ضحايا بلا معركة.. ألغام الحرب تخطف براءة الأطفال في ليبيا

ضحايا بلا معركة.. ألغام الحرب تخطف براءة الأطفال في ليبيا
أطفال في ليبيا- أرشيف

رغم انتهاء المعارك في عدد من مناطق ليبيا، فإن الأرض ما تزال ملغمة بما يهدد حياة المدنيين يوميًا، الألغام ومخلفات الحرب، التي خلّفتها سنوات النزاع، باتت العدو الخفي الذي يتربّص بالأهالي، ليحول المزارع إلى مناطق موت، والبيوت إلى قنابل مؤجلة.

في جنوب طرابلس، كما في مدن الجبل الغربي والساحل، تعاني العائلات من خطر دائم، أطفال فقدوا أطرافهم وهم يلعبون، ومزارعون هجروا أراضيهم خوفًا من الأجسام الغريبة المدفونة تحت التراب، ومع غياب استراتيجية وطنية واضحة، يبقى العبء الأكبر على عاتق المنظمات الإنسانية التي تجاهد، بإمكانات محدودة لاحتواء الكارثة.

في أحد أحياء الجنوب الليبي، تجمع عدد من الأطفال في ملعب ترابي بسيط لممارسة لعبتهم المفضلة كرة القدم، كانت ضحكاتهم تملأ المكان، وأقدامهم الصغيرة تركض وراء الكرة دون أن يدركوا أن الأرض تخبئ لهم ما هو أخطر من أي خصم في اللعب.

وخلال المباراة، لمح أحدهم جسماً غريباً يلمع على جانب الملعب، فضول الطفولة دفعهم نحوه، فتناولوه بحذر ووضعوه على جنب، ليكملوا اللعب دون أن يعيروه اهتمامًا كبيرًا.

ومع اقتراب الغروب، وحين قرر الأطفال العودة إلى منازلهم، أخذوا الجسم الغريب وبدؤوا يعبثون به، يطرقونه ويضربونه بأدوات بسيطة لحظات فقط، وتحول صوت الضحك إلى صراخ، حين دوى انفجار عنيف هزّ الحي بأكمله.

كان الانفجار نتيجة لمخلفات حرب ربما لغم أو قذيفة غير منفجرة، لم يكن يدرك هؤلاء الأطفال ماهيته، ولم يكن لهم ذنب سوى أنهم وُلدوا في بيئة ما زالت تحمل بقايا الموت في كل زاوية.

أُصيب 9 أطفال بجروح متفاوتة، أحدهم يبلغ من العمر 13 عامًا، كانت إصابته الأخطر، حيث نقل إلى العناية الفائقة بعد أن أصيب بشظايا في الصدر، من بين المصابين أيضًا فتاة صغيرة لم تكن تلعب معهم، لكن سوء الحظ جعلها تفتح باب منزلها المقابل للملعب لحظة الانفجار، فأصابتها الشظايا بشكل مباشر.

وفي منطقة أخرى من الجبل الغربي، تكررت المأساة، لكن هذه المرة بهدوء بعد المدرسة،  الطفل "أحمد عمر" ذو 9 سنوات، كان عائدًا من مدرسته الابتدائية حين لمح تحت شجرة زيتون جسمًا غريبًا يشبه إصبع يد بشرية، دفعه الفضول للعب به، وما هي إلا لحظات حتى وقع الانفجار.

أُصيب أحمد بحروق في ساقيه، وبُترت أصابع يده اليمنى، وتعرضت يده اليسرى لبتر جزئي في أطراف الأصابع، إضافة إلى إصابة بليغة في الكف، نُقل على أثرها إلى المستشفى، وما زال حتى اليوم يخضع للعلاج الطبي والنفسي، في محاولة لاستعادة ما يمكن استعادته من طفولته.

