كل ساعة تُقتل امرأة في غزة.. إبادة ممنهجة ضد النساء تحت صمت العالم

كل ساعة تُقتل امرأة في غزة.. إبادة ممنهجة ضد النساء تحت صمت العالم
نساء يبكين ذويهن في غزة

وسط صمت دولي مخزٍ وانهيار منظومة العدالة الأممية، يتبدى وجه آخر للحرب، وجه يتلطخ بدماء النساء، إذ لا تبدو غزة هذه الأيام سوى كقلب مثقوب تنزف فيه الأمهات والفتيات على مدار الساعة.

في واحدة من أكثر المآسي الإنسانية وجعًا، تتعرض النساء الفلسطينيات في قطاع غزة لمجزرة متواصلة لا ترحم، وكأن أجسادهن تحوّلت إلى ساحات حرب إضافية. 

وأكد محللون وخبراء في العلاقات الدولية وحقوق الإنسان أن ما يتعرض له قطاع غزة منذ أكثر من عام ونصف العام يُشكّل نموذجًا واضحًا لجريمة إبادة جماعية وتطهير عرقي تنفذها إسرائيل بشكل ممنهج، باستخدام أدوات قتل جماعي لم تقتصر على البعد العسكري، بل امتدت إلى استهداف شامل للمجتمع المدني الفلسطيني، ولا سيما النساء والأطفال وكبار السن، في انتهاك صارخ لأحكام القانون الدولي الإنساني.

اتهم المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إسرائيل بارتكاب "نمط ممنهج" من القتل الجماعي ضد النساء الفلسطينيات في قطاع غزة، مؤكدًا أن معدلات استهداف النساء هناك غير مسبوقة، وتشير إلى استخدام متعمد للقتل كأداة للتدمير السكاني ضمن جريمة الإبادة الجماعية. وأوضح المرصد في بيان له، صدر اليوم الأحد، أن الجيش الإسرائيلي يقتل ما معدله 21.3 امرأة فلسطينية يوميًا منذ بدء الحرب على غزة في 7 أكتوبر 2023، أي ما يعادل امرأة واحدة تقريبًا كل ساعة، ورغم فداحة هذه الأرقام، إلا أنها لا تشمل من توفين نتيجة الحصار أو الجوع أو انعدام الرعاية الطبية، ما يعني أن الرقم الفعلي للضحايا من النساء قد يتجاوز ذلك بكثير.

هذا الواقع المرير يعكس، حسبما يرى المرصد، سياسة إسرائيلية ممنهجة ومقصودة ترمي إلى تدمير النسيج المجتمعي الفلسطيني عبر قتل النساء، باعتبارهن العمود الفقري لاستمرارية الحياة والهوية، ومن منظور القانون الدولي، فإن هذا النمط السلوكي يمثل نية مبيتة للإبادة، ما يشكل انتهاكًا صارخًا لاتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948.

ووفق بيانات وزارة الصحة في غزة، حتى 10 مايو 2024، بلغ عدد الشهداء نتيجة العدوان الإسرائيلي أكثر من 52,000 فلسطيني، بينهم ما يزيد على 14,500 طفل و9,800 امرأة، بنسبة تقارب 69% من مجموع الضحايا المدنيين، ومع تزايد الغارات واستمرار الحصار، تتوقع منظمات إنسانية أن ترتفع هذه الأرقام بصورة كبيرة، وقد حذّرت منظمة "أوكسفام" في تقرير صدر أخيرًا أن النساء والفتيات في غزة يعانين "من انهيار كامل في كل مقومات الحياة" بما في ذلك الغذاء والماء والخدمات الصحية، فيما تُسجل حالات وفيات متزايدة نتيجة الأمراض وسوء التغذية، لا سيما بين الحوامل والمرضعات.

من وجهة نظر قانونية، يعتبر استهداف المدنيين، لا سيما النساء والأطفال، خرقًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني، وخصوصًا لاتفاقيات جنيف التي تحمي الفئات الأكثر ضعفًا في النزاعات المسلحة، ويذهب المرصد الأورومتوسطي إلى حد اتهام إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة جماعية، وفق المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية، التي تنص على أن "القتل العمد لأعضاء جماعة قومية أو إثنية أو دينية بهدف تدميرها كليًا أو جزئيًا" يُعد جريمة دولية.

لكن مع كل هذه المعطيات، يبقى الرد الدولي باهتًا، مترددًا، كأن العدل عالق في بيروقراطية المصالح. فقد اكتفى مجلس الأمن بإصدار بيانات قلق، في حين ظلّت المحكمة الجنائية الدولية غارقة في دوامة البيروقراطية القانونية، مترددة في إصدار مذكرات توقيف أو بدء تحقيقات حقيقية. المرصد الحقوقي دعا أخيرًا إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة لتوثيق الجرائم المرتكبة بحق النساء والأطفال، لكنه يعلم أن الطريق إلى المحاسبة يمر عبر دهاليز السياسة العالمية، حيث تُمزج العدالة بالبراغماتية، ويُوزَن الدم بميزان المصالح.

في ظل تفشي العنف الممنهج ضد النساء في قطاع غزة وتقصير المؤسسات الدولية الرسمية في أداء دورها الرقابي والحمائي، نشأت مبادرات حقوقية مستقلة تقودها منظمات غير حكومية ومحامون ونشطاء من داخل غزة وخارجها. هذه المبادرات باتت تشكل جبهة ميدانية موازية لرصد الانتهاكات وتوثيق الجرائم المرتكبة بحق النساء الفلسطينيات، في محاولة لردم الفراغ الفادح في المحاسبة الدولية. تُعنى هذه الجهود بجمع الأدلة الميدانية، بما في ذلك شهادات ناجيات موثّقة بالصوت والصورة، وتحديد مواقع استهداف النساء عبر بيانات الخرائط الرقمية والصور الفضائية، وتحليل أنماط الضربات الجوية باستخدام أدوات الطب الشرعي الرقمي (Digital Forensics)، وذلك بالشراكة مع جهات حقوقية مثل "أطباء من أجل حقوق الإنسان" و"المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان".

وفق بيانات منظمة "آرتيكل 36" المعنية بتوثيق أثر الأسلحة في النزاعات، فإن 87% من القنابل المستخدمة في القطاع خلال الأشهر الأولى من الحرب هي من النوع "واسع التأثير" (Wide-Area Effect Weapons)، ما يزيد احتمالية إصابة المدنيين، وخاصة النساء والأطفال، بنسبة تصل إلى 90%. وتشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 70% من ضحايا الغارات الجوية هم من النساء والأطفال، ما يجعل التوثيق الدقيق لضحايا هذا النمط من الاستهداف ضرورة قانونية لا تحتمل التأجيل.

رغم هذه الجهود، تواجه فرق الرصد تحديات هيكلية ومعقدة. فالبنية التحتية الإعلامية في غزة باتت شبه مشلولة؛ تم تدمير أكثر من 120 مقرًا إعلاميًا ومكتبًا صحفيًا منذ بدء الحرب، بحسب نقابة الصحفيين الفلسطينيين، إضافة إلى ذلك، يشير تقرير صادر عن "لجنة حماية الصحفيين" (CPJ) إلى أن الاتصالات قُطعت بالكامل عن القطاع لأكثر من 30 مرة خلال الأشهر الستة الأولى من الحرب، ما عوق التنسيق بين النشطاء ومراسلي الميدان ومنظمات الرصد الدولية.

كما تعاني الجهات الحقوقية المستقلة من نقص فادح في المعدات التقنية، خاصة تلك اللازمة لتحليل بيانات الأقمار الصناعية وتوثيق مواقع المقابر الجماعية، فضلًا عن صعوبات لوجستية تتمثل في انعدام الكهرباء وانقطاع الوقود، ما يعرقل عمل المراكز الحقوقية التي كانت تشكل مرجعًا أساسيًا في توثيق جرائم الحرب السابقة.

تُقابل هذه التحديات بإرادة نسوية جماعية تصر على كتابة الرواية من تحت الأنقاض، باتت الناجيات من المجازر يقمن، بمساعدة منظمات نسوية مثل "نساء من أجل العدالة" و"مركز شؤون المرأة في غزة"، بتوثيق قصصهن عبر مقاطع صوتية ومذكرات يدوية تُهرّب إلى خارج القطاع، وقد تم توثيق أكثر من 3,500 شهادة لناجيات من الهجمات الجوية خلال الأشهر السبعة الأولى للحرب، تتضمن تفاصيل عن أنماط الاستهداف، مواقع الضربات، وطبيعة الإصابات، ما يُعد مادة قانونية أساسية لملاحقة المسؤولين أمام المحاكم الدولية.

إن استهداف النساء في هذا السياق لا يُختزل في إنهاء حياة فردية، بل يحمل دلالات مجتمعية ونفسية تتجاوز الجسد المقتول. يُعدّ استهداف الأمهات والفتيات في منازلهن وفي مراكز الإيواء خرقًا مباشرًا لمبدأ التمييز في القانون الدولي الإنساني، الذي يُوجب على الأطراف المتحاربة التفريق بين الأهداف العسكرية والمدنيين، وفي حالات كثيرة، كما وثقت "هيومن رايتس ووتش"، تم استهداف منازل تضم أسرًا كاملة دون إنذار مسبق، ما أدى إلى إبادة عائلات بأكملها، بعضها ترأسته نساء كنّ يعُلن أطفالًا صغارًا بلا عائل. 

المرأة الفلسطينية، التي شكلت على مدار عقود رمزًا للصمود والبقاء، تجد نفسها اليوم هدفًا مباشرًا لآلة الحرب. إنها لا تُقتل فقط كـ "ضحية مدنية"، بل تُستهدف كحامل للهوية، كراعٍ للأمل، كمصدر للحياة، ففي كل مرة يُقصف فيها منزل وتُنتشل منه امرأة مقتولة، يُقصف معه مستقبل، وتُدفن قدرة مجتمع بأسره على التعافي. وتشير دراسة صادرة عن مركز "المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي" إلى أن فقدان النساء خلال النزاعات المسلحة يؤدي إلى آثار ممتدة تشمل انخفاض معدلات التعليم لدى الأطفال بنسبة تصل إلى 35%، وتراجع الأمن الغذائي بنسبة 42% في الأسر التي تفقد الأمهات.

وإذا كانت النساء غالبًا ما يُقدّمن كضحايا صامتات في الأدبيات الحربية، فإن نساء غزة خرقن هذا الصمت، وصرن يُشكلن بنشاطهن وصمودهن جزءًا لا يتجزأ من النسيج الحقوقي الفلسطيني. حتى في اللحظات الأخيرة، حين لا يبقى من الجسد سوى رماد، تظل قصصهن تنطق بالحقيقة التي تخافها أنظمة الحرب، ليست أجسادهن أهدافًا هامشية، بل مرايا تعكس فشل العالم، وعجزه، وتواطؤه الصامت،إن استمرار قتل امرأة كل ساعة، كما تشير إحصاءات المرصد الأورومتوسطي، ليس مجرد رقم في نشرة أخبار، بل علامة دامغة على إفلاس المنظومة الدولية، ووصمة لا تزول عن جبين الإنسانية.

نحو 75% من الضحايا هم من النساء والأطفال وكبار السن

ووفقًا لتصريحات المحلل السياسي الفلسطيني د. مراد حرفوش لـ"جسور بوست"، أعلنت وزارة الصحة في غزة أن عدد الشهداء تجاوز 52 ألفًا، فيما فاق عدد الجرحى 119 ألفًا، مؤكدة أن نحو 75% من الضحايا هم من النساء والأطفال وكبار السن، وأوضح حرفوش أن هذه النسبة تدحض الادعاءات الإسرائيلية بشأن استهداف "مقاومين"، وتؤكد أن الحرب تُشن ضد السكان المدنيين العُزل بهدف تقليص عدد سكان القطاع ومحو العائلات الفلسطينية من السجل السكاني.

وأشار حرفوش إلى أن هذه السياسات تندرج ضمن رؤية اليمين الإسرائيلي المتطرف الساعي إلى "تفريغ" غزة من سكانها الأصليين. واستشهد بتصريحات وزراء في حكومة الاحتلال، من بينهم بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، والذين دعوا علنًا إلى القضاء على الوجود الفلسطيني من خلال القتل والحصار والتجويع، في مخالفة مباشرة لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948.

دمار هائل ونزوح داخلي غير مسبوق

وتابع حرفوش موضحًا أن 86% من المنازل في غزة دُمرت كليًا أو جزئيًا، ما أدى إلى تشريد أكثر من 1.9 مليون فلسطيني، وقد وثّقت منظمات حقوقية، مثل الأونروا وهيومن رايتس ووتش ومجلس حقوق الإنسان، هذه الانتهاكات التي طالت البنية التحتية المدنية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والمراكز الإغاثية.

