ترامب وماسك.. معركة كسر العظم بين رأس المال والسلطة تهدد بخنق الاقتصاد العالمي

ترامب وماسك.. معركة كسر العظم بين رأس المال والسلطة تهدد بخنق الاقتصاد العالمي
ترامب وإيلون ماسك - أرشيف

في عالم يتداخل فيه النفوذ السياسي بالاقتصاد الرقمي، ويتحوّل فيه الرأي العام إلى أداة قوة لا تقل شأناً عن جيوش الدول، يصعب تجاهل الصراع المحتدم بين الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والملياردير التكنولوجي إيلون ماسك. 

هذا الاشتباك، الذي لم يعد خفياً أو مبطّناً، بل أصبح علنياً وصاخباً، يمثل أكثر من مجرد خلاف شخصي أو منافسة بين زعيم سياسي ورائد تكنولوجيا؛ إنه انعكاس لتغيّر بنيوي في موازين السلطة داخل الولايات المتحدة، وفي النظام العالمي بأسره، حيث بات من الممكن أن يهدد نزاع بين شخصين مصالح اقتصادية، ومشاريع فضاء، واستقرار أسواق، ومستقبل العمل السياسي ذاته.

بدأ كل شيء بتحالف غير متكافئ لكنه قائم على المنفعة المتبادلة. دعم ماسك ترامب انتخابياً بشكل غير مباشر من خلال تبرعات تجاوزت 270 مليون دولار عبر لجان سياسية مؤيدة، وحصل بالمقابل على نفوذ واسع داخل الدوائر الحكومية، عُيّن في مناصب استشارية، وتوسّعت شركاته—Tesla وSpaceX وStarlink—بمساعدة عقود اتحادية بلغت قيمتها الإجمالية أكثر من 48 مليار دولار، وفق ما نقلته مجلة Wired.

جاء الردّ الرئاسي سريعاً، فهدد ترامب علناً بمراجعة كل العقود الحكومية مع شركات ماسك، مشيراً إلى بند "المصلحة العامة" في العقود الفيدرالية الذي يتيح للرئيس إلغاء الاتفاقيات في حال تضرر الأمن الوطني أو السيادة الاقتصادية. 

وبهذا التهديد، اهتزت أسواق المال كما لم تهتز منذ سنوات، في يوم واحد، فقدت أسهم Tesla نحو 14.2% من قيمتها، ما مسح أكثر من 150 مليار دولار من قيمتها السوقية، وخسر ماسك شخصياً نحو 34 مليار دولار من ثروته، بحسب تقرير Bloomberg بتاريخ 6 يونيو 2025.

لكن هذا الانهيار لم يكن محصوراً بـ Tesla، بل ترددت أصداؤه في مختلف القطاعات، وأسهم Rocket Lab المنافسة لـ SpaceX ارتفعت بنسبة تراوحت بين 9 و11%، في إشارة إلى تحول توقعات السوق نحو احتمال توجيه العقود الحكومية لمنافسين، في الوقت نفسه، تراجعت أسهم Filtronic—شركة تزود Starlink بمكونات رئيسية—بنسبة 15%، قبل أن تتعافى لاحقاً بعد إشارات عن تهدئة التوتر.

مرآة الاقتصاد الأمريكي

مؤشر S&P 500، الذي يُعد مرآة الاقتصاد الأمريكي، فقد نحو 0.5% من قيمته خلال 24 ساعة فقط. هذا الرقم رغم صغره الظاهري، يُترجم إلى مليارات الدولارات من الخسائر في القيمة السوقية الإجمالية، ويعكس حجم التأثير الذي يمكن أن يُحدثه تصادم بين قوتين من هذا النوع. إنها ليست مجرد مؤشرات بورصوية، بل علامات على تآكل الثقة المؤسسية، وتراجع قدرة الدولة على الفصل بين السياسة والاقتصاد.

في قطاع الفضاء، كانت الضربة أعنف. وكالة ناسا تعتمد بشكل كبير على SpaceX في تنفيذ برامجها الفضائية، بما فيها مهمات الهبوط على القمر ومحطات المدار الأرضي المنخفض، بإجمالي تمويل حكومي يتجاوز 22 مليار دولار. 

وفي حال مضت الإدارة في تفعيل قرارات الإلغاء، فإن الجدول الزمني لهذه البرامج سيتعرض لاضطرابات غير مسبوقة. حتى مشاريع مدنية ذات طابع إنساني—مثل توسيع تغطية الإنترنت عبر Starlink في مناطق نائية أو متضررة من الحروب—باتت على المحك، لا بسبب إخفاق تقني، بل بفعل شجار سياسي شخصي.

في خضم هذه الفوضى، ظهرت قضية أخرى لا تقل أهمية: مستقبل التوظيف الفيدرالي. مبادرة DOGE التي كان ماسك مستشارًا لها، كانت تهدف لإعادة هيكلة الجهاز البيروقراطي من خلال رقمنة آلاف الوظائف. بعد الخلاف، بدأت الحكومة بإعادة تقييم هذه البرامج، وأدى ذلك إلى تسريح 10 آلاف موظف اتحادي مؤقت، ما فتح الباب لتساؤلات عميقة حول الاعتماد على شركات خاصة لإدارة الوظائف العامة. إذا كان الموظف الفيدرالي في نهاية المطاف تابعاً لشركة، فهل تصبح الدولة رهينة لمزاج المستثمر؟

وتشير أرقام التشغيل في مصانع SpaceX ومشروع Starship في "ريو غراندي فالي" إلى توظيف أكثر من 7200 شخص من المجتمع المحلي، مما ساهم في تخفيض نسبة البطالة في المنطقة من 8.5% إلى 5.2% خلال عامين فقط، وهذا يعزز خطاب مؤيدي ماسك بأن نفوذه لا يقتصر على السيطرة الرقمية، بل يمتد إلى خلق قيمة اقتصادية فعلية. ومع ذلك، فإن هذه الإنجازات لا تحصّنه من سهام النقد حين يُستخدم نفوذه الإعلامي لتشكيل الرأي العام وتوجيه السياسة.

صراع النفوذ بين ترمب وماسك

قال المحلل الاقتصادي اليمني، ماجد الداعري، في تصريح صحفي إن الصراع المتصاعد بين الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب والملياردير إيلون ماسك لم يعد شأناً داخلياً أمريكياً، بل تحوّل إلى معركة سياسية اقتصادية ذات طابع دولي من شأنها أن تعيد تشكيل التوازنات التجارية العالمية. 

وأوضح في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن تداعيات هذا الصراع باتت تتجاوز حدود الولايات المتحدة، لتنذر بارتدادات عنيفة على أسواق المال والتجارة الدولية، خصوصاً في ظل انقسام داخلي أمريكي حاد بين مؤيدي سياسات ترمب الاقتصادية والضريبية، ومعارضين كُثر يرون في توجهاته تهديداً مباشراً لمبادئ السوق الحر واتفاقيات التجارة العالمية.

وأشار إلى أن موقف ماسك الرافض للسياسات الحمائية المتطرفة التي يروج لها ترمب، خاصة في ما يتعلق بمضاعفة الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة، يعكس تياراً اقتصادياً ليبرالياً واسعاً داخل المؤسسات الأمريكية، يضم عدداً من كبار رجال الأعمال وصنّاع القرار والمسؤولين، إلى جانب دعم غير معلن من قوى اقتصادية كبرى على مستوى العالم.

ولفت إلى أن ترامب يدافع عن سياساته باعتبارها "حقاً سيادياً مشروعاً"، متذرعاً بتراكم ديون تاريخية تتجاوز 32 تريليون دولار، ويبرر خطواته بضرورة تعويض الخسائر الاقتصادية الضخمة التي لحقت بالاقتصاد الأمريكي خلال العقود الأخيرة، إلا أن تلك التبريرات، حسب الداعري، لا تجد قبولاً لدى الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، الأمر الذي دفع دولاً كبرى كالصين والدول الأوروبية إلى الرد بإجراءات مماثلة، عبر فرض رسوم انتقامية على الصادرات الأمريكية، ما أوقع قطاعات التصنيع والتجارة والخدمات في أمريكا تحت ضغط هائل، وفتح الباب أمام موجة من الانكماش الاقتصادي المحتمل.

وأضاف أن الأثر الأكبر لتفاقم هذا الصراع ينعكس على مناخ الأسواق وثقة المستثمرين، حيث تؤدي حالة عدم اليقين السياسي والاقتصادي إلى تقلبات حادة في الأسواق المالية الأمريكية والعالمية، وتراجع الاستثمارات، وتباطؤ النشاط الاقتصادي. كما أن تلويح ماسك بتأسيس حزب سياسي ثالث يعارض الحزبين التقليديين (الجمهوري والديمقراطي).

وأوضح الداعري، أن مثل هذا الصراع لا يمكن فصله عن السياق العالمي، حيث يتزامن مع أزمة اقتصادية عالمية تتفاقم بفعل الكساد المتصاعد والحروب الإقليمية والمجاعات الممتدة، ناهيك عن الحرب التجارية المستمرة بين الولايات المتحدة والصين، التي تُعد أحد أهم العوامل المسببة لاضطراب الأسواق العالمية منذ سنوات. وأي هزة في الاقتصاد الأمريكي لا بد من أن تمتد شظاياها إلى بقية العالم، نظراً لعمق التشابك الاقتصادي والنقدي بين أمريكا وبقية الاقتصادات الكبرى.

وأكد أن النظام السياسي والمؤسسي في أمريكا يمر بمرحلة حرجة وغير مسبوقة من الانقسام، نتيجة سياسات ترمب التي وصفها بـ"الرعناء" والمرتكزة إلى نهج رأسمالي متشدد يسعى لتحقيق مكاسب داخلية على حساب الاستقرار الاقتصادي العالمي. وأشار إلى أن هذه السياسات واجهت مقاومة واسعة، أجبرت الإدارة الأمريكية في مراحل سابقة على التراجع عن بعض الإجراءات، بعد أن تبيّن افتقارها للأسس القانونية والدراسات الاقتصادية الرصينة التي تبررها.

واختتم الداعري تصريحه بالتأكيد على أن العلاقة بين السلطة والمال في الولايات المتحدة هي علاقة تاريخية قائمة على تبادل المصالح، وأي خلل في هذا التوازن يهدد الاستقرار السياسي والاقتصادي في آن معاً، ففي أمريكا، الاقتصاد هو من يصنع الزعماء، وليس العكس وقد تجسّد هذا بوضوح في شخصية دونالد ترمب، رجل الأعمال الذي صعد من عالم الفنادق والقمار إلى سدة الحكم، بدعم من ثروته وشبكة مصالحه واليوم، لا يُستبعد أن يعيد إيلون ماسك الكرّة، بدافع من صراع المصالح ذاتها، ولكن في مسار معاكس.

صراع يهدد الاستقرار العالمي

يرى أبوبكر باذيب، مدير المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية في هولندا، أن التصعيد المتسارع في الصراع بين الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ورجل الأعمال الملياردير إيلون ماسك، يعكس اختلالًا خطِرًا في مناخ الاستثمار العالمي، ويبعث برسائل سلبية إلى الأسواق مفادها أن مرحلة جديدة من عدم اليقين قد بدأت.

ويؤكد باذيب، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن هذا النوع من التوتر يخلق ضبابية حادة في المشهد، ويجعل كثيرًا من المستثمرين، سواء المؤسسيين أو الأفراد، يترددون في الدخول بأي شراكات أو مغامرات اقتصادية لها علاقة بأي من الطرفين، فالصراع بين رمزين بهذا الحجم لا يُقرأ فقط من زاوية خلاف شخصي أو صراع مصالح ضيق، بل يُنظر إليه باعتباره مؤشّرًا على تشظٍ أعمق داخل منظومة الحكم الأمريكية، وعلى تشكّل ملامح جديدة لمعركة السلطة بين رأس المال التكنولوجي والرأسمالية السياسية.

ويشير باذيب إلى أن هذا النزاع لا يمكن عزله عن الملفات السياسية الكبرى التي يحملها ترامب في حملته الانتخابية، والتي تشمل ضرائب وجمارك وخطابًا عدائيًا تجاه أوروبا والحرب في أوكرانيا، وكلها عناصر تصب الزيت على نار التوترات الجيوسياسية. وهذا كله يؤدي إلى إعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية، وربما انقلابها، ما قد يحدث هزة كبيرة في الأسواق، ويُخلخل الثقة بمستقبل السياسات الاقتصادية الأمريكية.

ويلفت باذيب إلى نقطة بالغة الأهمية، تتمثل في العلاقة بين القيادة السياسية في الولايات المتحدة وقطاع التكنولوجيا، خاصة وأن ترامب كان منذ بداية حملته الانتخابية حريصًا على استقطاب أبرز الفاعلين في هذا القطاع، بل وكانوا من أبرز حضور حفل تنصيبه، وكان يدرك حينها – وربما لا يزال – أن قطاع التكنولوجيا لم يعد مجرد محرّك اقتصادي، بل بات يقود الرأي العام، ويصنع التوجهات المجتمعية، ويؤثر في قرارات المستهلك والمواطن والناخب.

وحول الأثر الاجتماعي، يرى باذيب أن السنة الأولى من عهد ترامب –إن عاد إلى البيت الأبيض– ستكون سنة اهتزاز كبير في الثقة بين المجتمع والنخبة السياسية، وقد تفرز استقطابًا حادًا بين الشارع الأمريكي من جهة، وبين طبقة النخبة الاقتصادية والإعلامية والسياسية من جهة أخرى، كما يتوقع أن يتحول كل تصريح من ترامب أو تغريدة من ماسك إلى مادة دسمة للتداول الإعلامي، ومصدر محتمل للسخرية أو الجدل السياسي، مما سيخلق مشهدًا اجتماعيًا مشحونًا تتداخل فيه السخرية الشعبية بالتحليلات الاستراتيجية.

ويختتم باذيب تصريحه بالإشارة إلى الخلفية الاستثمارية التي أتى منها ترامب، معتبرًا أن تشابهه مع ماسك في الطموحات الاقتصادية والجرأة على المغامرة هو ما جمع بينهما في البداية، لكنه أيضًا ما فجر بينهما الصراع وفي ظل هذا الواقع، يرى باذيب أن الإعلام ومراكز الأبحاث وصنّاع القرار مطالبون اليوم بمراقبة هذه المواجهة من كثب، لأن انفجارها الكامل قد لا يُبقي شيئًا في مأمن، لا في واشنطن، ولا في العالم.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية