدًا عن الظروف القاسية التي مروا بها.

تهديد للأمن القومي

أكد الدكتور محمد المصباحي، رئيس ديوان المجلس الأعلى لمشايخ وأعيان ليبيا، أن بلاده تواجه واحدة من أخطر الأزمات التي تهدد نسيجها الاجتماعي وأمنها القومي، نتيجة ما وصفه بـ"الإغراق المنظم" بالمهاجرين غير الشرعيين، وخاصة في مناطق الجنوب الليبي، مشيرا إلى أن منظمات دولية – تُعرف بالاسم – تقود هذا التوجه بشكل منهجي، مستغلة هشاشة الوضع الأمني والسياسي في ليبيا، بهدف إعادة توطين هؤلاء المهاجرين داخل البلاد، بما يحوّل ليبيا إلى منطقة عبور واستيطان دائم، بدلاً من كونها مجرد محطة مؤقتة في طريق الهجرة إلى أوروبا.

وأوضح المصباحي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن المواطن الليبي هو الضحية الأولى لهذا الواقع المرير، إذ يعاني في معيشته اليومية، بينما تُنفق ملايين الدولارات على المهاجرين غير الشرعيين من قبل منظمات وهيئات أجنبية، هذه الأموال –بحسبه– لا تذهب لمعالجة أصل المشكلة، بل تُسهم في تكريسها، الأمر الذي دفع السلطات الليبية إلى إلغاء تراخيص عدد من الجهات والمنظمات التي ثبت تورطها في أنشطة مشبوهة ضمن هذا الملف.

وأضاف أن ما يحدث اليوم ليس مجرد عبور بريء لمهاجرين يبحثون عن فرصة حياة أفضل، بل هو إدخال منظم لعناصر أسهمت بشكل مباشر في تزايد معدلات الجريمة والفوضى داخل ليبيا، فقد سجلت الأجهزة الأمنية الليبية ارتفاعاً غير مسبوق في الجرائم الجديدة على المجتمع الليبي، مثل الاعتداءات المسلحة، والعمليات الإرهابية، وتشكيل العصابات المنظمة، وهي ظواهر دخيلة على التركيبة الاجتماعية الليبية.

ولفت إلى أن بعض هؤلاء المهاجرين استغلوا الفوضى السياسية التي تمر بها دولهم، واستثمروا غياب الرقابة الرسمية في بلدانهم وفي ليبيا، من أجل اختراق الحدود والاندماج في مجتمعات محلية هشة، ما أدى إلى نشوء مشكلات صحية واجتماعية حادة، بما في ذلك انتشار أمراض معدية، وانعدام الأوراق الثبوتية، ما يُنتج تمييزاً وعوائق حقيقية أمام إدماجهم أو إعادتهم لبلدانهم الأصلية.

وأكد المصباحي أن ليبيا لا تنكر وجود مكوّنات متعددة داخل نسيجها الوطني، وهي بلد يتعايش فيه الجميع بلا تمييز، ويحترم اختلاف الأصول والجنسيات، لكن استمرار الوضع الحالي يُعد تهديداً مباشراً لسيادة الدولة وأمنها، وفي هذا الإطار، فعلت الدولة الليبية عدداً من الإجراءات الميدانية من خلال شرطة مختصة تعمل على ترحيل المخالفين، كما يتم تنظيم حلقات نقاش ومؤتمرات محلية لتعزيز التعاون بين الجهات العسكرية والمدنية والشرطية، ضمن استراتيجية وطنية تسعى إلى السيطرة على هذا الملف الشائك والتعامل معه بما يضمن أمن البلاد وكرامة الإنسان.

قنابل موقوتة تهدد الدول

في تصريح تحليلي يعكس عمق التهديدات التي تواجه الدول الواقعة في بؤر الصراع، أكد الدكتور فتحي قناوي، أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، أن ظاهرة الهجرة غير الشرعية في مناطق النزاع، مثل ليبيا واليمن، تتجاوز كونها مجرد حركة بشرية فارّة من الفقر أو العنف، بل باتت تمثل أداة خطرة في إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية والاجتماعية في هذه الدول، وتُستخدم في كثير من الأحيان كوقود للصراعات الإقليمية والدولية.

وأوضح قناوي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن ما يحدث في هذه الدول لا يمكن تصنيفه بالهجرة أو اللجوء التقليدي، فغياب مؤسسات الدولة وسيطرة الفوضى الأمنية فتح الباب أمام قوى داخلية وخارجية لاستغلال الفوضى. ففي ليبيا، التي كانت من أغنى الدول العربية، لم يعد البحر ولا الصحراء يشكلان عوائق أمام تدفقات بشرية غير خاضعة لأي رقابة، وهو ما ينطبق كذلك على اليمن، التي باتت أراضيها الصحراوية مفتوحة أمام موجات من الداخلين عبر طرق غير مشروعة، تنتقل بعدها هذه الموجات إلى دول مجاورة تعاني هي الأخرى من هشاشة أمنية مماثلة.

وأضاف أن بعض الفصائل المسلحة في هذه الدول باتت تستجلب اللاجئين وتزجّ بهم في القتال ضمن صفوفها، ما يحوّل هؤلاء إلى "مرتزقة" لا تنطبق عليهم صفة اللجوء، ولا تُحفظ لهم أي حماية قانونية أو إنسانية. هذه المجموعات من المقاتلين الأجانب، التي لا تملك هوية ولا انتماء، تتحول بمرور الوقت إلى كيانات قائمة بذاتها، وتبدأ بتشكيل تجمعات مغلقة، سرعان ما تطالب بحصص في السلطة أو الأرض، وهو ما قد يؤدي لاحقاً إلى عمليات تقسيم فعلية للدول، كما حدث في جنوب السودان.

وأشار د. قناوي، إلى أن بعض القوى الإقليمية والدولية تدفع عمداً باتجاه تفجير هذه الأزمات من الداخل، ليس فقط لتقويض استقرار الدول، بل لفتح الطريق أمامها للسيطرة على الموارد الطبيعية والثروات، كما في حالة النفط الليبي أو الأراضي الزراعية في السودان، الذي كان يوصف سابقاً بـ"سلة الغذاء في إفريقيا".

ولفت إلى خطورة خلط المفاهيم بين اللاجئ، الذي يلجأ لأسباب إنسانية ويطلب الحماية، وبين المرتزق، الذي يُستقدم لأغراض قتالية مأجورة، مؤكداً ضرورة أن تميز الأنظمة السياسية والمؤسسات الدولية بين هؤلاء، سواء في المعالجة الأمنية أو الحقوقية، مشددا على أهمية وجود حكومات قوية قادرة على السيطرة على حدودها، وتطبيق سياسات أمنية صارمة، دون أن تفقد في الوقت نفسه البعد الإنساني في التعامل مع من يستحق الحماية.

واختتم حديثه قائلاً: "القضية أوسع وأخطر مما يراه العالم في تقارير موجزة، إنها ليست أزمة لاجئين فحسب، بل صراعاً على السيادة والهوية والمستقبل.. ومن لا يرى ذلك الآن سيدفع ثمن صمته لاحقاً".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية