"واشنطن بوست": الخطة الضريبية الجديدة تُشعل معركة غير معلنة في بريطانيا
"واشنطن بوست": الخطة الضريبية الجديدة تُشعل معركة غير معلنة في بريطانيا
أشعلت الخطة الضريبية الجديدة التي تبنّتها الحكومة البريطانية برئاسة حزب العمال موجة من التوترات غير المعلنة بين لندن وأصحاب الثروات الضخمة المقيمين فيها، فقد دفعت التعديلات في قوانين الضرائب على الدخل الخارجي وضريبة الميراث، إلى إعادة التفكير الجدي في مكان إقامة هؤلاء الأثرياء، الذين طالما عدوا العاصمة البريطانية ملاذهم الآمن.
ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، اليوم الأحد، تشير مؤشرات حديثة إلى بداية موجة من الهجرة المالية إلى دول تقدم تسهيلات ضريبية أفضل، ما يطرح تساؤلات حول تأثير ذلك في الاقتصاد البريطاني ومستقبل الاستثمار في البلاد.
وغادر رجل الأعمال البريطاني تشارلي مولينز، الذي راكم ثروته من قطاع السباكة، المملكة المتحدة بعد وقت قصير من وصول حزب العمال إلى الحكم صيف العام الماضي.
وأوضح مولينز، البالغ من العمر 72 عامًا، في مقابلة أجريت معه خلال زيارة قصيرة لما وصفه بـ"موطنه السابق"، أن "بريطانيا لم تعد مكانًا جيدًا لممارسة الأعمال".
وقسّم وقته حاليًا بين إسبانيا ودبي، لينضم إلى موجة من الأثرياء الذين يخططون لمغادرة البلاد، مدفوعين في جانب كبير من قراراتهم بتعديلات ضريبية أثارت مخاوف بشأن مستقبل ثرواتهم.
واستقطبت العاصمة البريطانية، لعقود، مجموعة متنوعة من الأثرياء من أنحاء العالم، واحتضنت الأوليغارشيين، وقادة منفيين، ومديري صناديق تحوط، ومواطنين محليين من أصحاب الثروات الكبرى، حيث التقوا في مدينة جمعت بين المال القديم والجديد.
استفاد هؤلاء من بيئة قانونية ومهنية مستقرة، ومدارس رفيعة المستوى، وعروض ثقافية مميزة، وعقارات فاخرة، إضافة إلى عامل اللغة الإنجليزية، التي تُعد لغة المال والأعمال عالميًا.
لكن بدأت بعض المؤشرات تلوح في الأفق، تشير إلى مغادرة عدد متزايد من أصحاب الثروات نحو وجهات مثل سويسرا، إيطاليا، إسبانيا، أو الإمارات، التي تقدم نظمًا ضريبية أقل تشددًا، بما في ذلك إمكانية سداد ضريبة ثابتة بدلًا من كشف كامل الدخل العالمي.
رحيل رجال الأعمال
أعلن رجل الأعمال المصري ناصف ساويرس، الشريك في ملكية نادي أستون فيلا الإنجليزي، أنه يعرف العديد من أقرانه ممن يعتزمون الرحيل بحلول أبريل الجاري أو العام المقبل.
غادر كذلك رجل الأعمال ألفي بيست، مؤسس شركة لإدارة المتنزهات السكنية، إلى موناكو، مشيرًا إلى ما وصفه بـ"العبء التنظيمي والضريبي الساحق".
علّق بيست من على يخته الذي يبلغ طوله 100 قدم: "إنهم يطاردون الثروات من الباب الأمامي".
أكد مُعدّ قائمة الأثرياء في صحيفة صنداي تايمز، روبرت واتس، أن الطفرة في أعداد المليارديرات قد انتهت بالفعل.
تابع واتس اتجاهات الأثرياء على مدى عقد، ولاحظ أن المزاج السائد لا يتسم بالغضب، بل بالإرهاق والتردد، وأعرب عن قلق النخبة الثرية من تراجع جاذبية المملكة المتحدة كوجهة لبدء أو تطوير الأعمال.
وألغت حكومة حزب العمال، بقيادة رئيس الوزراء كير ستارمر، امتيازًا ضريبيًا تاريخيًا كان يسمح لغير المقيمين -وهم أجانب يقيمون في المملكة المتحدة لكنهم يملكون مصادر دخل خارجها- بتجنب الضرائب على أرباحهم العالمية.
ورث الحزب التغيير من الحكومة المحافظة السابقة، لكنه عزز القيود ودخلت التعديلات حيّز التنفيذ في أبريل.
وذهبت الحكومة أبعد من ذلك حين ألغت الإعفاءات الخاصة بضريبة الميراث على الأصول خارج البلاد، وتُعد ضريبة الميراث البريطانية من الأعلى عالميًا، بمعدل يصل إلى 40%، رغم أن التركات تدفع في الغالب أقل بسبب الاستثناءات القانونية.
وتتوقع الحكومة أن تحقق هذه التعديلات عائدات بقيمة 12.7 مليار جنيه إسترليني (نحو 17.1 مليار دولار) خلال خمس سنوات، بهدف تمويل المدارس والمستشفيات وعيادات الأسنان التي تعاني من نقص مزمن في التمويل.
لكن يحذر منتقدون من أن هذه الإجراءات قد تؤدي إلى عكس ما ترمي إليه، إذ يشير معهد الدراسات المالية إلى أن أغنى 1% من دافعي الضرائب يسهمون بـ29% من إجمالي إيرادات ضريبة الدخل.. إذا غادر هؤلاء، قد تخسر الخزينة بدلًا من أن تكسب.
وقدّر مركز أبحاث الاقتصاد والأعمال أنه في حال غادر ربع غير المقيمين، ستضيع المكاسب، أما إذا غادر نصفهم، فستخسر الخزينة 12.2 مليار جنيه إسترليني (نحو 16.4 مليار دولار) خلال فترة البرلمان الحالية.
وأكد مولينز أنه دفع ما يزيد على 100 مليون جنيه إسترليني كضرائب خلال مسيرته المهنية التي امتدت لـ55 عامًا، وقال: "لست ضد الضرائب، لكن مع تعدد الضرائب -كضريبة الميراث وضريبة مكاسب رأس المال- يبدو أنهم يعاقبون المنتجين بدلًا من دعمهم"، ويفكر حاليًا في تأسيس عمل جديد في مجال السباكة بدبي.
السوق العقارية
لاحظ مدير مبيعات العقارات الفاخرة في شركة "نايت فرانك"، ستيوارت بيلي، تزايدًا في عدد العقارات المعروضة من قِبل الأثرياء بعد الإعلان عن التعديلات الضريبية، معتبرًا أن السوق تحولت إلى "سوق للمشترين".
أوضح أن الخيارات في مناطق مثل نايتسبريدج وبلغرافيا باتت واسعة، رغم أن الطلب ما يزال قائمًا، ولا سيما من قبل الأمريكيين.
وسجّل عدد الأمريكيين الذين تقدموا للحصول على الجنسية أو الإقامة البريطانية خلال العام الماضي رقمًا قياسيًا بلغ 6618 شخصًا، كما تقدّم 1900 أمريكي بين يناير ومارس 2025، وهو أعلى رقم في ربع سنوي مسجل.
ربط بيلي هذه الزيادة بتغيّر سعر صرف العملة، وقال إن الظاهرة بدأت منذ رئاسة دونالد ترامب.
مواقف حذرة
أكدت المحامية المختصة بالضرائب والثروات الخاصة كلير موريس أن "عددًا كبيرًا جدًا" من عملائها غادر بالفعل بسبب المخاوف من التعديلات، ولا سيما ضريبة الميراث، وأشارت إلى أن عدد من امتنعوا أصلًا عن القدوم بسبب هذه التغييرات قد يكون أعلى مما تتصوره السلطات.
وكتبت كايتلين موران، الكاتبة في صحيفة "تايمز أوف لندن"، مقالًا بعنوان: "الأثرياء يغادرون بريطانيا.. وأنا لست آسفة"، أكدت فيه أن بعض النخبة الثرية "ليسوا جيرانًا جيدين"، في إشارة إلى الأجواء الباردة في بعض الأحياء الراقية.
وأشار الخبير الاقتصادي في جامعة وارويك، أرون أدفاني، إلى تجربة عام 2017، عندما أدت تغييرات ضريبية سابقة إلى مغادرة 5% من غير المقيمين، بينما بقي الباقون ودفعوا ضرائب أعلى بنسبة 50% .. لكن هذه المرة، يرى أدفاني أن عدد المغادرين قد يكون أكبر، بسبب حجم التغييرات وتوقيت تنفيذها.
أوضح أن من يغادر قبل تاريخ معين قد يتجنب دفع ضريبة الميراث الجديدة، وهو "حافز قوي لاتخاذ القرار الآن".
ولفت أدفاني إلى أن نمط الحياة يلعب دورًا مهمًا في قرار المغادرة، إذ يصعب على العائلات التي لديها أطفال في مدارس خاصة مغادرة البلاد، مقارنة بالمتقاعدين ممن يمتلكون عقارات في الجنوب الأوروبي، مع ذلك، يتوقع أن يكون الأثر النهائي على الخزينة إيجابيًا.
وأوضح الخبير السياسي في كلية لندن للاقتصاد، توني ترافرز، أن ما يحدث في بريطانيا لا يختلف عن اتجاه عالمي أوسع يشهد "فرزًا" بين الدول ذات الضرائب المرتفعة وتلك التي تجتذب الأثرياء بحوافز ضريبية، وقال: "لو أراد الأثرياء فعلًا الرحيل، لكانوا غادروا نايتسبريدج أو مانهاتن إلى جزر البهاما منذ عقود، لكنهم لم يفعلوا".
تراجع أعداد المليارديرات
سجلت قائمة صنداي تايمز للأثرياء لعام 2025 تراجعًا في عدد المليارديرات إلى 156، مقارنة بـ165 في العام الماضي – وهو أكبر انخفاض في تاريخ القائمة الممتد 37 عامًا.
أعاد روبرت واتس هذا الانخفاض إلى عوامل تشمل السياسات الضريبية، وارتفاع أسعار الفائدة، وجاذبية ولايات قضائية أكثر مرونة في تعاملها مع الثروات.
أشار إلى أن كبار السن من الأثرياء قلقون بشدة من مصير شركاتهم بعد الوفاة، مع التشديدات الجديدة على أصولهم الخارجية.