تراجع الحريات بدول الغرب.. مجتمع "الميم" في مواجهة صعود المحافظين والمد اليميني
تراجع الحريات بدول الغرب.. مجتمع "الميم" في مواجهة صعود المحافظين والمد اليميني
باتت تطلعات مجتمع الميم في نيل حقوقه داخل قلاع حقوق الإنسان التقليدية في دول الغرب عرضةً لرياح التهديدات والانتهاكات المتكررة، خاصة في الولايات المتحدة والمجر.
ويرى عضو في الحزب الجمهوري الأمريكي، تحدث في تصريح إلى "جسور بوست"، أن "التيار المحافظ الصاعد هو من يرفض هذه الحقوق، والرئيس السابق دونالد ترامب لا يفعل سوى تلبية تطلعات قاعدته الانتخابية، وهو نمط بات يتكرر في عدة دول غربية".
من جانبه، يعد خبيراً في الشؤون الدولية أن صعود اليمين المتطرف في الولايات المتحدة والمجر يمثّل عاملًا محوريًا في التراجع الفعلي عن الحريات الفردية، وعلى رأسها حقوق مجتمع الميم، مشيرًا إلى أن الغرب يشهد حاليًا تناقضًا بنيويًا بين خطابه المعلَن وممارساته الواقعية، إلى جانب أن الحريات أصبحت خاضعة لحسابات انتخابية واستجابة لضغوط التيارات المحافظة المتنامية.
قيود متزايدة
في 2 يونيو الجاري، أعلنت إدارة المتنزهات الوطنية الأميريكية إغلاق حديقة دوبونت سيركل، الواقعة في قلب العاصمة واشنطن، خلال عطلة نهاية الأسبوع التي تتزامن مع احتفالات "وورلد برايد"، أحد أكبر الفعاليات الدولية الداعمة لحقوق مجتمع الميم والتي من المتوقع أن تستقطب ملايين الزوار.
ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست، عزت الإدارة قرارها إلى "سجل من السلوكيات التخريبية والفوضوية الناتجة عن أنشطة غير مرخصة" شهدتها الحديقة خلال عطلات نهاية الأسبوع الأخيرة.
وقال المتحدث باسم الإدارة، مايك ليترست، إن الهدف من الإغلاق هو "حماية المجتمع والزوار، والحفاظ على أحد أبرز الأماكن العامة في العاصمة"، في حين عد المفوض المحلي لمنطقة دوبونت، جيف روكاوير، أن القرار يُشكّل "إهانة كبيرة ليس فقط لمجتمع الميم، بل لجميع سكان الحي"، مشددًا على البعد الرمزي والتاريخي للحديقة في نضالات الحركات الحقوقية.
بدورها، عبرت منسقة الحفلات وعضو مجتمع الميم، "دي جي فوناتيك" (كايري رايت)، عن خيبة أملها، مشيرة إلى أنها كانت تنوي تقديم عرض موسيقي في ساحة النافورة كما جرت العادة منذ أربع سنوات.
وقالت: "هذا مجتمع مسالم نحاول دعمه، ففقدان هذه المساحة في مناسبة بهذا الحجم يؤثر -ليس فقط على الحضور- في الصورة العامة لمجتمعنا".
وأشار ليترست إلى أن القرار يتماشى مع التوجيهات التنفيذية الصادرة عن الرئيس ترامب، والتي تركز على "حماية المعالم والرموز الفيدرالية".
وكانت منظمة العفو الدولية قد أكدت في تقرير لها حول أول 100 يوم من حكم ترامب أن سياساته خلقت مناخًا معاديًا لمجتمع الميم، ولا سيما العابرين جنسيًا، مشيرة إلى "محاولة ممنهجة لمحو وجودهم قانونيًا.
تصعيد مجري متوازي
ولم تقتصر هذه الممارسات على الولايات المتحدة، إذ أقر البرلمان المجري، الخاضع لهيمنة اليمين الشعبوي المتحالف مع الرئيسين بوتين وترامب، قانونًا في أبريل الماضي يحظر تنظيم التظاهرات العامة لمجتمع الميم. ووصفت لجنة هلسنكي المجرية هذا القانون بأنه "تشريع الخوف".
ويُعزى هذا التشريع إلى الائتلاف الحاكم بقيادة رئيس الوزراء فيكتور أوربان، المعروف بخطابه المحافظ، وردًا على القانون، نظم آلاف المجريين مظاهرة تهكمية في بودابست مرتدين ملابس رمادية وحاملين لافتات تنتقد "تجريم الألوان والتنوع"، بدعوة من حركة ساخرة تُدعى "تو تيلد دوج"، التي سخرت من سياسات أوربان باعتبارها محاولة لتجاهل قضايا جوهرية كالتضخم وأزمة السكن.
ومنذ إعادة انتخاب ترامب، كثف أوربان من خطابه المعادي لمجتمع الميم ضمن حملة لتقوية موقعه قبيل الانتخابات المرتقبة في 2026، وكان قد أطلق في 2021 قانونًا يمنع "الترويج للمثلية الجنسية" لمن هم دون 18 عامًا، ما أثار انتقادات واسعة من الاتحاد الأوروبي ومنظمات حقوق الإنسان.
إعادة تشكيل المجال العام
في هذا الإطار، يرى الدكتور ديمتري بريجع، خبير الشؤون الأوروبية والدولية، أن صعود اليمين المتطرف في كل من الولايات المتحدة والمجر أصبح عاملاً حاسماً في تقليص الحريات الفردية، مشيرًا إلى أن هذه التيارات تعتمد على الخطاب الشعبوي والتحريض ضد "الآخر" كأدوات لحشد الدعم السياسي.
وأضاف أن هذه الممارسات الإقصائية باتت مشروعة سياسيًا، سواء عبر التشريعات، أو القرارات الإدارية، أو الحملات الإعلامية الممنهجة، كما اتضح في قرار إغلاق دوبونت سيركل بالتزامن مع فعاليات WorldPride 2025.
وحذر بريجع من أن الغرب يعيش حالة من التناقض البنيوي العميق، إذ يستمر في تصدير خطاب العدالة والحرية، في حين تتسع داخليًا دوائر التمييز وتتوالى الإجراءات التي تقيّد أنشطة جماعات بعينها، أبرزها مجتمع الميم. وأكد أن هذا التراجع لم يعد عرضيًا، بل يعكس تحوّلاً في بنية النظام السياسي، حيث أصبحت الحريات رهينة لمعادلات انتخابية وضغوط محافظة متصاعدة.
وأضاف أن "الانتهاكات لم تعد أحداثًا معزولة، بل تسير في اتجاه تصعيد ممنهج، تدعمه -ضمنيًا أو صراحة- مؤسسات وسلطات، ما يُهدد جوهر الاستثناء الليبرالي الذي طالما تميز به الغرب".
تراجع القيم الليبرالية
وتوقع الدكتور ديمتري بريجع أن المرحلة المقبلة ستشهد تصعيدًا أكثر حدة ضد مجتمع الميم، لا سيما في السياقات التي يشهد فيها اليمين المتطرف تمددًا وتحولًا إلى مركز القرار، قائلاً: "في ظل هذا الواقع، تبدو المرحلة القادمة أشد قسوة، إذ يُرجّح استمرار الممارسات التقييدية، وتوسيع رقعة الانتهاكات، بدعم من مؤسسات رسمية وتحت غطاء قانوني".
ويرى بريجع أن التجربة الغربية الحالية تبرهن على أن الحقوق ليست مكتسبات دائمة، بل خاضعة لتقلبات الظرف السياسي والضغط المجتمعي، الأمر الذي يُهدد بتقويض التراكمات التي تحققت على مدار عقود في مجال الحريات المدنية.
ويؤكد أن ما نشهده اليوم ليس مجرد انتكاسة عرضية، بل يمثل "انزلاقًا بنيويًا" في بنية الديمقراطيات الغربية نحو نموذج من الليبرالية الانتقائية، تُمنح فيه الحقوق أو تُسحب بناءً على المزاج السياسي والاعتبارات الانتخابية.
وأوضح ديمتري، أن هذا التحول يُقوّض مبدأ "الحقوق غير القابلة للتصرف" من خلال تسويغ قانوني وسرديات تُضفي على الانتهاكات طابع الضرورة الأمنية أو حماية الهوية الثقافية، قائلاً: "في هذا المناخ، تتحول الدولة من ضامن للحقوق إلى طرف فاعل في معادلة القمع، ليس فقط على المستوى الرمزي، بل أحيانًا على مستوى الممارسة المادية المباشرة".
ويرى بريجع أن هذا التحول يتزامن مع حالة من الانقسام والتشظي داخل الخطاب التقدمي نفسه، الذي بات إما عاجزًا أو غير راغب في مواجهة المد المحافظ، خشية من خسارة التأييد الشعبي أو تعميق الانقسامات الداخلية.
وتابع: "الأكثر خطورة أن هذا التآكل لا يحدث في الهامش، بل في صلب المؤسسات الليبرالية الغربية التي طالما اعتُبرت مرجعية أخلاقية وسياسية عالمية، ومع هذا التراجع، يفقد الغرب موقعه الأخلاقي وقدرته على الدفاع عن قضايا الحريات خارج حدوده، حيث بات من السهل الطعن في مصداقيته من قبل أنظمة متهمة عادة بانتهاك حقوق الإنسان، لكنها تجد في السلوك الغربي الحالي مبررًا لانتهاكاتها".
واختتم بريجع حديثه، قائلاً: "ما يواجهه مجتمع الميم اليوم لا يقتصر على أزمة حقوق، بل هو في جوهره صراع على الشرعية والتمثيل في المجال العام، وعلى موقع هذه الفئة داخل النظام الرمزي والقانوني للمواطنة".
وتابع "ما لم يُعَد تأسيس تعاقد ديمقراطي جديد يُوازن بين الحقوق والمصلحة العامة، ويُعيد الاعتبار للفئات المهمشة دون انتقائية أو مساومة، فإن التصعيد سيكون سمة المرحلة المقبلة، ليس فقط ضد مجتمع الميم، بل ضد الحقوق المدنية بشكل عام، في عملية إعادة رسم شاملة لخريطة السلطة الرمزية في الغرب، تستبعد المختلف وتُعلّق الحقوق على جدار المزايدات السياسية، بدلًا من أن تستند إلى قواعد دستورية ثابتة".
استجابة للمد المحافظ
من جهته، يرى الدكتور نبيل ميخائيل، أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن وعضو الحزب الجمهوري، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن الرئيس دونالد ترامب عبّر بوضوح عن رفضه لممارسات المثليين الجنسيين، مشيرًا إلى أن "هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها رئيس أمريكي سلطاته لمعارضة التوجهات السياسية الداعمة للمثلية الجنسية".
وأضاف: "بهذا الموقف، يوجّه ترامب رسالة دعم قوية لقاعدته الانتخابية، التي تضم عددًا كبيرًا من المحافظين الدينيين والاجتماعيين"، متوقعًا أن "مجتمع الميم لن يحظى بالكثير من الامتيازات خلال فترة حكم ترامب".
وأشار ميخائيل إلى أن ما يحدث في الولايات المتحدة ليس استثناءً، بل هو جزء من موجة أوسع من التحولات التي تشهدها عدة دول غربية، مؤكدًا أن ما يجري هو استجابة مباشرة لصعود التيار المحافظ وتزايد تأثيره في صنع القرار.
وتكشف التحولات الراهنة في الغرب عن تراجع واضح في منظومة الحقوق والحريات، حيث بات مجتمع الميم في مواجهة مباشرة مع صعود التيارات المحافظة، وتوظيف الحقوق في معادلات سياسية وانتخابية، وبين تناقض الخطاب والممارسة، تبدو الحريات الفردية على مفترق طرق، مهددة بفقدان ما تحقق من مكاسب تاريخية.