"نزيف الطرق بالعالم العربي".. حادث مأساوي بمصر يفتح ملف السلامة الجسدية

"نزيف الطرق بالعالم العربي"..  حادث مأساوي بمصر يفتح ملف السلامة الجسدية
حادث مروري - أرشيف

أعاد حادث مأساوي شهدته مصر أخيرًا، راح ضحيته 19 فتاة، فتح النقاش مجددًا حول حق الإنسان في السلامة الجسدية، في ظل استمرار نزيف الأرواح على الطرقات العربية، وتباين المؤشرات بين دول سجلت تحسنًا وأخرى لا تزال تعاني من ضعف البنية التحتية، وتقصير الجهات المختصة.

وأكد خبراء حقوقيون وقانونيون في تصريحات خاصة لـ"جسور بوست"، أن هذا الحق الأساسي غالبًا ما يُنتهك بسبب غياب الرقابة الجادة على معايير السلامة، ورداءة شبكات الطرق، وتراخي الأجهزة التنفيذية في صيانتها، مطالبين باعتباره أولوية وطنية وأمنًا قوميًا وليس مجرد قضية مرورية.

وفي واحدة من أسوأ الحوادث التي شهدها الشمال المصري أخيرًا، اصطدمت شاحنة نقل ثقيل بحافلة صغيرة تقل 19 فتاة تراوح أعمارهن بين 14 و23 عامًا، على الطريق الدائري الإقليمي في نطاق مركز أشمون بمحافظة المنوفية، خلال توجههن إلى عملهن في إحدى مزارع العنب بدلتا النيل.

وأرجعت التحريات الأولية الحادث إلى "السرعة الزائدة والتجاوز الخاطئ"، وفقًا لوسائل إعلام محلية، غير أن نتائج التحقيقات لم تظهر بعد.

وأعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في اليوم التالي، عن زيادة التعويضات المالية إلى 100 ألف جنيه لكل حالة وفاة و25 ألف جنيه لكل إصابة، إلى جانب توجيه الحكومة لمراجعة حالة الطريق وسرعة صيانته، وتكثيف الرقابة على السرعات واللافتات الإرشادية، وتعديل مسارات الطرق التي تشهد حوادث متكررة.

تحذيرات حقوقية

ورغم فداحة الحادث في مصر، فإن البيانات الرسمية تشير إلى تراجع تدريجي في وفيات الطرق، ففي مايو 2024، أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء انخفاض عدد المتوفين جراء حوادث الطرق إلى 5260 حالة في عام 2024 مقارنة بـ5861 في 2023، بنسبة تراجع بلغت 10.3%.

وكان الجهاز قد أشار أيضًا إلى انخفاض بنسبة 24.5% في عدد وفيات الحوادث عام 2023 مقارنة بعام 2022.

وفي السعودية كذلك سجلت مؤشرات إيجابية، حيث أعلنت وزارة الداخلية في نوفمبر 2024 أن الالتزام المروري أسهم في خفض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%، مؤكدة أن السلامة المرورية باتت عنصرًا أساسيًا في خطط التنمية.

وفي المقابل، ما زالت دول عربية أخرى تعاني تكرار الحوادث القاتلة، ففي أواخر أبريل الماضي، لقي 12 شخصًا مصرعهم شرقي ليبيا في تصادم مروع على طريق صحراوي متهالك يربط بين أجدابيا وطبرق، في حين قضى 12 لاجئًا سودانيًا في حادث مشابه خلال مايو جنوب ليبيا، في طريق إلى مدينة الكفرة.

وفي العراق، شهدت ناحية الإسحاقي جنوب سامراء حادث تصادم مروّعاً بين سيارتين، أودى بحياة 6 أشخاص من عائلة واحدة، بينهم أطفال، مع إصابة 5 آخرين بجروح خطِرة.

أما في المغرب، فقد اهتز الرأي العام بحادث مأساوي تعرضت له الطفلة "غيثة" (4 أعوام)، بعد أن دهستها سيارة رباعية الدفع على شاطئ سيدي رحال جنوب الدار البيضاء، خلال لهوها في عطلة صيفية، إذ كانت السيارة تجر خلفها "جيت سكي"، في غياب واضح للرقابة على الشواطئ ودخول المركبات إليها.

استراتيجية عربية للسلامة

ودعا الخبراء الذين تحدثوا لـ"جسور بوست" إلى تبني استراتيجية شاملة للسلامة على الطرق في كل دولة عربية، تتضمن تشكيل لجان وطنية لحماية حقوق ضحايا الحوادث، ومراقبة أداء الأجهزة الحكومية في مجال الوقاية، ومراجعة القوانين المرورية وتحديثها لتواكب المعايير الدولية، وإنشاء قاعدة بيانات شفافة لتوثيق الحوادث وتحليل أسبابها.

وأكد أحدهم أن "السلامة الجسدية يجب أن تُصان كأولوية إنسانية ووطنية، لا أن تُترك رهينة لردود الأفعال الموسمية عقب الكوارث".

وتتواصل حوادث السير الدامية في عدد من الدول العربية، مُخلّفة وراءها مئات القتلى وآلاف الجرحى سنويًا، ما يفتح الباب مجددًا أمام تساؤلات مُلحّة حول واقع السلامة الجسدية، وجدّية الحكومات في حماية أرواح مواطنيها.

ففي 8 يونيو الجاري، أعلنت السلطات المغربية في إقليم قلعة السراغنة مصرع 7 أشخاص في حادث سير مروّع، في حين كانت الجزائر على موعد مع حصيلة أكثر فداحة.