كما شدد على أن النساء الفلسطينيات يعشن مأساة مركبة، تشمل الفقد، والتهجير، والعيش في ظروف لا تليق بالحياة، مع غياب الرعاية الصحية، وتفشي الجوع، وارتفاع خطر الأمراض النفسية الناتجة عن الصدمة الجماعية.

وأكد حرفوش أن الحصار المستمر ومنع دخول المساعدات الإنسانية أدّى إلى أزمة غذاء خانقة، ووفقًا لتقارير برنامج الغذاء العالمي ومنظمة الصحة العالمية، فإن نحو 90% من سكان القطاع يعانون من انعدام الأمن الغذائي، في حين يعاني نصف الأطفال دون سن الخامسة من سوء تغذية حاد.

وفي ما يخص المحاسبة الدولية، أشار حرفوش إلى أن دولًا، أبرزها جنوب إفريقيا، تقدّمت بدعاوى قانونية إلى محكمة العدل الدولية، وقد صدرت مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، إلا أن العقبة الأساسية -بحسب تعبيره- تكمن في غياب آلية تنفيذية حقيقية، وسط دعم مطلق من قوى غربية.

النساء هدف مقصود لا ضحايا جانبيين

من جانبه، قال أستاذ العلاقات الدولية د. رامي عاشور لـ "جسور بوست" إن استهداف النساء في هذه الحرب لا يُعد نتيجة جانبية، بل سياسة متعمدة تهدف إلى تفكيك المجتمع الفلسطيني، وأكد أن المرأة الفلسطينية تمثّل حجر الزاوية في الأسرة، واستهدافها يخلخل التوازن المجتمعي والديموغرافي بشكل مدروس.

وأشار إلى أن سياسة الأرض المحروقة تطول كل مقومات الحياة: المنازل، المستشفيات، المدارس، مراكز الإيواء، وشبكات المياه والكهرباء، كما عدّ التجويع أداة قمع موازية للقصف، حيث يُترك الفلسطيني بين خيارين: الموت جوعًا أو بالقنابل.

أوضح عاشور أن القانون الدولي يغيب حين تكون القوة حاضرة، خاصة عندما تحظى تلك القوة بدعم من دول كبرى مثل الولايات المتحدة، وأكد أن الأمم المتحدة، رغم توثيقها الدقيق للجرائم، تفتقر إلى أدوات الردع، ما يشجع إسرائيل على الاستمرار، في ظل أيديولوجيا يمينية متطرفة توظف الدين لتبرير القتل الجماعي.

استراتيجية إبادة

وفي السياق ذاته، أكد أستاذ العلاقات الدولية إسماعيل تركي لـ "جسور بوست" أن تقرير المرصد الأورومتوسطي كشف عن نمط منظم من الجرائم بحق النساء في غزة، مشيرًا إلى أن ذلك يندرج ضمن مسعى لوقف النمو السكاني الفلسطيني من خلال قتل النساء الحوامل ومنع الرعاية الصحية.

وأشار تركي إلى أن نحو 60 ألف امرأة حامل يواجهن خطر الموت بسبب سوء التغذية وانعدام الرعاية الصحية، ما يمثل انتهاكًا لاتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، كما تم توثيق حالات اغتصاب واعتداء جنسي بحق النساء، ضمن استراتيجية لتدمير النسيج الاجتماعي الفلسطيني نفسيًا وجسديًا.

وفي ختام تصريحاته، دعا تركي إلى فتح تحقيقات دولية عاجلة ومستقلة، تحت إشراف الأمم المتحدة، وتقديم الجناة للمحاكمة، كما شدد على ضرورة فرض عقوبات اقتصادية وعسكرية على إسرائيل، بما في ذلك تعليق التعاون العسكري وفرض حظر على تصدير الأسلحة.

واختتم بقوله: “إن استهداف النساء والأطفال في غزة جريمة لا يمكن أن تمر دون عقاب، العالم مطالب اليوم باتخاذ موقف أخلاقي حاسم، يكسر حلقة الإفلات من العقاب، ويعيد الاعتبار لقيم العدالة الإنسانية".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية