مشانق صامتة لحرية الصحافة في إسرائيل.. كيف تئنّ هآرتس تحت سكين السلطة؟
مشانق صامتة لحرية الصحافة في إسرائيل.. كيف تئنّ هآرتس تحت سكين السلطة؟
تقف صحيفة "هآرتس"، أعرق منابر الصحافة الإسرائيلية، عند مفترق طرق خطير، وسط رياح عاتية من التحولات السياسية التي تدفع بالبلاد نحو مزيد من القمع والتضييق على الحريات، وبينما تتقدم الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو في مسارها نحو هيمنة قومية متشددة، تجد "هآرتس" نفسها في صراع وجودي، كآخر الأصوات الحرة التي لا تزال تجرؤ على قول الحقيقة.
ومنذ تأسيسها عام 1919، شكّلت "هآرتس" منصة للعقل النقدي وصوتاً مختلفاً وسط صحف سارت في ركب السلطة، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تصعيداً غير مسبوق في الضغط على الصحيفة، سياسيًا واقتصاديًا وقانونيًا وشعبيًا، في محاولة لإسكاتها، فقد انخفض توزيع الصحيفة بنسبة 38% خلال عام 2024، بحسب اتحاد الناشرين الإسرائيليين، كما خسرت أكثر من 60% من إعلاناتها الحكومية، وفق تقرير منظمة "حرية الصحافة في الشرق الأوسط" (مارس 2024)، هذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات مالية، بل تعكس سياسة ممنهجة لخنق قدرة الصحيفة على الاستمرار.
وتعود جذور الأزمة الحالية إلى تاريخ طويل من التغطيات الجريئة التي تميزت بها "هآرتس"، والتي لم تتردد في مواجهة الحكومات المتعاقبة وكشف الفساد والانتهاكات، مهما كانت تبعاتها.
وبلغ التصعيد ذروته في أكتوبر 2023، عندما نشرت الصحيفة تحقيقًا استقصائيًا فضح تورط وزراء في صفقات أراضٍ غير قانونية في الضفة الغربية، واستندت المحكمة العليا لاحقًا إلى التحقيق، ما أثار غضب الحكومة ودفع الكنيست إلى تقديم 15 مشروع قانون خلال شهرين لتقييد الصحافة الاستقصائية، حسب تسجيلات رسمية لجلسات ديسمبر 2023.
"صرخة إنسانية" بثمن باهظ
واصلت "هآرتس" السير عكس التيار خلال حرب غزة 2023، عندما غطت بانحياز إنساني معاناة المدنيين الفلسطينيين، ونشرت صورًا موثقة لقصف المدارس والمستشفيات، رد الفعل السياسي كان قاسيًا، حيث اتهم 72% من أعضاء الكنيست الصحيفة بـ"الخيانة الوطنية"، وفق استطلاع معهد "داهاف" (يناير 2024).
وتجاوزت حملة التضييق الحدود السياسية لتصل إلى المجال الثقافي، حيث عاقبت وزارة الثقافة الإسرائيلية دور النشر التي تتعاون مع الصحيفة بقطع 85% من منحها، بعد نشر "هآرتس" مقالات مترجمة لأدباء فلسطينيين، في محاولة لحماية التنوع الثقافي داخل الخط الأخضر.
اقتصاديًا، كشف تحقيق لصحيفة "كالكاليست" أن "هآرتس" خسرت 40 مليون شيكل من عائدات الإعلانات، بعد ضغط مباشر من وزارة المالية على الشركات الكبرى، حتى البنوك، مثل "ليومي"، تلقت تعليمات غير رسمية بمراجعة علاقاتها مع الصحيفة، بحسب وثيقة مسربة في نوفمبر 2023.
ولم تكتف السلطة بالضغط الاقتصادي، بل لجأت إلى سلاح القانون. منذ عام 2023، تواجه "هآرتس" 17 دعوى قضائية، تتضمن اتهامات مثل "إضعاف الروح المعنوية للجيش"، في ظل تعديلات تشريعية تسمح بمصادرة أجهزة الصحفيين الذين يغطون أحداث الضفة دون تنسيق مع الجيش.
أما الذراع الثالثة، فكانت التحريض الشعبي.. مجموعات يمينية متطرفة كـ"إم تورز" شنت حملات كراهية استهدفت الصحفيين العاملين في الصحيفة، وصلت إلى حد توثيق 320 تهديدًا بالقتل خلال ثلاثة أشهر فقط، وفق مركز مكافحة العنصرية الإسرائيلي.
انكماش إعلامي يهدد الديمقراطية
تراجع الصحافة الحرة ترك فراغًا واضحًا في تغطية الانتهاكات بالأراضي المحتلة؛ منظمة "بيتسليم" رصدت انخفاضًا بنسبة 65% في تقارير العنف ضد الفلسطينيين بين 2022 و2024، مع بقاء 80% من التقارير مصدرها "هآرتس" وحدها.
ويمتد الخطر إلى بنية الديمقراطية الإسرائيلية، إذ تشير نقابة المحامين إلى أن 90% من القضايا القضائية ضد مسؤولين حكوميين بُنيت على أساس تحقيقات صحفية. ومع إسكات المنابر المستقلة، تتراجع قدرة الرقابة والمساءلة بشكل مقلق.
تأثير هذا التراجع يتعدى حدود إسرائيل. فبحسب المركز الأوروبي للدراسات الاستراتيجية، فإن 70% من تقارير الإعلام الدولي تعتمد على مصادر إسرائيلية مستقلة، ومع تضييق الخناق على هذه المصادر، يفقد العالم نافذته لرؤية الحقيقة داخل إسرائيل.
تقرير "فريدوم هاوس" لعام 2024 حذّر من تحول إسرائيل إلى دولة منغلقة ذات مظاهر ديمقراطية شكلية، مع اختفاء جوهر التعددية الإعلامية.
الأخطر أن الصحفيين باتوا يمارسون رقابة ذاتية، إذ بيّن استبيان نقابة الصحفيين (فبراير 2024) أن 58% منهم يتجنبون التطرق لمواضيع حساسة. كما تراجعت نسبة الإسرائيليين الذين يرون في حرية الصحافة ركيزة للديمقراطية إلى 29% فقط، بعد أن كانت 61% عام 2014، وفق معهد الديمقراطية الإسرائيلي.
وفي هذا المناخ القاتم، تصبح معركة "هآرتس" دفاعًا عن أكثر من مجرد صحيفة؛ إنها معركة من أجل بقاء الحقيقة، ومن أجل منع سقوط آخر جسر يربط إسرائيل بالعالم الحر.
الاستقطاب الإعلامي في إسرائيل
قالت الباحثة المتخصصة في الشأن الإسرائيلي، إيمان بخيت، إن العزوف المتزايد عن صحيفة "هآرتس" من قِبل قطاعات واسعة من الإسرائيليين ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة تراكمات سياسية ومجتمعية وإعلامية تعكس طبيعة الانقسام العميق داخل المشهد الإعلامي الإسرائيلي.
وأضافت في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن فهم هذا العزوف يتطلب أولاً الإحاطة بتكوين الحقل الصحفي في إسرائيل، الذي يتميز بوضوح الاصطفاف الأيديولوجي. فهناك صحف ومؤسسات إعلامية تنتمي بوضوح إلى اليمين السياسي مثل "يسرائيل هيوم"، التي تحظى بدعم مباشر أو غير مباشر من تيارات يمينية حاكمة، وهناك أخرى تتبع التيار الديني المتشدد، بينما تقف "هآرتس" في الضفة المقابلة، ممثلة للتيار اليساري العلماني الذي يتعرض لهجوم دائم ومتصاعد في السنوات الأخيرة.
وأشارت بخيت إلى أن صحيفة "هآرتس"، بصفتها منبراً يسارياً، لا تكتفي بنقل الأحداث، بل تُمارس دوراً نقدياً تجاه السياسات الحكومية، خصوصاً ما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين. وهي من الوسائل القليلة التي لم تتردد في تسليط الضوء على الوضع الإنساني في غزة، منتقدة الخيارات العسكرية، داعية إلى الحوار والتفاوض كسبيل للخروج من دوامة العنف.
وقالت بخيت، لم يلقَ قبولاً لدى شريحة واسعة من الإسرائيليين الذين ما زالوا، في غالبيتهم، يرون في العمل العسكري وسيلة "مشروعة" للدفاع عن الدولة، بل ويعتبرون كل صوت ينتقد هذه العمليات بمثابة "طعنة في الظهر" أو خيانة وطنية.
وترى بخيت أن الحملة ضد "هآرتس" ليست مجرد رفض لمحتوى صحفي، بل هي انعكاس لمناخ استقطابي حاد يزداد شراسة يوماً بعد يوم داخل المجتمع الإسرائيلي. ففي بيئة بات فيها التعبير عن الرأي المخالف للتيار السائد مدعاة للهجوم الشخصي أو حتى التهديد، يصبح من السهل فهم دوافع هذه المقاطعة الممنهجة للصحيفة، التي لم تساير المزاج القومي أو تُهادن سرديات السلطة.
وفي ما يتعلق بعلاقة الإعلام المستقل بمؤسسات الحكم، تلفت بخيت إلى وجود صراع مستتر وظاهر في آنٍ معاً، تظهر ملامحه في الرقابة الخانقة التي تُمارس بشكل غير مباشر على المؤسسات الصحفية التي تحاول أن تحافظ على استقلالها.. فالحكومة لا تُصدر قرارات علنية بمنع النشر، لكنها تلجأ إلى وسائل ضغط قانونية وإدارية ومالية تضمن من خلالها السيطرة على السردية الإعلامية.
وأضافت بخيت أن الإعلام المستقل، في جوهره، يجب أن يُمثل سلطة رقابية تُسائل الأداء الحكومي وتفضح أوجه الفساد والانتهاكات، لكن في ظل التضييق الحالي، فإن مصداقية هذا الإعلام تتعرض للتآكل، حتى وإن لم يكن منتمياً رسمياً لأي جهة سياسية.. وبدلاً من أن تكون الصحافة جسراً بين الدولة والمجتمع، تحولت في كثير من الأحيان إلى ميدان للمواجهة ومحاولة البقاء، في مواجهة آلة ضخمة من الرقابة والاحتواء والتشويه.
وترى بخيت أن هذه الرواية ليست عفوية، بل هي جزء من استراتيجية إعلامية هدفها تحصين الجبهة الداخلية ومنع أي مساءلة شعبية لسياسات الحكومة خلال الحروب.. فحين تُعرض الحرب باعتبارها حرباً "نظيفة" لا تُصيب إلا "الأعداء"، تُغلق أي نافذة للنقاش الأخلاقي أو السياسي، وتُمنع محاسبة المسؤولين عن الجرائم. وفي ظل غياب إعلام مستقل قادر على كشف هذه الحقائق تترسخ الرواية الرسمية ويضيع صوت الضحايا وسط ضجيج التحريض والدعاية.
واختتمت بخيت تصريحها بالتأكيد على أن إسرائيل، في أوقات الأزمات، لا تعترف بحرية الرأي والتعبير إلا في إطار ضيق يسمح بترديد خطاب الدولة.. أما من يحاول أن يخرق هذا القيد فيواجه حصاراً من نوع آخر؛ ليس فقط مادياً أو قانونياً، بل أخلاقياً ومعنوياً، حيث يُنزع عنه الانتماء ويُصوَّر كعدو داخلي.. وفي هذا المشهد المأزوم، تصبح معركة الصحافة المستقلة ليست فقط مع السلطة، بل مع الشارع أيضاً، الذي بات أكثر ميلاً للصوت الواحد، وأقل تقبلاً للاختلاف.
تآكل الحريات في إسرائيل
أكدت الدكتورة رانيا فوزي، الخبيرة في الشؤون الإسرائيلية والمتخصصة في تحليل الخطاب الصهيوني، أن صحيفة "هآرتس" تعد أقدم صحيفة عبرية ظهرت في فلسطين قبل قيام دولة إسرائيل، وقد ارتبطت منذ نشأتها بتوجه يساري واضح، داعم للقضية الفلسطينية ومناصر لمبدأ حل الدولتين كخيار سلمي، يقوم على التنازل عن الأراضي المحتلة وإرساء أسس السلام القائم على العدل والاعتراف بالحقوق الفلسطينية.
وأشارت الدكتورة رانيا، في تصريحات لـ"جسور بوست" إلى أن إسرائيل، رغم إقرارها قانون حرية تداول المعلومات عام 1998 ودخوله حيّز التنفيذ في العام التالي، فإنها أبقت على رقابة عسكرية صارمة في ما يتعلق بكل ما يمس القضايا الأمنية، فبينما تسمح بنشر أخبار ذات طابع سياسي بنوع من الانفتاح والنقد، خاصة تجاه شخصيات بارزة كزعيم الليكود بنيامين نتنياهو، فإنها تمنع بحزم نشر أية معلومات تحمل طابعاً أمنياً حساساً قد يثير القلق أو يزعزع الثقة بالمؤسسات العسكرية.
وأضافت الدكتورة رانيا، أن صحيفة "هآرتس" نجحت عبر مسيرتها في كشف العديد من الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي، بما في ذلك مجازر ضد المدنيين الفلسطينيين، إضافة إلى تسليط الضوء على قضايا مثل القتل بنيران صديقة داخل الجيش، وفي محطات زمنية معينة، أبدت الصحيفة تضامناً مع الوضع الإنساني في غزة، حتى إنها انتقدت بشكل غير مسبوق سياسات الحصار الإسرائيلي، ما وضعها في مواجهة مباشرة مع التيار اليميني المتشدد الذي ينظر إلى الإعلام الحر والناقد كتهديد داخلي أخطر من التهديدات الخارجية.
وأوضحت أن هذا التيار المتشدد، الذي يستند إلى مرجعيات دينية تلمودية ويشكل نحو 13% من السكان بما يعادل مليون ومئتي ألف نسمة، فرض سيطرته على السياسات العامة للدولة، معتبراً الإعلام اليساري والوسطي خصماً يجب تحجيمه، رافضاً التفاعل مع مؤسسات إعلامية مثل "هآرتس" أو "يديعوت أحرونوت"، مكتفياً بمتابعة وسائل الإعلام التي تعبر عن توجهاته وأيديولوجياته الدينية الصارمة.
ولفتت إلى أن دخول الذكاء الاصطناعي وشبكات التواصل الاجتماعي ساحة المعلومات بقوة جعل من هذه المنصات مصدراً رئيسياً للأخبار لدى الإسرائيليين، حيث باتت تشكل ثالث أهم مصدر للمعلومات، في ظل غياب الضوابط الصارمة، وهو ما أدى إلى تفاقم المخاوف الأمنية لدى التيار المتشدد، الذي بات يسعى إلى فرض تشريعات جديدة لحجب المعلومات وتقييد حرية النشر بدعوى منع تسرب المعلومات إلى أعداء إسرائيل، مستشهدين بتجربة يحيى السنوار الذي استفاد، حسب زعمهم، من هذا الانفتاح المعلوماتي في تخطيطه العملياتي.
وتطرقت الدكتورة رانيا، إلى أزمة أخرى تواجه الجيش الإسرائيلي، تتمثل في النقص الحاد في أعداد الجنود النظاميين، ما اضطر المؤسسة العسكرية إلى الاعتماد بشكل متزايد على قوات الاحتياط، والتي تضم في صفوفها شباباً يعملون في الشركات الناشئة، التي تُعد ركيزة أساسية في الاقتصاد الإسرائيلي ومصدراً رئيسياً للتصدير، ما يعكس حجم المعضلة التي تعانيها إسرائيل بين ضرورات الأمن ومتطلبات الاقتصاد.
بهذه الصورة المعقدة، تقف إسرائيل اليوم عند مفترق طرق حساس، بين إعلام حر يتعرض للتآكل وضغوط أمنية متصاعدة تهدد بانكماش هامش الحريات، ما يعمق الشرخ الداخلي ويزيد من هشاشة الجبهة الداخلية أمام تحديات متفاقمة.