عودة تدريجية للنازحين

لكن المأساة لا تقف عند من نجا، بل تطول حتى أولئك الذين رحلوا، ففي عام 2020، وبعد أن هدأت الاشتباكات في جنوب العاصمة طرابلس، بدأت العائلات النازحة تعود تدريجياً لتفقّد منازلها.

أحد هؤلاء كان أبًا يعول أسرته المكونة من أربعة أفراد: زوجته، وولد، وبنت، اصطحب ابنه الكبير معه لتفقد منزلهم المتضرر، وبينما كان يقود سيارته في أحد الأحياء الملوثة ببقايا الحرب، مرّ فوق لغم أرضي، دوى انفجار هائل، واشتعلت السيارة لم ينجُ أحد.

خسرت الأسرة عائلها الوحيد، وعاشت الأم وابنتها في صدمة نفسية شديدة، تدهورت حالتهما الصحية والمادية، وبقيت الابنة لفترة طويلة تتلقى الدعم النفسي حتى تمكنت من العودة التدريجية إلى مقاعد الدراسة.

ثلاث قصص.. ثلاث زوايا للألم نفسه.. الطفولة التي تُبتر، البيوت التي تُفقد، والأحلام التي تُنتزع قبل أن تنضج.

في ليبيا، ما زال الأطفال (وهم الحلقة الأضعف) يدفعون ثمن الحروب حتى بعد صمت المدافع، وبينما تغيب خطط إزالة الألغام والتوعية المجتمعية، يبقى الخطر حاضرًا في كل ملعب، وكل طريق، وكل ظل زيتونة.

ورغم مرور أكثر من عقد على اندلاع الحرب في ليبيا، لا تزال البلاد تواجه خطرًا صامتًا يهدد حياة المدنيين يوميًا، يتمثل في الألغام ومخلفات الحروب المنتشرة على امتداد رقعتها الجغرافية.

في هذا السياق، أكد خالد الوداوي، رئيس قسم التوعية بالمركز الليبي للأعمال المتعلقة بالألغام ومخلفات الحروب، أن ليبيا لم تخرج بعد من حالة الطوارئ التي فرضتها النزاعات المسلحة المستمرة منذ عام 2011، مشددًا على أن حجم التلوث لم يعد مقتصرًا على الأماكن المفتوحة، بل أصبح “يدخل البيوت”.

ويُعد المركز الليبي جهة رقابية تعمل تحت إشراف وزارة الدفاع، وتُعنى بتنسيق ومراقبة الأنشطة المحلية والدولية المتعلقة بإزالة الألغام ومخلفات الحروب، وتقديم الدعم الفني للشركاء المنفذين، إلى جانب تحديد أولويات المناطق الأكثر تضررًا استنادًا إلى كثافتها السكانية ونسبة التلوث.

تاريخ ممتد منذ 1911

استعرض الوداوي جذور التلوث في ليبيا، مشيرًا إلى أن أولى حالات زرع الألغام تعود إلى عام 1911، وتفاقمت خلال الحرب العالمية الثانية، ثم ازدادت حدةً خلال الحرب الليبية – المصرية عام 1977، حيث زُرع ما يقارب 1.5 مليون لغم على الحدود، وقد ظل المدنيون خصوصًا الرعاة والمزارعين، يتعرضون للإصابات حتى مطلع ثمانينيات القرن الماضي.

لكن الانفجار الحقيقي للمشكلة بدأ عقب عام 2011، حيث تحولت المعارك إلى داخل المدن والأحياء السكنية، وزُرعت ألغام من دون خرائط، وتفككت مخازن السلاح لتصل الذخائر بسهولة إلى أيدي المدنيين، وبحسب الوداوي فقد بلغ عدد قطع السلاح المنتشرة عامي 2012 و2013 نحو 24 مليون قطعة، ما جعل ليبيا تحتل المرتبة الأولى عالميًا في انتشار مخلفات الحروب.

وأشار الوداوي إلى أن مدينة مزدة في الجبل صنفت ثالث أكثر المدن تلوثًا في إفريقيا، وتضم أكبر مخازن للذخيرة في شمال إفريقيا، فيما تبقى طرابلس ملوثة بفعل الاشتباكات التي وقعت خلال عامي 2019 و2020، بالإضافة إلى حوادث أكثر حداثة استمرت لساعات، لكنها خلفت كوارث إنسانية.

أما في الشرق فتعد مدينة درنة من أكثر المناطق تلوثًا، إضافة إلى أجزاء من بنغازي، في حين لا يزال الجنوب، وخصوصًا بين مرزق وسبها وكذلك الكفرة، يعاني من تلوث واسع، يصنف ضمن الأولويات القصوى.

وتضم المرحلة الثانية من مناطق الاستجابة مدناً مثل أوباري وبراك الشاطئ وطبرق، كونها تحتوي على مخازن ذخيرة، أما المنطقة الغربية من الزاوية إلى العجيلات فتقع ضمن الأولويات المتأخرة، رغم وجود بعض مواقع التلوث.

نقص الأفراد المؤهلين

يشير الوداوي إلى تحول خطِر طرأ على طبيعة التلوث خلال السنوات الأربع الأخيرة، إذ لم يعد يقتصر على المناطق المفتوحة أو المهجورة، بل أصبح ينتقل إلى داخل المنازل، حيث يحتفظ بعض المدنيين بذخائر ومخلفات حروب، ما يصعّب رصدها ويزيد من خطورة التعامل معها.

وأضاف أن نقص الكوادر المؤهلة يشكل عائقًا حقيقيًا، إذ يتطلب إعداد مختصين في هذا المجال وقتًا طويلاً، رغم توفر مستشارين أجانب وخبراء من سلاح الهندسة الليبي، فإن عددهم لا يزال محدودًا مقارنة باتساع الرقعة الجغرافية المتضررة.

وأوضح رئيس قسم التوعية أن المركز أنشأ قاعدة بيانات وطنية تضم معلومات دقيقة حول أماكن التلوث ونسب الخطر، وعدد الضحايا، وكذلك المناطق التي جرى تطهيرها وأُعيد تسليمها إلى الجهات المختصة، ويعمل المركز على مراحل تبدأ بجمع المعلومات، ثم تقييم مستوى التلوث، قبل إصدار أوامر التكليف لفرق الإزالة.

وأشار إلى أن الشريك الدولي الرئيس هو دائرة الأمم المتحدة لشؤون الألغام، فيما تشمل الشراكات المحلية وزارة الداخلية، رئاسة الأركان، سلاح الهندسة العسكرية، المباحث الجنائية، هيئة السلامة الوطنية، وجهاز الاستخبارات.

وأوضح الوداوي، أن عمل المنظمات الدولية مرتبط بمنح تقدمها دولهم، وبالتالي فإن أولويات المجتمع الدولي تؤثر بشكل مباشر في حجم المساعدة، وهو ما يعرقل استمرارية العمل، مضيفاً في حال تحقق الاستقرار السياسي، فإنه يتبعه استقرار أمني واجتماعي، لكن استمرار النزاع يضعنا في حالة طوارئ دائمة، وقد مضت 14 سنة ونحن نعمل بهذه الظروف.

وكشف الوداوي عن بدء العمل منذ عامين على خطة استراتيجية وطنية بالتعاون مع المجتمع الدولي والمؤسسات العسكرية والمدنية الليبية، تهدف إلى الحد من خطر الألغام ومخلفات الحروب، مشيرًا إلى أن الخطة تتطلب تنسيقًا وجهودًا طويلة المدى، وهي ما تزال قيد التحديث.

وجه الوداوي رسالة إلى المواطنين قائلاً: ليبيا لم تُنظف بعد من مخلفات الحروب، وإن لم تكن موجودة في منطقتك، فهي قد تكون في المناطق المجاورة التي تزورها، فاحذروا فهذه المواد هي العدو النائم.

ودعا المواطنين إلى عدم العبث بأي أجسام غريبة، والإبلاغ الفوري عنها، محذرًا من خطورتها على الأطفال والعائلات، كما شدد على أهمية استمرار الدعم الدولي، مؤكدًا أن ليبيا لا تزال ملوثة بدرجة كبيرة جداً.

واقع ميداني صعب

وفي الموضوع ذاته، سلّط مدير عمليات منظمة تواصل لنزع الألغام، عبد الحكيم عيسى، الضوء على واقع العمل الميداني الصعب، حيث يشرف على فرق متخصصة في التعامل مع البلاغات اليومية عن الألغام ومخلفات الحرب، قائلاً: نعمل وفقًا للمعايير الدولية، وننفذ عمليات في مناطق واسعة من المنطقة الغربية، أبرزها (العزيزية، الهيرة، السبيعة، السواني، الخلة، عين زارة، إضافة إلى الزنتان، مزدة، القلعة، والرجبان، وصولًا إلى العسة ومحيط محمية صراحة).

وتابع: نعمل بتنسيق وثيق مع مختلف الجهات ذات العلاقة، مثل وزارتي الدفاع والداخلية، وهيئة السلامة الوطنية، مشيراً إلى أن البيئة المهنية ضيقة ونعرف بعضنا البعض كمنظمات أو جهات رسمية، ما يسهل التنسيق والعمل المشترك.

وقال عيسى: نرغب بتوسيع فرقنا وتكثيف العمليات، لكن لا توجد إمكانات، التنسيق مع الجهات الحكومية موجود، لكنه لا يكفي لخلق تحول حقيقي، أحياناً نشعر أن جهودنا تذهب سدى فبمجرد الانتهاء من تنظيف منطقة ما، قد تندلع فيها مواجهات مجدداً وتعاد تلوثها، مثل مزرعة في العزيزية التي أعدنا تمشيطها ثلاث مرات خلال عشر سنوات. 

وأكد أن مئات الإصابات والوفيات قد وقعت، رغم أن الإحصاءات الرسمية محفوظة لدى المركز الليبي للأعمال المتعلقة بالألغام.

وتابع: رأينا مزارع هُجرت بالكامل، واقتصاديات محلية توقفت وانهارت، ومباني أهملت لأن الناس لا يستطيعون الاقتراب من أراضيهم، مشددًا على أن منظمته تعمل أيضًا على التوعية، من خلال فريقين ميدانيين، أما بالنسبة للدعم النفسي أو الاجتماعي لضحايا الألغام وذويهم هذا الجانب ليس ضمن اختصاص منظمتنا حالياً، لكننا نقر بأهميتها وندعمه، ونعمل مع شركائنا في المركز الليبي والمنظمات الأخرى التي تقوم بهذا الدور بكفاءة.

ولا تتلقى المنظمة أي دعم مالي محلي أو دولي، باستثناء بعض المعدات المقدمة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، مردفاً نحن بحاجة ماسة إلى التمويل، معدات الحماية، أجهزة الكشف، وعربات الإسعاف، الوضع الحالي لا يضمن استمرار العمل بوتيرة فعالة.

وفي نداء للدولة الليبية، قال عبد الحكيم: نحتاج إلى استراتيجية وطنية جادة للتعامل مع هذا الخطر، ما نراه اليوم هو تجاهل غير مبرر لقضية تهدد أرواح الأبرياء يوميًا.

أرقام مقلقة وتحديات مستمرة

أوضحت الدكتورة رشا عبد الفتاح، مسؤولة قسم ضحايا الألغام ومخلفات الحروب بالمركز الليبي، لـ"جسور بوست"، أن عمل القسم يركز على رصد الضحايا بعد توقف الاشتباكات، في حين تعود مسؤولية الضحايا خلال القتال لجهات أخرى معنية قائلة: نحن نعمل وفق معايير مستنبطة من المعايير الدولية، لأن طبيعة عملنا إنساني ويختص بضحايا الألغام ومخلفات الحروب بعد الاشتباكات، ولا يشمل حالات الإطلاق العشوائي خلال الاشتباكات.

وأضافت أن المركز بدأ في حصر الضحايا منذ عام 2012، لكن العملية واجهت عدة تحديات، أبرزها شُح المعلومات وغياب التنسيق بين الجهات المحلية والدولية التي كانت تحتفظ ببيانات الضحايا دون تبادلها، تعبئة بيانات البعض كانت خاطئة، وأخرى لم تُدرج أو فقدت مع الزمن، وهناك جهات لا ترغب أصلًا في تبادل المعلومات، بحسب قولها.

441 ضحية.. 21% منهم مختصون

وقدمت الدكتورة رشا إحصائية مفصلة لعدد الضحايا حتى الآن، والتي بلغت 441 ضحية، من بينهم 167 وفاة، 273 مصابًا، 409 من الذكور، و31 من الإناث، و90 ضحية من المختصين في مجال إزالة الألغام، بنسبة 21% من إجمالي الضحايا، وهي نسبة وُصفت بأنها (سيئة) نظرًا للخسائر في الكوادر الفنية المؤهلة.

وذكرت أن في بداية الحصر عام 2020، كانت نسبة المختصين من إجمالي الضحايا تصل إلى 85%، وذلك بسبب الاندفاع الكبير للمدنيين للعودة إلى بيوتهم عقب الحرب، ما دفع المختصين لمرافقتهم دون وجود خطة مسح شاملة للمنطقة أو معرفة مدى التلوث، ما زاد من حالات الإصابة والوفاة، مشيرة إلى أن أغلب الحوادث كانت تقع قرب وقت المغرب بسبب الإرهاق وقلة التركيز لدى الفرق العاملة.

أثر الكوارث الطبيعية

تركزت إحصائيات الضحايا في مناطق (سرت، مصراتة، ترهونة، بنغازي، طبرق، بن وليد، الوشكة، العزيزية، مزدة، ودرنة) وأوضحت أن الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات أسهمت في نقل مخلفات الحرب إلى مناطق جديدة، ما أدى إلى زيادة الإصابات.

وأكدت أن حملات التوعية التي نُفذت عامي 2019 و2020 أسهمت في تقليل الإصابات بشكل ملحوظ، وذلك بفضل التوعية، استقبلنا أكثر من 50 بلاغًا، وهو مؤشر على ارتفاع الوعي المجتمعي.

كما تم تدريب الفرق الطبية والطبية المساعدة، بعد تعرض عدد منهم لإصابات، بما في ذلك وفاة طبيبين في 2020، وتم تنظيم دورات طارئة شملت أيضًا مدنيين في طرابلس والمنطقة الوسطى، بالتعاون مع مركز طب الطوارئ والدعم، شملت تدريب 28 متدربًا.

وأشارت الدكتورة رشا إلى أن الدعم متوفر للضحايا لكنه غير منتظم، ففي سنوات 2012 و2013، كانت هناك منظمات وفرت أطرافاً صناعية وعلاجاً طبيعياً، أيضاً دعمًا لمشاريع صغيرة لأرباب الأسر المصابين حتى يتمكنوا من إعالة أسرهم،  لكن هذا الدعم لم يستمر بعد عام 2014.

وفي عام 2020، بدأت الدولة الليبية في تقديم دعم مباشر عبر جهاز الإسعاف والطوارئ ومركز طب الطوارئ، وتم نقل الحالات للمصحات الخاصة على نفقة الدولة عند الحاجة، كما يتم أحيانًا تسفير بعض الحالات لتلقي العلاج في تونس وتركيا، إضافة إلى تطوير خدمات العلاج الفيزيائي والأطراف الصناعية داخل ليبيا.

وأكدت الطبيبة أهمية الدعم النفسي خاصة للعائلات التي لديها أطفال تعرضوا لإصابات أدت إلى إعاقات، أحيانًا يتأثر الأهل نفسيًا أكثر من الطفل المصاب، ولذا يتم تقديم الدعم النفسي للأسرة بالكامل لتتمكن من تأهيل الطفل ودمجه في المجتمع.

ووجهت الدكتورة رشا رسالة للمدنيين بضرورة إتباع إجراءات السلامة وعدم الاقتراب من أي أجسام مشبوهة أو أماكن يُعتقد أنها ملوثة، مشددة على أهمية إبلاغ الجهات المختصة فورًا، متمنية أن يُوفر لكل مصاب العلاج المناسب والدعم النفسي والتهيئة اللازمة للعودة لحياته الطبيعية، وأن يتجنب الجميع تعريض أنفسهم وأطفالهم للخطر.

مساعٍ لنشر الوعي

في ظل التحديات الإنسانية والأمنية التي خلفتها سنوات النزاع في ليبيا، برزت جهود جمعية الهلال الأحمر الليبي في نشر التوعية حول أخطار الألغام ومخلفات الحروب كخط دفاع أول لحماية المواطنين، لا سيما في المناطق الملوثة.

وتحدث مسؤول قسم نزع الألغام بالهلال الأحمر الليبي، إيهاب الناجح، لـ”جسور بوست”، عن طبيعة عمل الجمعية، والتحديات التي تواجهها، والدور التوعوي الذي تقوم به فرقها منذ عام 2011.

وقال الناجح، نعمل على تقليل الخطر ونشر الوعي، ونتعاون مع المركز الليبي للأعمال المتعلقة بالألغام المنبثق عن وزارة الدفاع، مشيرًا إلى أن حملات التوعية انطلقت منذ سنوات، لكنها تعرضت لانقطاعات، وعادت بوتيرة مستمرة منذ عام 2023، مستهدفة المناطق الملوثة.

وأوضح الناجح، أن للهلال الأحمر الليبي ثلاث فرق ميدانية رئيسية في طرابلس وبنغازي ودرنة، تسعى لنشر الوعي والتواصل مع السكان، مضيفًا نعمل حاليًا على استحداث فريق في مدينة سرت، وهناك وعي نسبي لدى السكان بوجود الخطر، لكننا نواجه تحديات في آليات الإبلاغ ورفع المخلفات.

أغلب الإصابات من الرجال

وفيما يتعلق بفئة المتأثرين، أكد الناجح أن أغلب الإصابات المسجلة هي من الرجال، لكن استجابة النساء والأطفال في جلسات التوعية كانت لافتة، موضحًا أن الجلسات المخصصة للأطفال تتضمن أنشطة ترفيهية وألعابًا تعليمية تساعد على توصيل الرسائل التوعوية بشكل مبسط وفعّال.

وقال الناجح، رغم هذه الجهود، فإن الهلال الأحمر لا يقدم حتى الآن دعماً مباشراً للضحايا حيث إننا نقوم بتعبئة استبيانات وإحالة الحالات إلى المركز الليبي، الذي يتولى بدوره التنسيق مع الجهات المعنية والمنظمات الدولية والمحلية لتقديم المساعدة.

وأشار إلى أن الإبلاغ عن أي إصابة أو تلوث يتم عبر قنوات رسمية بالتنسيق مع المركز الليبي، لضمان التوثيق والتعامل مع الوضع بجدية.

والهلال الأحمر الليبي يحتفظ بشراكات قائمة مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر في مجال التوعية، إلا أن العقبات البيروقراطية ما زالت تشكل تحديًا، كما نواجه بعض الإشكالات في الحصول على الموافقات من بعض الجهات، لكننا نتمكن من تجاوزها بالتواصل والمراسلات الرسمية.

وواصل الناجح، أن من أكبر التحديات التي تواجه فرق الهلال، عدم القدرة على دخول بعض المناطق التي لم يتم مسحها، ما يشكل خطرًا على المتطوعين، كما أن عودة الأهالي إلى مناطق الاشتباكات دون إجراء تنظيف شامل يمثل تهديدًا مباشرًا لسلامتهم.

وبين أنه لا يمكن للمتطوع تقديم المساعدة في منطقة ملوثة ما لم يتم التأكد من سلامتها وخلوها من الألغام، موضحاً أن من بين أبرز احتياجات الهلال الأحمر حالياً هو تعزيز الدعم اللوجستي، وتوفير المواد التوعوية، بما في ذلك المواد البصرية، إلى جانب دعم الشراكات الدولية والمحلية.

ووجه الناجح رسالة توعية واضحة للمواطنين “لا تلمس، لا تقترب، بلّغ فورًا إذا وجدت ما يشتبه أنه من مخلفات الحرب”.

وناشد المجتمع الدولي أن يُدرج ليبيا ضمن أولوياته في برامج إزالة الألغام ودعم الجهات الفاعلة في هذا الملف الحيوي “ليبيا ملوثة، ونحن بحاجة لدعم عاجل لنشر الوعي وإزالة حقول الألغام، فالخطر ما يزال يهدد حياة الآلاف”.

جهود للحماية والتوعية

في مواجهة هذا الخطر الصامت، تواصل اللجنة الدولية للصليب الأحمر عملها في ليبيا من خلال نهج إنساني وحقوقي متكامل، يهدف إلى تقليل آثار التلوث بالأسلحة على السكان المدنيين، وبحسب ما ورد على الموقع الرسمي للجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن خبراء المنظمة يعتمدون على تقييمات دقيقة للأخطار، باستخدام منهجيات قائمة على التوعية بالأخطار والسلوك الآمن، من أجل مساعدة الأهالي على تفادي الإصابات وتعزيز قدرتهم على التكيّف.

وتعمل اللجنة على إطلاق حملات إعلامية ومجتمعية لتوعية المواطنين بأخطار الذخائر غير المنفجرة، وكيفية التعرف إليها وتجنّبها، وتسهيل تبني سلوكيات أكثر أمانًا، خاصة في المناطق التي يعتمد سكانها على الزراعة أو الرعي، دون بدائل معيشية واضحة.

وتدعم اللجنة جهود مسح وتحديد المناطق الملوثة، ووضع علامات واضحة عليها، وتشجع على إزالة المتفجرات بشكل آمن، وفي المناطق التي تعجز فيها السلطات المحلية عن التدخل، تتولى اللجنة عمليات التطهير أو توفر حلولًا مؤقتة للحد من التعرض للأخطار، إلى حين تنفيذ عمليات شاملة للتطهير.

وتسهم اللجنة أيضًا في تعزيز القدرات الوطنية من خلال تدريب وتجهيز فرق ليبية متخصصة في نزع الألغام، بالإضافة إلى تقديم الدعم الفني والتقني، بما يضمن استدامة هذه الجهود على المدى الطويل.

رعاية المصابين والدعم القانوني

تعمل اللجنة كذلك على رعاية المصابين، من خلال تدريب العاملين على إدارة الإصابات الناجمة عن الانفجارات، وتعزيز الخدمات الطبية في المناطق المهددة، كما تشارك المنظمة في تطوير الأطر القانونية والمعايير الدولية الخاصة بمكافحة الألغام، بهدف تعزيز الحماية القانونية وتقليل استخدام الأسلحة التي تتسبب في أذى غير مبرر للمدنيين.

ويظل خطر الألغام ومخلفات الحروب في ليبيا ملفًا إنسانيًا ملحًّا، يتطلب تكاتف الجهود الوطنية والدولية، والاستثمار في التوعية والتطهير وإعادة التأهيل، وبينما تواصل اللجنة الدولية للصليب الأحمر أداء دورها في هذا المجال، تبقى الحاجة قائمة إلى دعم أوسع واستجابة أسرع تضمن حياة كريمة وآمنة للمدنيين في كافة أنحاء البلاد.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية