من مظاهرات شيكاغو لتحديات الذكاء الاصطناعي.. "اليوم العالمي للعمال" مسيرة نضال لا تنتهي
من مظاهرات شيكاغو لتحديات الذكاء الاصطناعي.. "اليوم العالمي للعمال" مسيرة نضال لا تنتهي
في مطلع مايو من كل عام، تتوحد أصوات العمال في مختلف أنحاء العالم لتجديد المطالبة بالكرامة، والعدالة الاجتماعية، والعمل اللائق، إنه اليوم العالمي للعمال، الذي لم يعد فقط مناسبة للاحتفال بالمكتسبات، بل أيضًا ساحة رمزية للحديث عن التحديات المستجدة، من عدم المساواة في الأجور إلى آثار الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي على سوق العمل.
وفي العام الحالي 2025، تتجه الأنظار إلى هذه المناسبة في ظل تغيرات هيكلية تشهدها نظم العمل عالميًا، وتزايد الحاجة إلى صيغ جديدة توازن بين التقدم التكنولوجي وحقوق الإنسان في بيئة العمل.
انطلقت شرارة اليوم العالمي للعمال من مدينة شيكاغو في الولايات المتحدة عام 1886، عندما خرج الآلاف من العمال في مظاهرات حاشدة للمطالبة بتحديد ساعات العمل بثمانٍ يوميًا، في مواجهة ظروف عمل قاسية واستغلال لا يرحم، وقد شهدت هذه الاحتجاجات واحدة من أعنف محطات النضال العمالي، وهي ما يُعرف بـ"أحداث هايماركت"، التي تحولت لاحقًا إلى رمز عالمي للمقاومة العمالية.
وفي عام 1889، أقرت الأممية الثانية في باريس اعتماد يوم 1 مايو كيوم عالمي للاحتفاء بالطبقة العاملة ونضالاتها، ومنذ ذلك الحين أصبح هذا التاريخ معترفًا به في معظم دول العالم، وإن اختلفت أساليب الاحتفال والتعبير عنه.
اليوم العالمي للعمال 2025
اختارت منظمات العمل الدولية والشركاء الاجتماعيون في عام 2025 شعارًا يعكس واحدًا من أكثر التحديات إلحاحًا في سوق العمل.. “كيف نحافظ على العدالة الاجتماعية في عالم يزداد رقمية كل يوم؟”.
ويركز هذا الشعار على التحولات العميقة التي يشهدها سوق العمل تحت تأثير التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، بما في ذلك: زيادة التشغيل الذاتي والعمل عبر المنصات الرقمية، وتتصاعد البطالة المقنّعة في بعض القطاعات التقليدية، اختفاء تدريجي لبعض المهن وظهور وظائف جديدة تتطلب مهارات معقدة، واتساع الفجوة الرقمية بين العمال في الدول النامية والمتقدمة.
وفي ظل هذه المعطيات، تُطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل العمل، وضرورة حماية الفئات الأكثر هشاشة من التهميش، وإعادة النظر في مفاهيم الأمان الوظيفي والحماية الاجتماعية.
صوت العمال يتجاوز الحدود
في آسيا والمحيط الهادئ تشهد كبرى العواصم الآسيوية مثل طوكيو، جاكرتا، سيول، وكوالالمبور مظاهرات ومسيرات سلمية، يشارك فيها عمال من مختلف القطاعات، مطالبين بضمان حقوقهم في ظل تزايد الاعتماد على التكنولوجيا في الإنتاج.
وفي جاكرتا تحديدًا، طالب اتحاد العمال الإندونيسي برفع الحد الأدنى للأجور، في حين نددت مجموعات أخرى بتراجع الحماية الاجتماعية في اقتصاد المنصات.
وفي أوروبا، التي كانت كعادتها في طليعة الدول التي شهدت حراكًا واسعًا في اليوم العالمي للعمال، ننظم نقابات العمال في باريس وبرلين ومدريد ولندن فعاليات متعددة، تشمل مسيرات ومؤتمرات ووقفات احتجاجية.
وتركز المطالب الأوروبية على العدالة في توزيع الأرباح الرقمية، والمساواة في الأجور، ووقف خصخصة المرافق العامة، في باريس على سبيل المثال، رُفعت لافتات تندد بتراجع دور النقابات في مفاوضات العمل الجماعي، وسط تصاعد العقود المؤقتة.
سخط من سياسات التقشف
وفي الأمريكيتين، من لوس أنجلوس إلى ساو باولو، يعبّر العمال عن سخطهم من سياسات التقشف وازدياد أعباء العمل دون مقابل عادل،
وفي الولايات المتحدة، نظم عمال قطاعات الخدمات والتوصيل احتجاجات تطالب بتحسين ظروف العمل، لا سيما في الشركات التقنية الكبرى التي تعتمد على العمل المؤقت والمستقل، أما في البرازيل، فقد هيمنت قضايا البطالة والخصخصة على خطابات اتحادات العمال، مع تسليط الضوء على تراجع الأمان الاجتماعي.
وفي إفريقيا، حمل العمال في دول مثل جنوب إفريقيا ونيجيريا وكينيا، مطالب تتعلق بتوفير فرص عمل عادلة، ومحاربة الفساد في توزيع الوظائف، وتحقيق بيئة عمل آمنة تضمن الكرامة للعمال في القطاعين العام والخاص، كذلك، تم تسليط الضوء على ضرورة إدماج النساء والشباب في الخطط الوطنية للتنمية المستدامة والعمل اللائق.
الأهداف العالمية لليوم
يهدف هذا اليوم إلى ضمان احترام حقوق العمال المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية، وعلى رأسها الحق في الأجر العادل، والضمان الاجتماعي، وعدم التمييز.
ويهدف إلى تعزيز الأمن الوظيفي في الاقتصاد الرقمي، ومعالجة آثار التحول الرقمي على استقرار العمل، ومنع استغلال العمال في اقتصاد المنصات.
وكذلك، تعزيز الحوار الاجتماعي، بتشجيع الحوار بين الحكومات وأصحاب العمل والنقابات للتوصل إلى حلول عادلة في مواجهة التحديات الجديدة.
ويدفع اليوم أيضًا إلى الاستثمار في التدريب والتعليم المهني، وذلك بإعداد العمال لمهن المستقبل من خلال تعزيز المهارات الرقمية والانتقال العادل إلى الاقتصاد الأخضر.
وبات ربط العدالة الاجتماعية بالتحولات البيئية، وتأمين وظائف خضراء تحفظ حقوق الإنسان، أيضًا أحد أهم أهداف هذا اليوم.
العمل حق إنساني
تؤكد منظمة العمل الدولية (ILO) أن العمل ليس مجرد وسيلة للكسب، بل حق إنساني أساسي ينبغي حمايته من كل أشكال الاستغلال والانتهاك، وفي هذا الإطار، دعت المنظمة جميع الدول إلى تطوير أنظمة حماية اجتماعية قوية وشاملة، خاصة في ظل الأزمات العالمية المتكررة، مثل جائحة كوفيد-19، والنزاعات المسلحة، وتغير المناخ.
ولا يعد اليوم العالمي للعمال فقط مناسبة احتفالية، بل هو محطة سنوية لإعادة تقييم مسار العدالة الاجتماعية والاقتصادية في العالم، وفي عصر يشهد صعود الذكاء الاصطناعي وتفكك أنماط العمل التقليدية، تصبح الحاجة إلى حماية الإنسان العامل أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
ويشكل صوت العامل، حين يُرفع من أقصى شمال الأرض إلى أقصى جنوبها، دعوة صريحة لأنسنة الاقتصاد وتغليب العدالة على الأرباح.