لاجارد تحذر من تفكك النظام العالمي وتدعو لاستثمار "لحظة اليورو"

لاجارد تحذر من تفكك النظام العالمي وتدعو لاستثمار "لحظة اليورو"
رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاجارد

حذّرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاجارد، من أن النظام العالمي يمر بتحولات جذرية غير مسبوقة تهدد بتفكيك الركائز الأساسية التي قام عليها منذ عقود، في مقدمتها السوق الحرة والتعددية القطبية والدور المهيمن للدولار الأمريكي، لكنها رأت في هذا المشهد المعقد فرصة تاريخية لا تُعوّض أمام أوروبا لتعزيز سيادتها الاقتصادية ومكانة عملتها الموحدة، اليورو، على الساحة الدولية.

كتبت لاجارد في مقال رأي نشرته صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية، اليوم الأربعاء، أن التحولات الجيوسياسية والاقتصادية الراهنة، رغم خطورتها، توفر لأوروبا لحظة استراتيجية نادرة لتعزيز قدرتها على التحكم في مصيرها الاقتصادي والنقدي. 

وشبّهت ذلك بقول مأثور في اللغة الإنجليزية: "كل سحابة لها جانب مضيء"، مشيرة إلى أن أوروبا بإمكانها أن تحوّل الأزمة إلى فرصة.

ظهور قوى جديدة

أشارت لاجارد إلى أن الدور المهيمن للدولار الأمريكي لم يعد مضموناً كما كان سابقاً، وسط تنامي النزعة الحمائية والتفكير الأحادي وصراعات القوى الثنائية. 

وأوضحت أن هذه المتغيرات تؤثر سلبًا على الاقتصاد الأوروبي المرتبط بشكل عميق بالنظام التجاري العالمي، حيث يعتمد قرابة 30 مليون وظيفة أوروبية على الاستقرار في المبادلات الدولية.

لكن وسط هذه التحديات، ترى لاجارد أن الاتحاد الأوروبي يمكنه استثمار هذه اللحظة لتقوية موقعه الاقتصادي والنقدي، فاليورو يحتل حالياً المرتبة الثانية بعد الدولار كعملة احتياطية عالمية، بنسبة تقارب 20% من احتياطي العملات العالمية، مقارنة بـ53% لصالح الدولار.

وأكدت لاجارد أن تعزيز مكانة اليورو عالمياً سيعود بفوائد مباشرة على أوروبا، من بينها خفض تكاليف الاقتراض وتقليص تقلبات العملة وزيادة مناعتها أمام العقوبات الاقتصادية. لكنها حذّرت في الوقت ذاته من أن هذا الوضع لا يمكن تحقيقه تلقائيًا، بل يتطلب جهداً حثيثًا لخلق بيئة مواتية على الصعد الجيوسياسية والاقتصادية والمؤسسية.

ركائز ثلاث لليورو العالمي

1. المصداقية الجيوسياسية

شددت لاجارد على أهمية تعزيز الدور الجيوسياسي لأوروبا من خلال توسيع الاتفاقات التجارية واستثمار مكانتها كأكبر شريك تجاري عالمي، إذ تعد الشريك الأول لنحو 72 دولة وتمثل حوالي 40% من الناتج المحلي العالمي. 

كما يشكل اليورو نحو 40% من العملات المستخدمة في الفواتير التجارية على مستوى العالم، وهي فرصة يمكن للاتحاد الأوروبي البناء عليها لتعزيز نفوذه النقدي.

2. القوة الاقتصادية

اعتبرت لاجارد أن قوة أي عملة تعتمد على ثلاث سمات رئيسية: نمو اقتصادي قوي يجذب الاستثمار، أسواق رأس مال عميقة وسائلة تسمح بإبرام الصفقات الكبرى، وتوفر أصول آمنة يثق بها المستثمرون.

لكنها أقرت بأن أوروبا تواجه تحديات هيكلية في هذا الصدد، إذ لا يزال نموها منخفضاً، وأسواقها المالية مجزأة. 

ورغم أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الأوروبي (89%) أقل بكثير من مثيلتها في الولايات المتحدة (124%)، فإن حجم السندات السيادية عالية الجودة المتاحة أقل من نصف الناتج المحلي الأوروبي، مقابل أكثر من 100% في أمريكا، ما يعني ضرورة الإسراع في استكمال الاتحاد المالي وتوحيد أسواق رأس المال ودعم الصناعات الاستراتيجية، خصوصًا في التكنولوجيا والدفاع.

3. النزاهة المؤسسية

في ركيزتها الثالثة، سلطت لاجارد الضوء على أهمية الثقة المؤسساتية والقانونية، مشيرة إلى أن الاتحاد الأوروبي يُعد بيئة فريدة من حيث التوازنات القانونية، واستقلالية البنك المركزي الأوروبي، وآليات الحكم الرشيد. 

لكنها دعت في الوقت ذاته إلى إصلاحات مؤسسية داخلية، أبرزها تقليص الاعتماد على حق النقض الفردي (الفيتو) وتعزيز آليات التصويت بالأغلبية المؤهلة في الملفات الكبرى لضمان اتخاذ قرارات فعالة تمثل الإرادة الأوروبية العامة.

فرصة نادرة وتاريخية

اختتمت لاجارد مقالها بالتأكيد على أن التاريخ أظهر أن هيمنة العملات العالمية لا تدوم إلى الأبد، وأن التحولات الكبرى –وإن بدت مربكة– قد تؤسس لواقع جديد. واعتبرت أن اللحظة الراهنة تمثل فرصة "نادرة" لليورو كي يصبح لاعبًا رئيسيًا في النظام النقدي العالمي، مشددة على أن ذلك يتطلب إرادة سياسية موحدة، وتكاملًا مؤسساتيًا، ونهجًا اقتصادياً طموحاً.

وشهد النظام النقدي العالمي تحولات كبرى عبر التاريخ، بدءًا من هيمنة الجنيه الإسترليني في القرن التاسع عشر، وصولاً إلى صعود الدولار الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية بفضل اتفاقية "بريتون وودز". 

لكن منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، بدأت الدعوات تتزايد نحو تنويع سلة العملات الاحتياطية العالمية لتقليل الاعتماد على الدولار، خاصة في ظل استخدامه كسلاح اقتصادي من قبل واشنطن.

وتشهد الأسواق العالمية في الوقت الراهن مؤشرات تصاعدية لاعتماد الصين وروسيا والهند على العملات الوطنية في التبادل التجاري، وهو ما قد يعزز من أهمية خلق نظام نقدي متعدد الأقطاب، يكون لليورو فيه دور قيادي.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية