طفولة تحت القانون.. هل تحمي فرنسا الفتيات أم تُقيد حريتهن في اختيار الهوية؟
طفولة تحت القانون.. هل تحمي فرنسا الفتيات أم تُقيد حريتهن في اختيار الهوية؟
أطلق حزب "النهضة" الحاكم في فرنسا، مبادرة تشريعية مثيرة للجدل تهدف إلى حظر ارتداء الحجاب على الفتيات المسلمات دون سن الخامسة عشرة في الأماكن العامة، ما أثار موجة انتقادات داخلية وخارجية، وربط الحزب هذه المبادرة بتوصيات تقرير أمني سري عرضه الرئيس إيمانويل ماكرون على كبار المسؤولين، وخلص إلى أن جماعة "الإخوان المسلمين" تمثّل "تهديداً مباشراً لتماسك الدولة"، بحسب ما نقلته وكالة "فرانس برس" عن مصادر رسمية.
وأوضح التقرير الرسمي أن الجماعة تسعى إلى "تفكيك النسيج الاجتماعي وتقويض المؤسسات الجمهورية"، في ما عدته الحكومة دافعاً لتشديد قوانين مكافحة ما تسميه "التطرف الإسلامي"، ووفق نص المبادرة الجديدة، سيُمنع ارتداء الحجاب في الشوارع، المقاهي، الحدائق، والمتاجر، في حين يواجه أولياء الأمور تهماً جنائية إذا أُثبت أنهم أجبروا بناتهم على ارتدائه.
وبرر الحزب الحاكم، الذي أسسه الرئيس ماكرون ويقوده حالياً رئيس الوزراء السابق غابريال أتال، هذه الخطوة بأنها تأتي لحماية الطفولة، وتعزيز المساواة بين الجنسين، لكن المبادرة لقيت معارضة قوية، خاصة من أحزاب اليسار والجمعيات الحقوقية، التي رأت فيها تعدياً صارخاً على حرية المعتقد.
وأكدت منظمات حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش"، و"اللجنة الأوروبية لحقوق الإنسان" أن الإجراء الجديد يمثل امتداداً لسياسات ممنهجة تستهدف النساء المسلمات، وقد يعمّق من عزلهن الاجتماعي.
صدام مع اليمين المتطرف
استغل زعيم حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف جوردان بارديلا الفرصة لمهاجمة أتال، متهماً إياه بـ"الازدواجية" بسبب مواقفه السابقة المؤيدة لحقوق النساء المسلمات، ونشر تسجيلاً قديماً له عام 2022 ينتقد فيه حظر الحجاب، ويعكس هذا السجال تعقيد المشهد السياسي الفرنسي، حيث تتلاقى بعض أجندات اليمين المتطرف مع سياسات الحزب الحاكم، لكن تحت شعارات مختلفة.
وتستند هذه السياسة الجديدة إلى سلسلة من التشريعات الفرنسية السابقة، التي بدأت بحظر الرموز الدينية في المدارس الحكومية عام 2004، وشملت الحجاب الإسلامي والقلنسوة اليهودية والعمامة السيخية، وصولاً إلى حظر النقاب عام 2011، وقدّرت وزارة التربية أن أكثر من 50 ألف تلميذة مسلمة تأثّرن بتلك القوانين، في حين أشار المجلس الأوروبي إلى أن 2,000 امرأة تضررن من قانون النقاب.
وأظهرت استطلاعات الرأي الحديثة انقساماً واسعاً في الشارع الفرنسي، فوفق معهد "إيفوب" في مارس 2025، يرى 48% من الفرنسيين أن الحجاب يمثل تحدياً لمبادئ العلمانية، في حين يراه 39% حقاً فردياً، وتوضح دراسة لجامعة باريس السوربون أن 35% من الأسر المسلمة في فرنسا تشعر بأن هذه السياسات تؤدي إلى تهميش بناتها وزيادة العزلة.
وتمثل فرنسا أكبر تجمع للمسلمين في أوروبا، ويقدّر عددهم بنحو 6 ملايين نسمة، أي 9.2% من السكان، بحسب مركز "بيو" للأبحاث لعام 2024، ويتوزع هؤلاء المسلمون على خلفيات ثقافية واجتماعية متعددة، ما يجعل أي سياسة تمسّهم مثاراً لحساسية بالغة، خاصة في ظل تصاعد الخطاب اليميني ومعاداة الإسلام.
وحذرت تقارير حقوقية من أن هذه السياسات قد لا تسهم في الاندماج، بل في إقصاء المجتمعات المسلمة، خصوصاً مع التخطيط لتوسيع الحظر ليشمل الحجاب في المسابقات الرياضية، رغم أن نحو 15% من الفتيات المسلمات يشاركن في الرياضة بشكل منتظم، وفق إحصاءات المعهد الوطني للإحصاء لعام 2024.
انتهاكات دستورية محتملة
عدت "هيومن رايتس ووتش" أن الحظر ينتهك المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تضمن حرية المعتقد، مضيفة أن نحو 120 ألف فتاة مسلمة بين 6 و15 سنة سيتضررن من القرار، كما أعربت عن مخاوف من تحول هذه السياسات إلى أداة تمييز مؤسسي ضد المسلمين.
استندت الحكومة في خطابها إلى التهديدات الأمنية التي تعرّضت لها البلاد، خصوصاً الهجمات الإرهابية بين 2015 و2020، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 300 شخص، إلا أن منظمات مدنية وحقوقية طالبت بعدم خلط الأوراق بين الإرهاب والممارسة الدينية السلمية، مشددة على ضرورة عدم اتخاذ القوانين وسيلة للعقاب الجماعي.
أكد باحث في مركز البحوث الاجتماعية الفرنسي أن "فرنسا تقف أمام معضلة وجودية: كيف يمكنها الحفاظ على قيم الجمهورية العلمانية دون أن تسقط في فخ التمييز الديني والثقافي؟"، ويأتي هذا في ظل مؤشرات من المعهد الوطني للإحصاء تشير إلى أن 12.5% من السكان هم من المهاجرين أو اللاجئين، ما يزيد من التنوع والتحديات.
وتجسّد هذه المبادرة واحدة من أعقد المعارك بين القيم الجمهورية وحرية التعبير الديني في فرنسا. وبينما تسعى الدولة لتعزيز نموذج "اللاطائفية"، تتزايد الانتقادات بأن هذا النموذج بات يستخدم أحياناً غطاءً لإقصاء فئات بعينها، بدلاً من أن يكون أداةً للدمج والعدالة.
جدل الهوية وحماية القاصرات
وأكد أستاذ القانون الدولي الدكتور مجيد بودن، أن الجدل القائم في فرنسا حول الحجاب ليس مسألة طارئة أو ظرفية، بل هو نتاج تراكم تاريخي وسياق اجتماعي وثقافي معقّد، تعمّق خلال العقود الثلاثة الماضية عبر أبحاث وتحقيقات وتقارير متعددة. ولفت إلى أن المسألة تتجاوز مجرد قطعة قماش ترتديها الفتاة المسلمة، لتغدو قضية جوهرية تتعلق باحترام الأديان، وحقوق الأطفال، ومكافحة التمييز والإقصاء المجتمعي.
وأوضح بودن، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن ارتداء الحجاب من قِبل الفتيات القاصرات يُعد في المنظور القانوني الفرنسي ممارسة لا تستند إلى إرادة حرة، بالنظر إلى عدم بلوغ هؤلاء الفتيات سن الرشد القانوني الذي يخولهن اتخاذ قرارات شخصية تتعلق بهويتهن الدينية. وعدّ فرض الحجاب عليهن، سواء بسلطة الأهل أو بضغط اجتماعي مبطن، يشكّل تهديدًا لحقهن في الاستقلال النفسي، ويسهم في عزلتهن ضمن محيط مجتمعي علماني لا يعترف بالرموز الدينية في الفضاء العام، وخصوصًا في المدارس والمرافق الرسمية.
وأشار بودن إلى أن فرنسا، بناءً على قانون 1905 الذي يفصل بين الدين والدولة، تضمن حرية العقيدة والممارسة الدينية باعتبارها حرية شخصية، لكنها لا تسمح باستخدام الدين كأداة سياسية أو وسيلة لتشكيل هوية جماعية مغايرة في المجال العام. وهذا المبدأ يُطبّق على جميع الديانات، بما فيها المسيحية واليهودية والبوذية، وليس الإسلام وحده.
وشدّد على أن غالبية أفراد الجالية المسلمة في فرنسا، والذين يشكّلون مكوّنًا أساسيًا في المجتمع، لا يفرضون الحجاب على بناتهم، ولا يرغبون في إدخال الدين في السجالات السياسية. بل إن من يتمسكون بالحجاب ويفرضونه على الفتيات القاصرات يشكّلون أقلية، غالبًا ما تكون مرتبطة بتيارات الإسلام السياسي، التي تحاول استغلال الدين أداةً للوصول إلى النفوذ والسيطرة المجتمعية.
وأوضح أن هذه التيارات تسعى لفرض رؤيتها عبر إسقاط الشريعة على النظام المدني، في محاولة لأسلمة الفضاء العام، وهو ما يتناقض مع القيم الديمقراطية التي ترتكز عليها المجتمعات الغربية، والتي تفصل بوضوح بين المجالين الديني والسياسي. وأضاف أن هذه الجماعات، من خلال استغلالها للحريات الغربية، تحاول تصوير أي نقاش حول الحجاب على أنه هجوم على الإسلام والمسلمين، ما يفاقم مناخ الفتنة، ويعزز خطاب الكراهية والانقسام.
ودعا بودن الجالية المسلمة في فرنسا إلى لعب دور إيجابي في هذا النقاش المجتمعي، مؤكدًا أن مصلحة المسلمين تكمن في الانخراط الفعّال ضمن الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة التي ينتمون إليها. وقال إن على الجالية أن تتبرأ صراحة من الإسلام السياسي، الذي يسعى لاستخدامها درعاً بشرياً في صراعاته الأيديولوجية، لأن عدم التصدي لهذا التوجه سيجعلها الضحية الأولى لخطابه الإقصائي والاستفزازي.
وختم بودن بالتأكيد على أن حماية الأطفال، وخاصة الفتيات الصغيرات، من العنف الرمزي والمعنوي ومن الإقصاء الاجتماعي، تُعد مسؤولية جماعية تتشارك فيها الدولة والمجتمع والأسر. وأن فرض الحجاب على القاصرات ليس فقط ممارسة تفتقر إلى الشرعية القانونية، بل أيضًا انتهاك لحق الطفلة في أن تكبر بحرية واستقلالية ضمن مجتمع يساوي بين جميع أفراده، بصرف النظر عن خلفياتهم الدينية أو الثقافية.
مخاوف سياسية وحقوقية
من جانبه، ندد الحقوقي محمود عبد الفتاح الزيني، بمبادرة بعض الدوائر السياسية في فرنسا الساعية إلى الدفع بتشريع يهدف إلى حظر ارتداء الحجاب، معتبراً أن هذه المبادرة تحمل أبعاداً سياسية واجتماعية معقدة تتجاوز ظاهرها التشريعي لتتغلغل في عمق جدليات الهوية والانتماء والحرية في الجمهورية الفرنسية، مؤكداً أن هذه الخطوة لا يمكن فهمها بعيداً عن سياق التحولات المتسارعة في المشهد الفرنسي، حيث تنبعث من دوافع يغلفها القلق، ويقودها خطاب سياسي متوتر يستحضر "فوبيا الإسلام" أداةً لتشكيل الرأي العام وفرض رؤية إقصائية على مكونات المجتمع.
وأوضح الزيني، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن أحد المحركات الرئيسة وراء هذه المبادرة هو الخوف من ما يُسمّى بـ"الإسلام السياسي"، وهو توصيف فضفاض يُستخدم في غير موضعه، لإلباس الممارسة الدينية البسيطة لباساً أيديولوجياً مفتعلاً، لافتاً إلى أن بعض الساسة الفرنسيين يرون في تصاعد أعداد المعتنقين للإسلام من أبناء الشعب الفرنسي دليلاً على نفوذ متصاعد يهدد ما يسمونه بـ"القيم العلمانية"، رغم أن الإقبال على الإسلام غالباً ما يأتي ثمرة بحث وتأمل شخصي في الدين لا نتيجة تحريض سياسي.
وفي هذا السياق، بيّن الزيني أن حزب "النهضة" الحاكم ربما يرى في هذه المبادرة وسيلة لتعزيز موقعه السياسي، خاصة في خضمّ مشهد سياسي داخلي مضطرب، مشيراً إلى أن مثل هذه القضايا الرمزية تصلح لأن تكون أوراق ضغط ومساومة انتخابية، تُستثمر في استمالة التيارات اليمينية المتطرفة أو الناخبين المترددين الذين تستهويهم الشعارات التي تَعِد بالحفاظ على "الهوية الفرنسية" كما يتصورها الخطاب المحافظ.
وأضاف أن هناك قطاعاً من المجتمع الفرنسي يرى الحجاب بصفته رمزاً دينياً ظاهراً، عائق أمام اندماج النساء المسلمات في الفضاء العام، مع أن هذا الطرح يتجاهل جوهر فكرة الاندماج التي لا تُقاس بمقدار التنازل عن الخصوصيات، بل بمقدار المشاركة الفاعلة في المجتمع مع الحفاظ على الكرامة والهوية الذاتية. وتابع قائلاً إن الحجاب يجب ألا يُفهم كموقف سياسي، بل كممارسة دينية مشروعة تنبع من قناعة داخلية، وتندرج ضمن الحقوق الفردية المصونة.
وقال الزيني إن قطاعات واسعة من المسلمين في فرنسا عبّرت بالفعل عن رفضها القاطع لهذه المبادرة، وعدتها خرقاً صريحاً لمبادئ الحريات الدينية والشخصية، التي يضمنها الدستور الفرنسي نفسه. وأشار إلى أن المنظمات الحقوقية عبّرت عن القلق من اتجاه الدولة إلى تشريع قوانين تمييزية تقيّد مظاهر دينية لمواطنيها المسلمين فقط، في خرق واضح لمبدأ المساواة أمام القانون.
واختتم حديثه قائلاً: إن الحظر المقترح لا يتعارض فقط مع المبادئ الدستورية، بل يضرب بجوهر الجمهورية عرض الحائط، ففرنسا التي طالما تباهت برفع راية الحرية والعدالة، تجد نفسها اليوم أمام اختبار حقيقي لمصداقية شعاراتها، فإذا كانت الحريات الدينية حقاً أصيلاً، فينبغي عدم انتقائها وفقاً للهوى السياسي.