وفي تقرير رسمي صدر عن المندوبية الوطنية للأمن في الطرق، ونقلته وكالة الأنباء الجزائرية في يوليو 2024، سجلت 1446 وفاة و14.852 جريحًا خلال الخمسة أشهر الأولى من عام 2024، إثر 11.162 حادث مرور، ما يعكس تحديات متصاعدة في ملف السلامة المرورية.

حوادث مرتفعة بالمغرب وليبيا

في تقرير تحت عنوان "حرب الطرقات في المغرب"، أصدره المرصد الوطني للنقل الطرقي بتاريخ 15 نوفمبر 2024، كشف أن المغرب لا يزال يسجل معدلات وفيات من بين الأعلى عالميًا، رغم المبادرات الرسمية.

ونقل التقرير عن الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية أن عام 2022 شهد نحو 120.000 حادثة سير أسفرت عن 3500 وفاة، وأكثر من 120.000 إصابة، بمعدل 9.3 وفاة لكل 100 ألف نسمة، وأرجع التقرير استمرار هذه الكارثة إلى ضعف تطبيق القوانين المرورية، تدهور البنية التحتية، وغياب برامج التوعية المجتمعية المؤثرة.

وفي ديسمبر 2024، قال مدير إدارة المرور والتراخيص بوزارة الداخلية الليبية، فيصل برنوص، لوكالة "شينخوا"، إن ليبيا سجلت 2460 حالة وفاة بسبب حوادث السير في عام 2024، بمعدل 34 وفاة لكل 100 ألف شخص، لتكون ثاني أعلى نسبة على مستوى العالم، مشددًا على أن الوزارة بصدد تشديد قوانين المرور في محاولة لوقف هذا النزيف.

التعويض لا يعيد الأرواح

من جانبه، أكد المحامي البحريني محمود ربيع في تصريح صحفي، أن القانون يقر بحق التعويض المادي والمعنوي لكل من يتعرض لإصابة جسدية أو وفاة نتيجة حادث مروري.

وأوضح ربيع أن "الضرر الأدبي، مثل الحزن وفقدان العطف والرعاية، يُعد موجبًا للتعويض لأقارب المتوفى حتى الدرجة الثانية"، مشددًا على أن هذا الحق ثابت ومستقر قضائيًا في الكثير من الأنظمة القانونية.

وشدد المستشار القانوني والناشط الحقوقي الليبي موسى الغويل، وأحد أعيان قبيلة ورفلة ببني وليد، على أن حوادث الطرق في العالم العربي تهدد الحق في السلامة الجسدية للمواطنين بشكل خطِر، مشيرًا إلى أن "ليبيا، على وجه الخصوص، سجلت في السنوات الأخيرة معدلات وفاة من بين الأعلى عربياً، بسبب غياب البنية التحتية، وغياب الرقابة، وضعف منظومة الإسعاف، وتقصير التشريعات أو عدم تفعيلها".

وأضاف الغويل في تصريح لـ"جسور بوست"، أن "الحق في السلامة الجسدية منصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وهو جزء لا يتجزأ من الحق في الحياة، لكن غالباً ما يُنتهك في شوارعنا قبل أن يُنتهك في السجون".

ورأى الغويل أن التعويضات وحدها ليست كافية، بل هي مجرد استجابة متأخرة، متسائلًا: "هل ننتظر وقوع الكارثة لنُعوض؟ أم نمنعها من الأصل؟".

مقترحات لحل المعضلة

واقترح الغويل حزمة من التدابير اللازمة لحماية الحق في السلامة الجسدية على الطرق، أبرزها سن تشريعات رادعة تُلزم شركات النقل والسائقين والدولة باتخاذ تدابير السلامة القصوى، وإطلاق حملات توعية وطنية مستدامة حول قواعد المرور، وتعزيز البنية التحتية الذكية من إضاءة وإشارات ولوحات مرورية واضحة.

وأكد أيضاً ضرورة إدماج السلامة المرورية في المناهج التعليمية، وتشكيل لجان وطنية لحقوق ضحايا الحوادث ومراقبة الأداء الحكومي، وتحديث شامل للتشريعات المرورية لتتوافق مع المعايير الدولية، وإنشاء قاعدة بيانات شفافة لتوثيق وتحليل أسباب الحوادث.

واختتم الغويل تصريحه قائلًا: "نزيف الطرقات سيبقى وصمة عار في جبين السياسات العربية، ما لم يتحول الحق في السلامة الجسدية من مجرد شعار إلى واقع مصون بالتشريعات والرقابة والتنفيذ. إنقاذ حياة واحدة خير من تعويض مئة ضحية".

لقد بات من الواضح أن حوادث الطرق في الدول العربية لم تعد مجرد أرقام صادمة في تقارير دورية، بل تحولت إلى أزمة إنسانية متكررة تهدد الحق في الحياة والسلامة الجسدية، وتكشف عن ثغرات عميقة في المنظومات التشريعية، والبنية التحتية، والإرادة التنفيذية. 

ولا تكمن الحلول في ردود أفعال موسمية أو وعود بالتعويض بعد الكارثة، بل في مقاربة عربية شاملة تنطلق من اعتبار السلامة على الطرق أولوية وطنية وقضية أمن قومي، تعالج بتشريعات حازمة، وتُحمى برقابة صارمة، وتُدعَم بوعي مجتمعي متجذر.

ويقترح العديد من الخبراء والمراقبين إطلاق "الميثاق العربي للسلامة المرورية"، برعاية جامعة الدول العربية، يهدف إلى توحيد معايير السلامة والتشريعات بين الدول العربية، وإلزام كل دولة بخطة وطنية زمنية للحد من الحوادث والوفيات، وإحداث قاعدة بيانات عربية موحدة للحوادث والتحقيقات، وإطلاق برامج توعوية لتعزيز ثقافة السلامة الجسدية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية