سلاح الحرب الخفي.. كيف صنعت إسرائيل جحيم المجاعة في غزة؟
سلاح الحرب الخفي.. كيف صنعت إسرائيل جحيم المجاعة في غزة؟
بدأت سياسة الحصار على غزة عمليًا منذ عام 2007، بعد سيطرة حركة حماس على القطاع، لكن الحروب الإسرائيلية المتكررة (2008-2009، و2012، و2014، و2021) عمقت الأزمة، إذ دمرت البنية التحتية مرارًا، ولم تترك وقتًا كافيًا للتعافي.
في أكتوبر 2024، جاء العدوان الأوسع والأعنف، مرفقًا بخنق كامل للمعابر وقطع الكهرباء والماء. وهو ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش للقول في ديسمبر 2024: إن قطاع غزة يواجه خطر إبادة حقيقية، في ظل استخدام المجاعة كسلاح حرب.
لم تأتِ المجاعة التي تفتك بقطاع غزة حالياً صدفةً ولا كانت نتيجة جانبية للحرب، بل هي ثمرةٌ مريرةٌ لخطة متكاملة نسجتها إسرائيل على مدار شهور وسنوات، استهدفت الإنسان والأرض والبحر معًا، تقريرٌ أممي صدر مؤخرًا عن منظمة الفاو، ومركز القمر الصناعي التابع للأمم المتحدة، واللجنة العليا لحقوق الإنسان، إلى جانب تحقيقات لصحف مثل "الغارديان" و"سي إن إن"، يكشف كيف جرى استخدام التجويع كسلاح فتاك ضد أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين في شريط ضيق، بلا مخرج ولا ملجأ.
ومع أن المجاعة ظهرت بوجهها الأكثر قسوة خلال الحرب الأخيرة، فإن جذورها تضرب عميقًا في سياسة التجويع التدريجي، والتي حوّلت الأمن الغذائي إلى أداة ضغط تفاوضي وأسلوب عقاب جماعي، في خرقٍ سافر للقانون الدولي واتفاقيات جنيف.
تجريف الأرض.. وقتل الحياة
يقول تقرير مركز القمر الصناعي الأممي إن إسرائيل دمّرت خلال الأشهر الماضية نحو 88% من المحاصيل الزراعية في غزة بالقصف والتجريف، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ تُظهر الصور الفضائية عجز الفلسطينيين عن استغلال 77% من الأراضي الزراعية بفعل التدمير أو السيطرة العسكرية.
أما البنية التحتية الزراعية فقد تحولت إلى ركام؛ تم تدمير 70% من الآبار الزراعية و80% من البيوت البلاستيكية المكيفة التي كانت تضمن إنتاج الخضراوات والفواكه طيلة العام. ومع هذا التدمير الشامل، تقلص الإنتاج المحلي إلى أدنى مستوياته منذ عقود.
النتائج كارثية.. أسعار السلع تضاعفت أكثر من خمس مرات وفق وزارة الزراعة الفلسطينية، بينما يواجه 400 ألف طفل خطر الموت جوعًا، بحسب بيانات اليونيسف.
ثروة حيوانية مدمرة
تقول منظمة الفاو إن غزة فقدت 99% من الدواجن و90% من رؤوس الماشية نتيجة القصف ونفوق الحيوانات بسبب الجوع والعطش، وهذه الأرقام تلخص مأساة كبرى: لم يعد هناك حليب كافٍ للأطفال، ولا لحوم في الأسواق إلا بأسعار فلكية.
ودُمّرت 90% من مزارع الأبقار والدواجن، ما أدى إلى توقف شبه كامل لإنتاج البيض والحليب، وهي منتجات أساسية لبقاء الأطفال والمرضى على قيد الحياة.
تقول وزارة الزراعة الفلسطينية إن الإنتاج اليومي من الحليب انخفض بنسبة 95% مقارنة بما قبل الحرب.
صيدٌ في بحرٍ مُحاصر
لم ينجُ البحر من الحرب الإسرائيلية ضد الحياة في غزة، صيادو القطاع، الذين يشكلون شريانًا غذائيًا رئيسيًا، وجدوا أنفسهم أهدافًا مباشرة للقصف والقتل، ورصدت اللجنة العليا لحقوق الإنسان 228 حالة قتل لصيادين، واستشهاد 6000 شخص من العاملين في مجال الثروة السمكية منذ اندلاع العدوان.
الهجمات لم تستهدف الصيادين وحدهم، بل شملت تدمير الميناء الرئيسي و3 موانئ صغيرة، فضلًا عن 270 محطة صيد من أصل 300، وبفعل هذه السياسات، تقلصت الثروة السمكية المتاحة لسكان القطاع إلى 5% فقط من حجمها الأصلي.
ورغم تكدس القوافل عند المعابر، استخدمت إسرائيل ورقة المساعدات كسلاح آخر، فبحسب تقارير صحفية، تحكمت تل أبيب في هوية المنظمات المسموح لها بالدخول، وأوقفت أنشطة هيئات محايدة، مثل الأونروا، بحجة التحريض.
في أبريل 2024، قصفت إسرائيل مركزًا لتوزيع الغذاء تابعًا لفريق المطبخ الدولي، ما أسفر عن تعليق نشاطه مؤقتًا، لاحقًا، حُظرت أنشطة معظم المنظمات باستثناء هيئة غزة الإنسانية الأمريكية، المتهمة بصلات مع دوائر أمنية إسرائيلية وتورطها في قضايا فساد وسرقة مساعدات.
ونتيجة ذلك، توقفت الإمدادات المنتظمة للطحين والأرز والزيوت لأكثر من مليون لاجئ، وفق تقرير حديث للأمم المتحدة. ومع غياب الرقابة، تضاعفت السوق السوداء وأسعار الغذاء، فصار الجوع أقوى من أي سلاح.
عصابات مسلحة
اللافت أن التجويع في غزة لم يكن يمرّ فقط عبر القصف أو الحصار بل من خلال عصابات مسلحة، فقد ربطت تحقيقات إسرائيلية بين عصابة ياسر أبو شباب، النشطة في رفح وخان يونس، وأجهزة الأمن الإسرائيلية، هذه العصابة شنت هجمات منظمة على شاحنات الإغاثة منذ مايو 2024، ونهبت سلعًا أساسية مثل الدقيق والزيت، ثم أعادت بيعها بأسعار باهظة.
بحسب تحقيق لـ"الغارديان"، تضم العصابة نحو 300 مسلح، وتعمل بتنسيق ضمني مع الجيش الإسرائيلي الذي يغض الطرف عن نشاطها.. هكذا تحوّلت المعونات إلى تجارة دم وجوع.
تقرير اللجنة العليا لحقوق الإنسان وصف الأفعال الإسرائيلية بأنها تجويع متعمد للسكان المدنيين، وهي جريمة حرب وفق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وأكدت منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش أن تدمير مصادر الغذاء والمياه واستهداف الصيادين والمزارعين يهدف بشكل مباشر لتجويع المدنيين ودفعهم للاستسلام أو النزوح.
ملايين على حافة الموت
اليوم، يعيش 1.1 مليون شخص في غزة في مستوى انعدام الأمن الغذائي الكارثي، وفق برنامج الأغذية العالمي، يموت الأطفال من الجوع وسوء التغذية، بينما تفرغ الأسواق إلا من القليل بأسعار لا يطيقها سوى القلة.
ورغم تحذيرات الأمم المتحدة من أن «المجاعة تهدد وجود غزة كله»، تستمر إسرائيل في سياساتها دون رادع دولي فعال.
لم تكتفِ إسرائيل بتجريف المزارع وقتل الماشية والصيادين، بل تبنّت سياسة مُمَنهجة لضرب العمود الفقري للقطاع الغذائي المحلي، فقد تعمّد القصف الإسرائيلي تدمير مصانع الطحين، ومطاحن القمح، والمخابز المركزية، إضافة إلى مصانع الألبان وتعليب الأغذية.
ووفق تقارير للأمم المتحدة ومنظمة "أوكسفام"، تم تدمير ما يزيد على 70% من منشآت تصنيع الغذاء، ما جعل حتى الحبوب القليلة المتاحة بلا جدوى، بسبب غياب القدرة على طحنها وخبزها، وهو ما عمّق مأساة الجوع.
الحصار.. سلاح الموت البطيء
إلى جانب آلة الحرب، واصلت إسرائيل فرض حصار بري وبحري وجوي خانق منذ أكتوبر 2024، فحالت دون دخول شاحنات الغذاء والطحين والأدوية إلا بنسب ضئيلة لا تفي بمتطلبات مليونَي إنسان.
وأُغلِق معبر رفح، المنفذ الأخير، في أوقات حرجة، بينما مُنع الصيادون من الإبحار حتى في المياه الساحلية الضحلة.
نتيجة لذلك، اعتمد القطاع كليًا تقريبًا على المساعدات المحدودة، التي غالبًا تصل متأخرة أو تُحتجز في المعابر لفترات طويلة.
وبالنسبة للقطاع الزراعي والصناعات الغذائية، الوقود بمثابة روح لا غنى عنها، لكن إسرائيل منعت بشكل شبه كامل إدخال الوقود، ما شلّ عمل المخابز ومحطات تحلية المياه الضرورية للشرب والزراعة.
كما توقفت مضخات المياه عن ري المحاصيل، وتوقفت شاحنات النقل والتبريد، ففسدت آلاف الأطنان من الأغذية، ما زاد نقص الغذاء سوءًا وأدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل صاروخي.
وفرض الجيش الإسرائيلي مناطق عازلة واسعة تمتد من 500 متر إلى كيلومتر على امتداد حدود غزة، ما حرم المزارعين من الوصول إلى نحو 35% من أخصب الأراضي الزراعية في القطاع.
هذه السياسة حرمت آلاف العائلات من مصدر رزقها المباشر، وفاقمت الاعتماد على مساعدات خارجية لا تكفي لسد رمق السكان.
استهداف عمال الإغاثة
في مشهد يُظهر القسوة في أوضح صورها، قصفت إسرائيل عشرات المتطوعين وعمال الإغاثة، فلسطينيين ودوليين، أثناء قيامهم بتوزيع الطعام والمياه.
بحسب الأمم المتحدة، قُتل أكثر من 250 عامل إغاثة حتى يوليو 2025، ما أدى إلى حالة من الخوف بين العاملين الإنسانيين وتراجع قدرة المنظمات الإنسانية على إيصال المساعدات.
ودمّرت الهجمات الإسرائيلية محطة الكهرباء الوحيدة في غزة، ما أدى لانقطاع شبه دائم للكهرباء.
تسبّب ذلك في توقف تشغيل الثلاجات والمخابز ومحطات تحلية المياه، ففسدت الأغذية، واضطر السكان للاعتماد على مياه غير صالحة للشرب، ما أسهم في انتشار الأمراض وسوء التغذية.
كذلك طالت القذائف محطات ضخ المياه وآبار الري، مما زاد من تعقيد الزراعة وإنتاج الغذاء محليًا.
هدم البيوت وطرد العائلات
مع تدمير عشرات آلاف المنازل، فقدت مئات آلاف الأسر مطابخها ومخازنها ومخازن المواد التموينية، ما أدى لفقدان الطعام بشكل مباشر وصعوبة الحصول على بديل.
وأصبحت العائلات بلا مأوى، تبحث عن وجبة في اليوم تكفي أطفالها، في ظل فقدان أبسط مقومات الحياة.
وفي النهاية، لم يكن الجوع في غزة نتيجة نقص محاصيل ولا جفاف طبيعي، بل نتيجة استراتيجية عسكرية تستخدم الخبز والماء كسلاح، والنتيجة كارثة إنسانية يعيشها أكثر من مليونَي إنسان في غزة، حيث يهدّد الجوع أرواح الصغار والكبار يوميًا، وسط عجز دولي عن فرض حماية حقيقية أو وقف هذا العقاب الجماعي.