مقاصل من إسفلت.. حوادث الطرق تقتل آلاف العرب سنوياً دون حساب أو ردع
مقاصل من إسفلت.. حوادث الطرق تقتل آلاف العرب سنوياً دون حساب أو ردع
في العديد من الدول العربية، باتت الطرق مسارح مفتوحة للفقد، تتكرر فيها المأساة نفسها بأسماء وأماكن مختلفة، حتى صار الدم على الإسفلت لغة يومية صامتة، لا تكتبها أقلام الصحافة بقدر ما تنقشها أنات الأمهات وارتباك المسعفين وصمت النعوش.
في صباح يوم الجمعة الماضي، شهد الطريق الإقليمي بمحافظة المنوفية، بالقرب من قرية مؤنسة بمركز أشمون، حادثًا مأساويًّا أسفر عن مقتل 19 شخصًا من بينهم 18 فتاة تراوح أعمارهن ما بين 14 و22 عامًا، بالإضافة إلى سائق الميكروباص، وإصابة 3 آخرين.
ما وقع في الفيوم ليس سوى قطعة صغيرة من فسيفساء قاتمة كبرى، تنسحب تفاصيلها على امتداد العالم العربي، حيث تسير السيارات كأنها مقصلة متنقلة، وحيث الأرصفة لم تعد ملاذًا آمنًا، بل صارت حدودًا هشّة بين الحياة والموت.
وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية لعام 2024 إلى أن معدل الوفيات على الطرق في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بلغ 17.8 لكل 100,000 نسمة، وهو معدل يتجاوز المعدل العالمي الذي يقف عند 16.7 وفاة، هذه النسبة لا تعني فقط مزيدًا من الأرواح المهدورة، بل أيضًا مليارات الدولارات المفقودة، وأنظمة صحية مثقلة، وعائلات مكسورة إلى الأبد.
في مصر، ووفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2023، سُجلت 7,352 حادثة مرورية، أودت بحياة 2,564 شخصًا، وأصابت 9,399 آخرين، بزيادة بلغت 5.4% عن عام 2022، وكانت السرعة الزائدة والتجاوز الخاطئ وعدم الالتزام بحارات السير الأسباب الرئيسة لأغلب الوقائع، أما الخسائر الاقتصادية، فتُقدّر بنحو 4 مليارات دولار سنويًا، أي ما يعادل قرابة 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
الظاهرة لا تقتصر على مصر وحدها، ففي السعودية، ورغم الجهود الحثيثة الأخيرة، لا تزال الأرقام مفزعة، ووفق إحصاءات الهيئة العامة للإحصاء السعودية، بلغ عدد الوفيات بسبب الحوادث المرورية 5,754 في عام 2019، لكن الرقم انخفض تدريجيًا ليصل إلى 4,618 وفاة في عام 2022، ما يعكس تراجعًا نسبيًا بنسبة 19.7% خلال ثلاث سنوات بفضل برامج التوعية وتكثيف الرقابة.
وفي سلطنة عُمان، بلغ عدد الوفيات الناجمة عن حوادث الطرق 529 في عام 2022، وهو ما يُترجم إلى 28 وفاة لكل 100,000 نسمة، أي أكثر من المعدل العالمي بنسبة تفوق 60%، ومع أن السلطات أطلقت "الاستراتيجية الوطنية للسلامة المرورية"، فإن التحدي الأكبر لا يزال في فئة الشباب، التي تمثل غالبية الضحايا.
أما في العراق، فقد أسهم تدخل البنك الدولي في خفض عدد الوفيات بنسبة 81% على طريقين رئيسيين بين عامي 2013 و2022، لكن المعدلات العامة تبقى مقلقة، ووفق تقارير وزارة التخطيط العراقية، سُجلت في عام 2022 نحو 6,000 وفاة و13,000 إصابة جراء أكثر من 28,000 حادث سير، أغلبها في مناطق لا تزال تعاني من ضعف البنية التحتية وغياب الإنارة.
وفي الأردن، سجّل الأمن العام أكثر من 170,000 مخالفة مرورية في النصف الأول من عام 2023 وحده، من بينها 1,930 حادثًا جسيمًا أسفر عن 267 وفاة و2,914 إصابة، بحسب إدارة السير المركزية، وفي الجزائر، سجلت وفق بيانات المركز الوطني للوقاية والأمن عبر الطرق لعام 2023 ما يقرب من 20,115 حادثًا مروريًا، أدّت إلى وفاة 2,930 شخصًا وإصابة 27,200 آخرين.
وفي المغرب، ورغم التقدم النسبي في بعض المؤشرات، لا تزال الطرق تحصد الأرواح بشكل يومي، ففي عام 2023، بلغ عدد القتلى 3,476 شخصًا، بزيادة بلغت 4.3% عن العام الذي سبقه، حسب بيانات "الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية (نارسا)"، أما تونس، فقد سجلت في العام ذاته 5,692 حادثًا مرورياً أسفر عن 994 وفاة وأكثر من 7,000 إصابة، بحسب إحصاءات المرصد الوطني للسلامة المرورية.
خسائر اقتصادية فادحة
على الصعيد الاقتصادي، تُكلف الحوادث بعض الدول العربية ما يزيد على 3% من الناتج المحلي، ما يعادل خسارة سنوية تراوح بين 10 و20 مليار دولار في بعض الحالات، وفق تقديرات البنك الدولي.
تجارب بعض الدول أظهرت إمكانية الخروج من الدائرة المفرغة. في السعودية، أطلقت الحكومة "البرنامج الوطني للسلامة على الطرق"، ونجحت بين 2016 و2021 في تقليص الوفيات بنسبة 35%، من 28.8 إلى 18.5 وفاة لكل 100 ألف نسمة، واعتمدت في ذلك على تحديثات للبنية التحتية، ونشر كاميرات الرصد الآلي، وزيادة الحملات التوعوية، ورفع الغرامات، كما طبقت "منصة مرصد"، التي تتيح تتبع الحوادث وتحليل أسبابها بشكل تفاعلي.
وفي العراق، تدخل البنك الدولي بمشروع لتحديث الطرق، وتوفير وسائل حماية على المحاور الأكثر خطورة، فكان الانخفاض في عدد القتلى حقيقيًا وملموسًا. كما أدخل نظامًا ذكيًا للرصد الرقمي على بعض الطرق، مما خفّض المخالفات بنسبة 47% خلال عامين فقط.
رغم ذلك، لا تزال غالبية الدول العربية تسير عكس الاتجاه، وهناك ضعف في التنسيق بين الجهات المعنية، وغياب لرؤية متكاملة تُشرك التعليم، والإعلام، والنقل، والصحة، في استراتيجية موحدة.
حوادث الطرق نزيف صامت
عبّر الدكتور خالد الشافعي، رئيس مركز العاصمة للدراسات والأبحاث الاقتصادية، عن قلقه العميق إزاء التداعيات الكارثية لحوادث الطرق في الدول العربية، مشيرًا إلى أنها لم تعد مجرد وقائع عابرة أو أرقام تُدرج في تقارير دورية، بل تحولت إلى نزيف دائم يمسّ بنية المجتمع واقتصاده واستقراره النفسي والإنساني.
وأوضح الشافعي في تصريح لـ"جسور بوست"، أن المركبات التي من المفترض أن تكون وسيلة للنقل والتنقل الآمن، باتت في كثير من الحالات أدوات موت متحركة، تترك وراءها مآسي لا تُمحى بسهولة. فالخسائر النفسية والاجتماعية الناتجة عن هذه الحوادث لا تتوقف عند حد الفقد الفردي، بل تمتد لتصيب أسرًا كاملة في مقتل، وتؤثر في المجتمع بأسره. عندما تفقد عائلة أحد أبنائها في حادث مفجع، فإنها لا تخسر فقط فردًا عزيزًا، بل تفقد استقرارها وسكينتها، وتدخل في دوامة من الألم والمعاناة قد تستمر سنوات.
وأشار إلى أن الشباب هم الفئة الأكثر تضررًا من هذه الحوادث، موضحًا أن أكثر من 60% من الضحايا هم من فئة الشباب، وهم في الحقيقة وقود التنمية ومحرك النمو في أي دولة. وعندما يُفقد هذا المورد البشري الحيوي، يتراجع الأداء الاقتصادي، وتنخفض مستويات الإنتاجية، وتتأثر سوق العمل سلبًا، ما ينعكس على الناتج المحلي الإجمالي في صورة خسائر مباشرة وغير مباشرة.
وتساءل الشافعي عن تكلفة هذا الإهمال، مؤكدًا أن الإهمال في البنية التحتية، وفي معايير السلامة المرورية، يحمل الدول العربية أعباء مالية تفوق الخيال. فحين لا تكون الطرق مؤهلة هندسيًا ولا مهيأة لاستيعاب الكثافة المرورية، تزداد معدلات الحوادث، وتترتب على ذلك نفقات ضخمة تتحملها الميزانيات العامة، من علاج المصابين، وتعويض المتضررين، إلى إصلاح الطرق وإعادة التأهيل.
وأكد أن البنية التحتية ليست ترفًا، بل هي ضرورة استراتيجية لا غنى عنها، إذ لا يمكن الحديث عن نهضة اقتصادية حقيقية أو عن توطين فعلي للصناعات، دون وجود شبكة طرق قوية وآمنة وقادرة على الاستجابة لمتطلبات النمو والاستثمار. وتابع: "حين تغيب العدالة في توزيع الخدمات، ونرى أن التركيز الحكومي ينصب فقط على المدن الكبرى والعواصم والمناطق الجديدة، فيما تُترك القرى والمراكز القديمة تُصارع الهلاك فوق طرق متهالكة".
وفي ختام تصريحه، جدّد الشافعي دعوته إلى ضرورة وجود إرادة سياسية واضحة لتبني مشروع متكامل للسلامة المرورية، لا يقتصر فقط على بناء الطرق، بل يشمل التوعية المجتمعية، وتطوير التشريعات، وتفعيل الرقابة، وتحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع الخدمات، قائلاً: "لقد آن الأوان أن نعيد النظر في تعاملنا مع الطرق، لا باعتبارها مجرد إسفلت، بل شرايين حياة، يجب أن تنبض بالأمان والعدل والكرامة لكل مواطن".
سلوك متهور وقانون غائب
من جانبه، قال الدكتور صلاح الدين فهمي، أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، إن ظاهرة حوادث الطرق في العالم العربي، لم تعد مجرد أرقام تتداولها التقارير الرسمية، بل هي انعكاس مباشر لاختلالات بنيوية وقيمية في المجتمع، تجمع بين ضعف القانون، وتردي المنظومة الاجتماعية، وتدهور الثقافة العامة المرتبطة بالسلوك المروري.
وأشار فهمي في تصريح لـ"جسور بوست"، إلى أن جزءًا جوهريًا من أزمة حوادث الطرق مرتبط بما وصفه بـ"التراخي المؤسسي في تطبيق القوانين"، وخاصة فيما يتعلق بتعاطي المخدرات بين سائقي المركبات. وأوضح أن هناك حالات موثقة لسائقين ثبت تعاطيهم لمواد مخدرة، ومع ذلك لم تتخذ بحقهم الإجراءات الرادعة، بل ظلوا يمارسون عملهم، مشددًا على أن الاكتفاء بالتحليل الدوري غير كافٍ، ما لم يصاحبه تفعيل صارم للعقوبات الفورية.
وأضاف: "المشكلة ليست فقط في إجراء تحليل لسائق كل خمس سنوات، بل في أن القانون عندما يُطبق، يُطبق انتقائيًا، ويُرفع مرة ويُخفض عشرًا، ما أفقده هيبته ومفعوله الردعي".
وأوضح أن كثيرًا من سائقي النقل والمركبات الثقيلة، يعانون من ضغوط اقتصادية واجتماعية شديدة. ورغم ما يتقاضونه من أجور قد تبدو مرتفعة نسبيًا، فإن طبيعة عملهم الشاقة، وساعات القيادة الطويلة على الطرق السريعة، وعزلتهم الدائمة، تولد لديهم شعورًا بالضيق والاغتراب، يتحول مع الوقت إلى لا مبالاة وسلوك عدواني على الطريق.
وأضاف: "ثمة مزيج بين التوتر النفسي والثقافة المرورية المنهارة، فالسائق لا يرى نفسه مجرد مستخدم للطريق، بل يعتبر نفسه صاحب السيادة عليه. يمارس سلوكًا عدوانيًا، يستخدم آلة التنبيه كأداة تهديد لا تحذير، يفرض وجوده بصوت مرتفع وبجسد مركبته، يطالب الآخرين بالابتعاد لمجرد أنه الأقوى أو الأكبر حجمًا".
وشدد الدكتور فهمي على أن معالجة أزمة الحوادث لا يمكن أن تتم من خلال مقاربات أمنية فقط، بل تتطلب تدخلًا اجتماعيًا وثقافيًا واسع النطاق، يبدأ من التعليم، ويمر بالإعلام، ويشمل إعادة تأهيل السائقين نفسيًا وسلوكيًا، مضيفا: "الأمر لم يعد يحتمل مزيدًا من التراخي. نحن لا نتحدث فقط عن خسائر اقتصادية تُقدّر بمليارات الجنيهات، بل عن أرواح تُزهق يوميًا، وأسر تُفجع في أحبّتها، وشباب يُفقد قبل أن يُثمر".
وأكد أن الحل لا بد من أن يكون شاملًا، يبدأ بتطبيق صارم للقوانين، خاصة ما يتعلق بالتحليل الدوري الفعلي والتلقائي لجميع السائقين، ومحاسبة المتعاطين دون تهاون، مع التوسع في إنشاء منظومات ذكية لرصد الأداء على الطرق، وتفعيل كاميرات مراقبة عالية الجودة، ونشر الثقافة المرورية بطريقة مبتكرة وجاذبة، خاصة في صفوف الناشئة.