لباس العمل أم صراع طبقي؟.. احتجاجات "ستاربكس" تكشف المأزق
لباس العمل أم صراع طبقي؟.. احتجاجات "ستاربكس" تكشف المأزق
الزيّ الموحّد في بيئة العمل ليس مجرد "بروتوكول بصري"، بل هو مفترق طرق بين منطق السوق ومنطق الكرامة.. إنّ توازنًا حقيقيًا بين صورة المؤسسة وحقوق الفرد لا يتحقق بالقرارات الفوقية، بل بالحوار الثلاثي بين الإدارة، والنقابة، والعاملين.. فالسياسة التي تهمّش الإنسان تحت القماش، تهدّد بانطفاء روح المؤسسة نفسها.. هكذا وجدت سلسلة "ستاربكس" نفسها في جدل يتجاوز لون القميص إلى عمق العلاقة بين العامل وصاحب العمل.
وفي مايو الجاري، دخل أكثر من 1200 موظف وموظفة في إضراب شمل مئة متجر في 24 ولاية أمريكية، احتجاجاً على فرض زي موحّد أسود اللون دون أي تفاوض مع "نقابة عمال ستاربكس المتحدة"، الإدارة بررت القرار بأنه يبرز المئزر الأخضر الشهير ويخلق صورة متسقة تريح الزبون، أما العمال المضربون، فرأوا فيه تعدياً على مساحة شخصية يُفترض أن تبقى لهم حرية اختيار الملبس داخل حدود السلامة والنظافة.
وتفرض القوانين الأمريكية أن يكون هناك سبب تجاري مشروع لفرض زي موحد، لكن النقابة تؤكد أن السبب ينتفي حين يُستخدم اللباس كأداة تأديبية ضد النشاط النقابي أو حين يُفرض من دون تسليم القطع المجانية الموعودة، وقد تلقى المجلس الوطني لعلاقات العمل شكوى رسمية في 16 مايو تتهم الشركة بسوء النية في التفاوض وتغيير شروط العمل أحادياً في 580 متجرًا منظّمًا.
سوق بمليارات الدولارات
تشير دراسة لمؤسسة «الأبحاث العالمية للزي المهني» (2024) إلى أن سوق الزي الموحد بلغ 33 مليار دولار، متوقعاً وصوله إلى 45 مليارًا بحلول 2029، لكن التوسّع في هذه السوق يقابله تصاعد الشكاوى من سياسات مظهر تمييزية، خاصة تجاه النساء، المحجبات، وأصحاب الأوشام أو قصات الشعر غير النمطية، وفق تقرير المجلس الأوروبي للنقابات.
وكشفت دراسة لجامعة ستانفورد (2023) أن فرض زي إلزامي يقلل شعور العامل بالتحكّم الوظيفي بنسبة 18%، ويرفع معدلات الاحتراق النفسي والدوران الوظيفي. الزي المفروض يتحوّل إلى تذكير يومي بأن صوت العامل غير مسموع، ما يؤثر على الأداء العام والمعنويات.
الملابس تلعب دور الوسيط بين الفرد والمجموعة، فقد أشار تقرير للجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع صدر عام (2024) إلى أن الزي الموحد الصارم يضعف الروابط الأفقية بين الزملاء، ويفرض شكلاً من «تبييض» الهوية في أماكن العمل المتنوعة ثقافيًا، وفي ستاربكس، حيث 63% من العاملين ينتمون لأقليات إثنية، قد يعني الزي الأسود الإجباري قمع رموزهم الثقافية.
الضغط النفسي وفقدان الذات
ووجد بحث من جامعة مانشستر (2025) أن فرض زي دون موافقة يرفع هرمون الكورتيزول بنسبة 11%، ويؤدي إلى إحساس بالنزع عن الذات لدى 47% من العاملين، وفي بيئة مثل المقاهي، حيث يُنتظر من الموظف تقديم تواصل عاطفي للزبون، قد يؤثر ذلك على جودة الخدمة والمبيعات.
كما أشار مسح أجرته جمعية الإدارة الأمريكية عام (2024) شمل 212 شركة، إلى أن 68% من المدراء لم يلاحظوا أي تحسن في تقييمات الزبائن بعد فرض الزي، بينما رأى 54% من الموظفين أن القواعد أعاقت الإبداع في حل المشكلات.
قضت المحكمة العليا الأمريكية في 2020 (Render v. FCA) بأنه يجب على الشركات إثبات ضرورة الزي لا افتراضها، وتستند النقابة في قضية ستاربكس إلى هذا المبدأ، مؤكدة أن الألوان غير السوداء كانت معتمدة حتى وقت قريب دون أي تأثير سلبي يُذكر.
وتتكرر القضايا المتعلقة بالزي المفروض، من شركات طيران مثل «دلتا» إلى متاجر أزياء فرنسية، وغيرها، ففي بعض الحالات، وصلت الأمور إلى تسويات بملايين الدولارات، أو أحكام لصالح العمال المتضررين من انتهاك معتقداتهم أو صحتهم الجسدية.
تكلفة اقتصادية
وفق تقرير «ماكينزي» (2024)، قد توفّر الشركات عبر الزي الموحد، لكنها بذلك تنقل العبء المالي إلى العمال، خصوصاً حين لا توفر القطع الموعودة أو تكتفي بمقاسات محدودة، و 72% من موظفي ستاربكس لم يتسلّموا القمصان حتى بداية الإضراب، ما يجعل الزي عبئًا إضافيًا لا وسيلة راحة.
قطاع الخدمات الغذائية لم يتعافَ بعد من تبعات الجائحة، وبيانات ستاربكس تشير إلى ازدياد وقت الانتظار للطلبات، وبدلًا من معالجة جذور الأزمة كالأجور وجداول العمل، اختارت الإدارة التركيز على «القميص الأسود» كحل تسويقي.
وتظهر نماذج مثل «إيكيا» و«يونيكلو» و«أليانز» أن المرونة في المظهر لا تضر بهوية العلامة التجارية، بل تعزّز ولاء الموظفين وانخراطهم، فبعض الشركات تقدم بدلا ماديا للتنسيق وتسمح بإكسسوارات شخصية ضمن هوية بصرية عامة.
الخصوصية الثقافية
في بعض الدول العربية، ارتفعت أصوات تطالب بوقف فرض أزياء تميّز العمال منزلياً بلون معين، ودعت توصيات شبكة حقوق المهاجرين إلى احترام الخلفيات الثقافية والدينية للعاملين بما يحقق التوازن بين الحشمة والأمان دون تكريس تمييز بصري.
فيما تفاوتت التغطية الإعلامية بين التركيز على أصوات العمال وبين تحليل الخسائر المحدودة للشركة بما يعكس صراعًا أعمق ليثار التساؤل: هل الموضوع مجرد موضة أم معركة على السلطة داخل اقتصاد يرتكز على الاستعراض؟
وتدخل حرية الملبس ضمن الحقوق الثقافية بموجب العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لكنّها تبقى مقيّدة بضوابط النظام العام، فقد أوصت منظمة العمل الدولية بوجوب التشاور مع العمال قبل تعديل أي عنصر يؤثر جوهر الحياة اليومية، وتجاهل هذا السياق يجعل من الزي الموحد قنبلة أخلاقية وقانونية مؤجلة.
علاقة رأس المال والكرامة
في زمن تتصاعد فيه نزعة التوحيد المؤسسي باسم "بناء الصورة الذهنية" و"هيبة البراند"، يثير موضوع الزيّ الموحد في أماكن العمل جدلاً أخلاقيًا وحقوقيًا يتجاوز حدود الشكل إلى جوهر العلاقة بين رأس المال والكرامة الإنسانية.
يرى الدكتور سيد مكاوي، خبير الشؤون الآسيوية، في تصريحه لـ "جسور بوست" أنّ فرض الزيّ الموحّد ليس مجرّد تنظيم إداري، بل أداة رمزية تُستخدم لترسيخ تراتبية اجتماعية تفصل بين من يقدّم الخدمة ومن يتلقّاها، فالزيّ يكرّس التماثل ويطمس الفردية، في سياق عالمي تتآكل فيه الحقوق النقابية تحت ضغط شركات عابرة للحدود باتت قادرة على فرض شروطها في سوق العمل العالمي، ويذهب مكاوي إلى أنّ هذه "العسكرة البصرية" تستنسخ أدوات النظم الشمولية، إذ تزيل الفوارق الفردية لصالح الانضباط والطاعة.
رغم مشروعية تنظيم المظهر من منظور قانون العمل، يحذّر مكاوي من تجاهل الأثر النفسي لهذا التوحيد الإجباري؛ فبحوث علم الاجتماع الصناعي تؤكد أن تقييد المظهر يُضعف الانتماء ويزيد من الاحتراق المهني، وقد بدأت بعض سلاسل الضيافة تدرك هذا الأثر، فتخلّت عن الزّي الصارم لصالح «مدوَّنة مظهر» مرنة تحترم التنوع الفردي دون الإخلال بالهوية البصرية للمكان.
بيئة اغتراب نفسي
عززت الأكاديمية والخبيرة الحقوقية، أسماء علّام، هذا الطرح بمقاربة نفسية واجتماعية، مؤكدةً أن الزيّ المفروض بلا تشاور يُحوّل مكان العمل إلى بيئة اغتراب نفسي، فالزيّ غير المريح أو المُهين يمسّ كرامة العامل ويترك أثرًا يتعدّى جدران المؤسسة ليؤثر على الأسرة والمجتمع.
وشددت أسماء في تصريحها لـ “جسور بوست”، على أن العدالة تبدأ من التفاصيل، وأنّ أيّ لباس موحّد لا يحترم اختلاف الأجساد والثقافات والوظائف، يتحوّل من رمز انتماء إلى أداة فرز طبقي وصامت.
ودعت علّام إلى إشراك العمال في اختيار الزّي، مع إتاحة خيارات متعددة، وتأسيس آلية تظلّم مهنية، مؤكدة أن احترام الحاجات النفسية والمجتمعية للعاملين ينعكس مباشرة على جودة الأداء وولاء الموظفين.